حسني حنا : الدولة المدنية والدولة الدينية .. رؤية معاصرة

 
  " الدوله كمؤسسه وجدت لكى تحقق الحياه الكريمه للأفراد ، ولكى تنظّم المجتمع "
القديس أوغسطين St. Augustine
 
 
لقد تحول مفهوم الدولة فى العصر الحديث الى ( مادة فكريه ) لا اسوار لها فكر جديد يحاور مجتمعا" جديدا" محتملا" . وقد بات هذا الفكر يشكل وعيا جديدا" يميز بين الوطن والسلطان ، ويحتفل بالمواطنه ويجعل من ( الرعيه ) شأنا" من شئون الماضى ، كما يجعل من الانتماء الوطنى بديلا عن اللواذ بالمواجع الفئويه والمذهبيه والطائفيه الضيقه ، وهذا يجعل هذا المفهوم منفتحا" على المستقبل ، وبعيدا عن الصيغ السكونيه والجاهزه ، وفى منأى عن يقين مريض ، يفضى الى تهافت المعرفه ، وتفكك الوطن .
 
 
الدوله اليوم :
      الدوله هى الشعب المنظم تنظيما" سياسيا" معينا" ، يعيش على ارض معروفه ومحدده ، كأن نقول الدوله الفرنسيه . كما ينجر هذا المفهوم على الفئه الحاكمه ، فى اشكالها المختلفه من حكام وموظفين فى سائر المجالات ، التى تدير شئون البلاد .
والدوله اليوم يمفهومها الصحيح ، على نقيض الفكر التلفيقى ، الذى يقوم فى مكان ولا مكان فى آن . ونرى هذا الفكر فى جمله من العناصر المتآزره ، التى تنتج سلطه سياسيه تقيد الشعب وهى تقوده ، وتهزمه وهى تريد استنهاضه ، وتنهيه وهى تسوسه ، وتدمر محاكمته العقليه ، وهى تعلمه القراءه والكتابه .
كما أن الدوله أداة فى خدمة المجتمع المدنى ، وليس باستطاعتها تحت هذا المفهوم ، أن تحدد غايات خاصه بها .
 
 
نشأة المجتمع المدنى :
     نشأ مفهوم المجتمع المدنى لاول مره فى الفكر اليونانى القديم ، وتطور بعد ذلك بما يضمن تحقيق مصالح واستقرار المجتمع ، فتشكلت النقابات والجمعيات والانديه ، وجماعات حمايه البيئه وحقوق الانسان والطفوله ، وحقوق الاقليات وغيرها .
وتمتد جذور المجتمع المدنى فى المجتمعات العربيه الى زمن متأخر نسبيا" ، وهو القرن التاسع عشر ، الذى شهدت تأسيس الجمعيات الاهليه . وإلى بدايات القرن العشرين ، والتى شهدت نشوء النقابات العماليه والمهنيه ، والجمعيات التعاونيه والأحزاب ، وتشير الشواهد الى أن المجتمع المدنى العربى يمرّ حاليا بمرحله انتقاليه بالغه الصعوبه ، حيث المعاناة من القيود والنتائج الناجمه عن تعثر التحول الديمقراطى.
ويؤكد موقف الحكومات العربيه من مؤسسات المجتمع المدنى ، أنها لاتزال تدير تفاعلات المجتمع بعقليه احاديه، لا تحتمل التعدديه . ثم هناك ثقافه الخضوع ، التى سارت فى إطارها المؤسسات التعليميه ، والدينيه والسياسيه ، حيث تغلب الطاعه المطلقه ، التى يحتسبها الكثيرون من الفضائل .
 
