القراءة النقدية "القصيدة وفضيلة الصمت"
1- عنوان القصيدة:" تراتيل الصمت"
اختارت الشاعرة عنوانا لقصيدتها "تراتيل الصمت".
لقد ورد العنوان مركبا إضافيا فكان الصمت مضافا الى تراتيل.
والتراتيل هي جمع ترتيل وتعني الإحسان والتجويد والصوت الجميل في قراءة القرآن.
والترتيل مأخوذ من اتساق الشيء وانتظامه على استقامة ومنه قوله تعالى بسورة المزمل(4)"أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا".
- هل أن هذا المعنى من تجويد الصوت واتساقه وانتظامه ينطبق على الصمت الذي هو انعدام وانقطاع الصوت؟
المضاف(تراتيل) والمضاف اليه (الصمت) هما معنيان على طرفي نقيض.
فلئن كان الترتيل صوتا فان الصمت هو انعدام الصوت.
- هل ان هذه التراتيل المنسوبة للقرآن تضفي قدسيتها على الصمت وتشرّع بذلك للصمت عندما يلوذ به الفرد؟
- هل ان للصمت صوتا أبلغ من الكلام؟
وفي هذا الاطار يقول نزار قباني:" أرقى أنواع عزة النفس هو الصمت في الوقت الذي ينتظر فيه الناس انفجارك بالكلام "
ويرى الحكماء ان للصمت فضائل كما يلي:
- الصمت وقت الفوز ثقة.
- الصمت وقت الغضب قوة .
- الصمت وقت الإساءة حكمة.
- الصمت وقت السخرية ترفّع.
- الصمت وقت الاستفزاز انتصار
- الصمت وقت نصيحة الناس لك أدب
- الصمت وقت الاحتياج عزة نفس .
- الصمت وقت الحزن إيمان بأن الشكوى لله وحده.
فأية فضيلة من فضائل الصمت تضيفه الشاعرة الى التراتيل؟
2- تحليل القصيدة :
استهلت الشاعرة قصيدتها بفعل في صيغة المضارع المرفوع (تتأوّه) الدال على دوام الفعل واستمراريته.
و تأوّه في معجم المعاني الجامع عربي عربي تعني أكْثَرَ من التأوّه أي التوجّع والتشكي فالتأوّه صوت ناتج عند التوجع .تقول الشاعرة:
تتأوّه ثمالة الوجد ترفل بتيه الذات.
فلماذا تتأوّ وتتوجّع ثمالة الوجد؟
يقول محمد سامي البوهي في رواية الفارض:
واشربْ من كأس العشق// وزدْ منه حتى ثمالة الوجد
وتتناص ثمالة الوجد مع قصيدة ثمالة الوجد للشاعر ابراهيم الأسود في مدح الرسول المصطفى والتي مطلعها:
ثمالة الوجد من أيام ذي سلم// أعْيت على البوْح لما أدمنت ألمي
والثمالة هي بقية الشيء في أسفل الاناء.
والوجد في الحب هو الحب الشديد الذي يجعل الحبيب لا يستطيع التوقف عن التفكير في من يحبّ.
ان الشاعرة شخّصت الوجد فجعلته يتوجع كالشخص الذي يتألم والوجد يتألم لانه لم يبق من الوجد الا الثمالة التي تنذر باندثاره .
والشاعرة بنبرة ساخرة جعلت هذه البقايا القليلة من الوجد تتظاهر بالبهاء (ترفل) بذات تائهة فتقول:
تتأوّه ثمالة الوجد ترفل بتيه الذات.
ان الشاعرة تواجه مشكلتين:
- مشكلة الوجد الذي هو في حالة احتضار وفي طريق الاندثار اذ لم يبق من الوجد الا الثمالة.
- مشكلة تيه الذات الذي تواجهه ثمالة الوجد.
وبالتالي:
- هل هذه الثمالة من الوجد قادرة على المقاومة؟
- هل هذه الذات التائهة التي فقدت بوصلتها قادرة ان تحافظ على ما تبقى من الوجد؟
- هل هذه الذات التائهة قادرة على انتشال ما تبقى لها من وجد؟
وتعمد هذه الذات التائهة دون اعتبار للمسافات الى تجميع بقايا الوجد المتشظية
لكي لا تقطع الصلة والتواصل مع الآخر فتواجه مشكلة القيل والقال والكذب والحكايات الزائفة فتقول:
في غفوة المسافات
تجمع بقاياه المتشظية
في زمن التقوّل والحكايات
ان هذه الذات التائهة بما لديها من بقايا الوجد تسعى الى تجميعها لتجعل من ضعف هذه الشظايا قوة لكن الواقع المرير يحول دون ذلك بل يجعل سعيها ضد التيار فشظايا الوجد لا تستطيع مقاومة واقع منافق ومزيف وكاذب وبذلك تذهب جهودها سدى فتقول:
في زمن التقول والحكايات
تفلت. ..و ربما تتفتت
بين أصابع الزمن الهرم.
