لم تكن الكتابة في حياتي نشاطًا طارئًا أو هواية عابرة، بل كانت نسيجًا متشابكًا مع ذاتي، جزءًا من تكويني الفكري والشعوري، تنمو معي كما تنمو الجذور في باطن الأرض، وتتفرع مع امتداد التجربة. لم أبحث عنها، بل وجدتُ نفسي غارقًا فيها منذ مراحل الطفولة الأولى، عندما بدأتُ أشعر بأن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل بابًا يقود إلى عوالم من الفكر والجمال والمعرفة.
كلما تعمّقتُ في عالم الكتابة وجدتُ نفسي أمام طريقين متباينين، لكلٍّ منهما منطقه الخاص: أحدهما يتطلب الدقة والانضباط، والتحليل العميق، والاستناد إلى مصادر موثوقة، وهو البحث الأكاديمي، والآخر يسمح بالتحليق الحر، ويعتمد على الإحساس، ويمنح الكاتب القدرة على التعبير بلا قيود صارمة، وهو الأدب.
كنتُ أشعر وكأنني أسير على خيط مشدود بينهما، وكأن كل خطوة تتطلب توازنًا دقيقًا، وإلا وجدتُ نفسي منحازًا إلى أحد الاتجاهين على حساب الآخر. لم يكن من السهل وقتئذٍ إيجاد هذا التوازن، فقد كنتُ كلما أوغلتُ في البحث الأكاديمي خاصة في إعداد رسالتي "الماجستير والدكتوراة" شعرتُ وكأنني أُمارس جهادًا ضد تلك الروح التي تُحبُّ الانطلاق بلا قيود، وكلما اندفعتُ في الكتابة الأدبية أحسستُ أنني أحتاج إلى صرامة المنهج التي تجعل النص أكثر تماسكًا ورسوخًا.
في طفولتي، كنتُ مفتونًا بالكتب، لا لأنني كنتُ أبحث عن المتعة فقط، بل لأنني كنتُ أشعر أن كل كتاب يحمل داخله حياةً كاملة، وأن كل صفحة تُفتح هي نافذة تطل على عالم جديد مليء بكثير من المعارف. لم أكن أميز بين الأنواع الأدبية والعلمية، فقد كنتُ أقرأ كل ما يقع تحت يدي بشغف من يريد اكتشاف المجهول. كانت الكلمات تملأ رأسي، لكنها ليست حروفًا مرتبة، بل كيانات حية، تتحرك في مخيلتي، وتفتح لي أبواب التأمل والتساؤل. شيئًا فشيئًا، بدأتُ أدرك الفروق بين أنماط الكتابة المختلفة، وبدأت تتشكل في ذهني أسئلة جديدة: ما الذي يجعل بعض النصوص تقنع العقل، وأخرى تلمس القلب؟ لماذا يشعر القارئ أحيانًا بأن بعض الأفكار عميقة لكنها جافة، وأخرى عاطفية لكنها سطحية؟ كنتُ أبحث عن ذلك الخط الرفيع الذي يجعل الكتابة تجمع بين العمق والجاذبية، بين قوة الفكرة وسحر الأسلوب.
حين دخلتُ عالم البحث الأكاديمي وجدتُ نفسي أمام عالم من الدقة والانضباط، حيث لا يكفي أن تكون لديك فكرة، بل عليك أن تثبتها بالحجة، وتدعمها بالمصادر، وتربطها بسياق علمي متماسك. لم يكن البحث عرضًا للمعلومات فقط، بل كان بناءً متكاملًا، يحتاج إلى تنظيم محكم، ومنهجية واضحة، وصبر طويل في مراجعة المراجع والتأكد من صحة الاستنتاجات.
كنتُ أشعر أن هذا النمط من الكتابة يُشكل تحديًا، لأنه يتطلب انضباطًا فكريًا لا يسمح بالخروج عن القواعد الصارمة، لكنه في الوقت ذاته جعلني أقدّر قوة المنهجية، وأدرك أهمية أن يكون الكاتب قادرًا على دعم أفكاره بالحجج والبراهين.