الدوله المدنيه :
     يعود حلم النخبه الفكريه والسياسيه العربيه ، فى سبيل بناء الدوله المدنيه ، القائمه على المؤسسات الدستوريه ، واحترام الحريات وحقوق الانسان الى نحو قرن ونصف من الزمان ، أى منذ ان أعلن رفاعه الطهطاوى (   (1801-1873فى وصيته الفكريه ( المرشد الأمين ) قائلا : " أن العدل أساس الجمعيه التأسيسيه وجميع الفضائل ماعدا العدل متفرعه عنه " وهو يعنى بالعدل هنا ( العدل السياسى ) كما سماه معاصره خير الدين التونسى فى كتابه ( أقوم المسالك ) .
     وقد ناضلت النخبه العربيه حقبا" متعدده ، من اجل تحقيق هذا الحلم القديم ، ولكن هذا الحلم لم يتحقق الى اليوم . ولاتزال مسأله الدوله المدنيه مطروحه يحده ، وبخاصه بعد تدهور مؤسسات الدوله الحديثه ، التى بعثت غداة استقلال العديد من الاقطار العربيه فى القرن الماضى بسبب سياسات القمع Repressive  والاستبداد والفساد . وعدم تحقيق مطالب الشعوب ، والهزائم المتلاحقه . ولامناص فى هذا الصدد من الاشاره السريعه والموجزة الى الجذور .
1. أطلق الشيخ رفاعه الطهطاوى ، والعالم الأزهرى الجليل حسن العطار ( 1835-1766 ) فى مطلع القرن التاسع عشر صحيحته المدويه ، ضد الجمود على الموجود قائلا " ان بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها"
2. بعد نحو قرن من ذلك ، جاء شيخ آخر من شيوخ الاستناره ، والتجديد الدينى ، وهو الامام محمد عبده ( 1905-1848 ) ينادى بالتجديد العقلى والاصلاح الدينى ، اللذين اعتبرهما مقدمه للتحرر السياسى .
3. كان الكاتب ابراهيم متفرقه ، قد وضع كتابا" بعد رحله قام بها الى اوروبا بعنوان ( اصول الحكم فى نظام الأمم ) المطبوع فى استانبول عام (1731) هو اول محاوله اسلاميه ، لتنظير التقدم الاوروبى. وكان مما قاله عن الاوروبيين " ليس هناك قانون من جانب الله يتعلقون به دينيا فى ادارة الدولة ، انما يتعلقون فقط بقوانين وتشريعات ناجمه عن نور العقل " .
4. يقول الشيخ عى عبد الرازق ، وهو من شيوخ الأزهر الشريف فى كتابه ( الاسلام وأصول الحكم ) الصادر فى عام (1925) " أن الاسلام لم يحدد مفهوما" موحدا" قاطعا" لمسأله نظام الحكم ، والمهم أن يكون النظام عادلا ، ويؤسس لسعادة الانسان ومصالحه .
5. كان المفكرون السوريون واللبنانيون ، هم أول من نادى بالقومية العربية ، دون ربطها بالدين ، رافضين اساس الدولة العثمانية الدينى ، لانه يفصل بينهم وبين مواطنيهم .
6. يقول الكاتب والمفكر فرح أنطون ( 1922-1877 ) “    لامدنيه حقيقيه ، ولاعدل ولا مساواة ، ولا إلفه ولا حريه ، ولاعلم ولا فلسفه ، ولاتقدم فى الدخل . إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية" 
7. نقرأ فى كتاب ( يقظة العرب   ( Arab Awakeningلجورج أنطونيوس ، وهو أهم كتاب ظهر فى ثلاثينيات القرن الماضى ، أن أحد رجال النهضة العربية وهو نجيب عازورى ، قد أقترح إقامة دوله مدنية حديثة فى الهلال الخصيب ( يقظة العرب ص 131 ) 
8. خطب الكاتب والمفكر اللبنانى أمين الريحانى فى عام (1938) قائلا " العرب وجدوا قبل الاسلام وقبل المسيحية ، فعلى المسيحيين أن يدركوا ذلك ، وعلى المسلمين أن يدركوا ذلك . إن العروبة قبل كل شئ ، وفوق كل شئ "
فصل طه حسين بين العلم والدين ، ورأى أن لكل منهما حقله ومقولاته ومعاييره التى تجعله مغايرا" للآخر . والسياسة علم .
 
أين نحن الآن ؟ !
     إن إهدارقرنين من الزمان ، دون أى تقدم ، وقد زاد فجوة التخلف ، والعجز عن التطور فى عالمنا العربى . حيث بقى الفكر قابعا" يجتر نفسه ويعيد طرح قضاياه من جديد ، على أمل الخروج من المأزق الكبير ، وطوال قرنين . مازالت نفس المواضيع مطروحه على الساحة الفكرية ، لم يجد العرب لها حلا" . ومازالوا يختلفون حولها .
     ومن هذه المواضيع قيام الدوله المدنية ، وفصل الدين عن الدولة ، والحريات الاساسية للانسان والديموقراطية ، دور المرأة فى المجتمع ، والعلاقة مع الغرب ، ووضع الاقليات فى المجتمع ، وحرية الرأى والصحافة والنشر ، وغيرها الكثير .
 