ان الشاعرة تجد مشكلة أينما توجهت فما تبقّى لها من وجْد قد يتفتت ويضمحل بين أصابع من الزمن الهرم .
انها كنّتْ عن الناس بالأصابع لتجعل للأصابع الدور في تفتيت بقايا الوجْد
وكنّتْ عن عدم اهتمام الناس واكتراثهم بمشاعرها بالزمن الهرم تماما كما الشيخ الهرم الذي لا يبالي بما حوله ولا يرى الا مصلحته الضيقة.
ان بقايا وجدها لم تجد قلوبا مفتوحة لتتقبل مشاعرها.
ان الشاعرة ضربت المثل بالوجد لتخاطب وجدان الآخر لعلها تحرّك مشاعره لكنها لم تفلح في إثارته وتحريك إحساسه في زمن التفاهة والنفاق والمصالح.
في هذ الواقع الأليم قد تلوذ الشاعرة بالصمت رغم أنه مفروض عليها.
فأي نوع من أنواع الصمت قد تختاره وتلوذ به ؟
هل هو صمت الحكمة أم صمت القوّة أم صمت الحزن باعتبارها حزينة لانها لم تجد من يفتح لها قلبه ايمانا منها بان الشكوى لله وحده الذي يسمعها ولعل هذا ما يشرّع اختيارها للعنوان "تراتيل الصمت".
انها جعلت للصمت صوتا باعتبار ان الصمت أبلغ من الكلام وقد يعبّر الصمت بما لم يستطع ان يبلّغه الكلام.
لعلها جعلت صمتها في علاقة مع الله بما انها فشلت في كلامها مع الآخر.
بيد ان الصمت مهما كان نوعه أوسببه أو فضيلته فهو من علامات العزلة .
والعزلة تقطع الصلة والتواصل ويصبح الحديث عن غربة الذات فقد يشوب الصمت شيء من الضعف والسلبية.
وفي هذا الاطار قد تكون العزلة اختيارا وخيارا حين لا يجد المرء سبيلا للجماعة
وحين يكون الآخر هو الجحيم والأذى وبذلك يستعيد الصمت قدسيته التي أضفتها الشاعرة على الصمت بالعنوان.
ان ايجابية الصمت يدعمها علم النفس وهنا قد يستحضر القارئ ما قيل عن الصمت في علم النفس:
"من منظور نفسي, يساعد الصمت على تيسير التأمل الداخلي, وهي العملية التي تساعد في اكتشاف الذات وتنمية الوعي الذاتي, يمكن لفترات الصمت ان توفّر الفرصة للتفكير في تجارب المرء وأفكاره ومشاعره مما يعزّز الفهم العاطفي والوضوح المعرفي."(1).
ان قوة الصمت التي أضفتها الشاعرة حين جعلت للصمت تراتيل يدعمها الأديب المصري نجيب محفوظ بقوله:
"هناك كلام لا يقول شيءا وهناك صمت يقول كلّ شيء .أخيرا الصمت نعمة لا يتقنها الا العقلاء ويمارسها الحكماء...فالصمت دليل قوة لا ضعف".
وقد يكون الصمت أبلغ من الكلام حين ينتفي الكلام على الكلام وهذ يدعمه الحديث النبوي الشريف:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرا أو ليصْمُتْ"
ولعل الامام الشافعي يُبْرِئ نفس الشاعرة التي عانت من زمن التقوّل والحكايات
فاختارت تراتيل الصمت بقوله:
اذا نطق السفيه فلا تُجِبْه// فخير من إجابته السكوتُ
فان كلمته فرّْجت عنه // وان خلّيته كمدا يموتُ
وخلاصة القول فان الشاعرة تلوذ بالصمت ايمانا منها أن "هناك كلام لا يقول شيئا,, وهناك صمت يقول كل شيء" على حدّ قول وليام شكسبير.
انها بذلك تجعل للصمت صوْتا أبلغ من الكلام.
سلم قلم المبدعة الهام عيسى بهكذا طرح لقضية الصمت باعتباره فضيلة.
المرجع:
https://www.miragenews.com(1)
قوة الصمت: استكشاف تأثيره على العقل والجسد| ميراج نيوز.19/جوان 2023