لكنني كنتُ في الوقت ذاته أشعر أن البحث العلمي، رغم صلابته، يضع قيودًا على الكاتب، تجعله أحيانًا أسير المصطلحات والمنهجيات، بعيدًا عن الحرية التي تمنحها الكتابة الإبداعية. كان عليّ أن أتعلم كيف أجمع بين الصرامة العلمية والقدرة على إيصال الفكرة بأسلوب سلس وجذاب.
كنتُ كلما تعمقتُ في البحث، شعرتُ أنني أحتاج إلى مساحة أوسع للتعبير، ووجدتُ هذه المساحة في الكتابة الأدبية، حيث لا حدود للتخيّل، ولا قيود على الأسلوب، وحيث يمكن للكلمة أن تنساب بحرية، متجاوزة القواعد الصارمة التي تفرضها الدراسات الأكاديمية. كنتُ أشعر أنني حين أكتب الأدب، أتحرر من قيود التوثيق والمنهجية، وأسمح للغة بأن تتنفس بارتياح.
في البداية، كنتُ أرى أن هذين العالمين متضادان، وأن عليّ أن أختار بينهما، لكنني مع مرور الوقت أدركتُ أن الفصل بينهما ليس ضروريًا، بل هو عائقٌ يقيمه من لم يخض تجربة الجمع بينهما. حين بدأتُ أكتب أبحاثًا أكاديمية، وجدتُ أن الموهبة الأدبية لم تختفِ، بل ظهرت في أسلوبي، في اختيار العبارات، وفي بناء الحجج بطريقة أكثر جاذبية وتأثيرًا. لم يكن البحث مجرد عرضٍ للأفكار بطريقة جافة، بل كان يتطلب بناءً محكمًا، ولغةً واضحة، وقوةً في الإقناع، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون حسٍّ أدبي.
وفي المقابل، حين كنتُ أكتب مقالات أدبية، وجدتُ أن العقلية البحثية لم تختفِ أيضًا، بل ساعدتني على بناء النصوص بشكل منطقي، وعلى تجنّب التشتت والانجراف خلف العاطفة دون سند فكري. لم يكن الأدب انسيابًا للمشاعر فقط، بل كان يحتاج إلى رؤية واضحة، كما يحتاج البحث الأكاديمي إلى لمسة من الإبداع تجعل القارئ يتفاعل مع الفكرة ولا ينفر منها.
أدركت مع مرور السنوات أن تحقيق التوازن بين هذين المجالين لا يكون بتقسيم الوقت بينهما، بل بجعلهما يكملان بعضهما البعض. حين أكتب بحثًا أحرص على أن يكون أسلوبي منطقيًا ومتماسكًا، وحين أكتب نصًا أدبيًا أحرص على أن يكون واضحًا ومؤثرًا. أصبحتُ أتنقل بين العالمين بسلاسة، دون أن أشعر أن أحدهما يطغى على الآخر أو يُلغي وجوده.
يُهذب البحث الأكاديمي الفكر، ويمنحني العمق والتحليل المنطقي، والأدب يفتح لي آفاقًا جديدة، ويجعلني أكثر قدرة على إيصال المعاني بأسلوبٍ أكثر تأثيرًا، يعلّمني البحث الصبر والدقة، ويعلّمني الأدب الحرية والإبداع، ولا ريب أن الأول يُشبه البناء الهندسي الذي يحتاج إلى دقة في الحسابات، والثاني يُشبه الرسم الذي يعتمد على الإحساس والخيال.
وحين تأملتُ رحلتي بين هذين المجالين أدركتُ أنني لم أختر بين البحث الأكاديمي والتأليف الأدبي، بل اخترت أن أجعل كلًّا منهما وسيلة لإثراء الآخر. لم يكن التوازن بينهما تنازلًا عن أحدهما، بل كان اكتشافًا لكيفية توظيف كل منهما لتعزيز الآخر.
منحني البحث العمق، ومنحني الأدب الروح، وكلما تقدمتُ في الطريق ازددتُ يقينًا بأن الكتابة لا تكون كاملة إلا حين تجمع بين العقل والقلب، بين المنهجية والموهبة، وبين الصرامة والحرية.