ماقبل الكارثة 
     ظنت النحبة الفكرية والسياسية ، التى خاضت معارك التحرر العربى ، أن الدولة الوطنية التى ستقوم غداة الاستقلال ، سوف تحقق حلم أجيال من التنوير بين العرب ، فى بناء الدولة المدنية الحديثة ، التى تسندها قوى مجتمع حر . لكن سرعان ما خاب الامل ، وتحولت الدولة الوطنية الى دولة مملوكية قامعة ، خاصة بعد أن أمسكت بزمامها فى حالات متعددة المؤسسة العسكرية ، ونظم الحزب الشمولى الواحد ، والقوى الرجعية الدينية المتخلفة ، التى أصبحت بدورها عنصرا" من عناصر التفرقة والفتنة .
 
وهم الانتخابات العامة 
فى مجتمع يسوده الجهل والتخلف والتعصب والاستبداد ، يمكن للانتخابات العامة أن تأتى بنتائج إيجابية ، فى بعض الحالات ، ولكن يمكنها أيضا أن تؤدى الى نتائج كارثية . والحكم عليها يكون عبر نتائجها. وفى دولة دينية مثل إيران تجرى الانتخابات العامة بعد أن تحدد الحكومة من تسمح لهم بالترشح للانتخابات ، كما تحدد من تسمح لهم بالانتخابات !
 
ظاهرة الاسلام السياسى 
     منذ منتصف القرن الماضى ، قامت فى عدد من البلدان العربية ، حركات عسكرية انقلابية دعاها اصحابها ( ثورات ) قادتها طبقة هجينة أتت من قعر المجتمع ، نقلت البلاد والعباد من مرحلة التعددية السياسية إلى مرحلة الأحادية السياسية، وصار ( الزعيم ) مسئولا عن صياغة الأسئلة ، وعن الاجابة عنها . وصار الولاء للزعيم وسلطته ، مقياسا" للوطنية والمعرفة والابداع . وصار المعارض خارجا" عن القانون وجديرا بالقمع والسجن .
     وفى مفارقة مسكونه بالأسى والألم ، دشّنت تلك الحركات الانقلابية الهزيمة الرسمية الاولى للديموقراطية ، وعصر التنوير العربى . وكانت هزيمة(1967) نتيجة حتمية للاستبداد والقهر ومصادرة الحريات ، وقمع الحركات المطالبة بالاصلاح ، وتدخل العسكر فى السياسة . وقد كانت أجهزة الأمن (القمع) أهم إنجازات تلك الحركات ، ومصدر افتخارها .
     وهكذا صار منطقيا" صعود القوى الدينية بالمعنى السياسى ، ومحاولات توليد الدولة الدينية ، التى عّمقت الأزمة الايديولوجية ، التى يعيشها المجتمع العربى . ويقول البعض أن ظاهرة الاسلام السياسى ، منبعها الاساسى من خلفية ثقافية قديمه ، وإشكالية لا واعية أحيانا" ، وهى الانغلاق الثقافى ، لأنها تشكل مرتعا" خصيبا" لاشكاليات اجتماعية خطيره ، وثقافات متخلفة ، يأتى التعصب الدينى والمذهبى فى مقدمتها. لكن البعض الآخر يقول أن هذه الحركات لم تنشأ بسبب ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية تاريخية محددة ، يمكن معاينتها بسهوله ، والسعى لمعالجتها ، إنما نشأت بسبب بنيه ثقافية وبيولوجية قائمة فعلا" .
     وهكذا انطلقت قافلة الاسلام السياسى Political Islam  . وتكاثر سائقو الأظعان فيها ، وبالنسبة للملاحظ ، فأن هذا يبدو عالما" غريبا" ، تلفه هالة من الغموض . ومعزولا فى شرنقة زمنية ، مرتبطة بقيم وصراعات القرن السابع ، ومما لاشك فيه أن الربط بين السياسة والدين يشكل ظاهرة انتقالية مؤقتة ، ترافق مرحلة صعبة من مراحل تطور المجتمع فى العالم العربى . لكن هذه الظاهرة الدخيلة سوف تزول حتما" ، فى سياق التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى ، الذى تشهده منطقة الشرق الاوسط وأن طال الزمن ، الذى يبدو أنه لن يطول كثيرا" .
 
الدولة الدينية 
تعتبر المرحلة الدينية إحدى المراحل التى تمر بها الامم والشعوب عبر التاريخ ، خاصة تلك التى لعب الدين دورا" اساسيا" فى نشأتها ، وأن مشروع الدولة الدينية ، الذى يطرح نفسه اليوم كمشروع مجتمعى ، لتجاوز الازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، التى تقصف بالوطن العربى هو فى اللحظة ذاتها ايديولوجيا أزمة ، يأخذ بها البعض ، ليعبر عن احتجاجه المتعدد الوجوه .
     لقد استفادت التيارات الدينية ، وجماعات الاسلام السياسى ، من هزيمة عام 1967 الشامله ، ومن الأخطاء القاتلة التى ارتكبتها الانظمة الاستبدادية ، والاحزاب الشمولية بحق شعوبها ، كى تستعيد زمام المبادرة فى الوقوف بوجه التيار القومى العربى والعلمانى ، وتنتقل من موقع المطالب بتعزيز دور الدين فى المجتمع ، إلى طرح مشروع شامل لهيمنة رجال الدين على المجتمع والدولة .
     إن الفكر ( السياسى – الدينى ) ولد موسوما" بتناقضاته الداخلية ، وأوهامه المتعددة ، ليس آخرها قياس الحاضر بمقياس الماضى ، ورفض التعددية فى الفكر والاجتهاد ، فتضاعفت تناقضاته . وكان لموجة التعصب الدينى أن تبتلع دولا" كأفغانستان وايران والسودان والصومال ، واليوم تتولد موجه جديدة تستعد لابتلاع تونس ومصر وليبيا وغيرها .
     والدولة الدينية تميز البشر وتصنفهم تصنيفات مختلفة ، بعيده عن المنطق والاخلاق والقيم الانسانية ، مثل مؤمنين وكفار وأهل ذمة ، ومشركين وملحدين وزنادقة وغيرهم ، وهى تقيم البشر بناء عليها . كما تعتمد اسلوب القتل عند الاختلاف ، وتطبيق الحدود على المعارضين أى قطع الايدى والأرجل والأعناق ، أضافة الى الرجم حتى الموت . وقد تحدث عن ذلك صراحة ( محمود شعبان ) أحد رموز السلفية فى مصر ، الذى يشغل منصب استاذ البلاغة بجامعة الأزهر . وهو الذى افتى بقتل المعارضين للرئيس محمد مرسى فى مصر . وقد اصدر الأزهر بيانا" إثر ذلك قال فيه " أن قتل المعارضين ليفتح أبواب الفتنة وفوضى الدماء " .
     وفى مثل هذه المعايير والمقاييس التى تقدمها جماعات التطرف الدينى ، لا يوجد احترام حقيقى لحياة الانسان ، وحرية الرأى والمعتقد والاعتراف بحق الاختلاف .
     وأذا جئنا الى العقل ، فهو يفتقر فى الدولة الدينية الى أبسط مظاهر الحرية ، حيث يُبنى على مسلمات غير قابلة للنقاش ، وقد جاءت الدعوات الدينية والطائفية التى خالطت الربيع العربى ، لتؤخره وتعطله ، وتحرفه عن مساره الصحيح .
     ويتحمل قادة الغرب المسئولية المباشرة عن صعود التيارات الدينية ، حيث وقفت قلة منهم موقف المتفرج ، ولكن أغلبيتهم اندفعت بحماس كبير لمساعدتها ، بما يشبه القفزة فى الظلام ، وقدمت لها كل أشكال الدعم القاتل .
 
الدولة المدنية ضرورة حضارية 
     أن الدولة المدنية ، التى يديرها أخصائيون كُلّ فى مجاله ، قد صارت ضرورة حضارية ، لايمكن للعرب أن يصنعوا مستقبلهم خارجها . والدولة المدنية يمكنها أن تحول المجتمعات المقموعة والمظلومة ، التى يغيب عنها التفكير العقلانى والعلمى ، وتنتشر فيها الخرافة والوهم ، الى مجتمعات حره وحضارية ، يحترم فيها الانسان ، وحقوقه المشروعة .
     إن من واجب الشعوب العربية اليوم ، الدفاع عن المقولات الاساسية للمجتمع المدنى والدولة المدنية مثل الدستور والتعددية السياسية والفكرية ، واحترام العقل وحرية المرأة ودورها فى المجتمع والمساواة والعدالة الأجتماعية ، وحقوق الأنسان وسائر المؤسسات المدنية ، وإن التخلى عنها سيقود الفكر السياسى العربى فى ظل الاستبداد والتعصّب إلى السديم وانعدام الافق ، وجعله يبدو جزءا" من ماضى الأمة ، لاعلاقة فاعلة له فى حاضرها الراهن ، ويقون جبران خليل جبران :
     " أيها المراؤون توقّفوا عن الدفاع عن الله بقتل الأنسان ، ودافعوا عن الأنسان ، كى يتمكن من التعرف إلى الله "