( حلقة مفرغة ) قصة قصيرة بقلم سمير لوبه

( حلقة مفرغة ) قصة قصيرة بقلم سمير لوبه
( حلقة مفرغة )  قصة قصيرة  بقلم سمير لوبه
في صباحٍ تغطي فيه  الغيوم الرمادية جسد السماء ، وعلى صوت منبه يصرخ دون رحمة، استيقظت سلمى ، تدور عيناها كما رأسها في غرفة  تحمل جدرانها ندوب الزمن، يتسلل ضوء ناعس عبر نافذة متربة ، في الركن   سرير ترقد عليه الصغيرة "شذى"، تلتحف  غطاء خفيفا يفشل أن يحميها من قسوة برد لا يمنحها أملًا في الراحة، بصمت تخطو سلمى ، وبجسد مرهق وجروح لم تلتئم جراء سنوات عمل شاق لا تزال تلاحقها، في الأمسِ أنهت نوبة عملٍ أخرى في مصنع  تكدح فيه ساعاتٍ طويلة دون أن يلتفت إليها أحد، اعتادت هذا ، لا أحد هنا يهتم، الحياة تسير بغضبٍ، وهي مجبرة على السير خلفها: 
-    ما زال الوقت باكرًا يا سلمى، همست في نفسها  
 لم تعد قادرة ، ولا يمكنها الاستسلام الآن، لا يمكنها أن تدع اليأس يقيدها ؛ الصغيرة لم تكن على علمٍ بما تعيشه أمها، ما تحتاجه الصغيرة هو أن تقف على قدميها وتطمئن بأنها ستجد طعاما كل صباح، هذا هو مبتغاها في هذا العالم، وضعت سلمى قدميها الحافية على الأرض الباردة، وخرجت من الغرفة، وقفت أمام المرآة الصغيرة في المدخل، تعكس صورة اعتادت عليها ؛ وجه شاحب، وعينان غائرتان تحملان أعباء العالم: 
-       لن أستطيع الاستمرار هكذا، قالت في نفسها، ثم استدارت لتتأكد أن الصغيرة لا تسمع حديث نفسها وكلماتها المكسورة.
اعتادت سلمى على قسوة الأيام، تتحدى كل يوم الموت الذي يعبر من خلالها، فلا وقت للدموع، ولا وقت للراحة، لا وقت للشكوى،  فهي تعرف جيدًا أن أي  ضعف قد يُنهي كل شيء، فتُجبر على ترك ابنتها وحيدة أمام عواصف الحياة ، أو ربما يلجئ الجوع صغيرتها للرحيل فتتخلى هي عنها، وتتركها وحيدة بين أمواج الأيام المتلاطمة فالفقر لا يرحم ، تخرج  من المنزل البائس لتجد نفسها من  شارع إلى شوارع ضيقة أجوائها تزعج أنفها في كل مرة تأخذ نفسًا عميقًا، الناس يتسابقون وكأنهم يهربون من شيءٍ لا يفهمونه، فالجميع مثلها؛ لا يملكون ترف الشبع والفرح، وفي مكان بعيد، عند نهاية الشارع الكبير حيث الفضاء الواسع يقع المصنع ، عند المدخل يقف جمال، رجل أربعيني ينعصر قلبه كل يومٍ؛ يقاوم طوفان السنين، ضحية أخرى لزمن جائر،  اعتاد منذ ربيع عمره على ذات الروتين ، ساعات طويلة في العمل ،يعود للبيت، يأكل، ينام، يستيقظ، يذهب للعمل، وهكذا دواليك دون توقف، تدير الحياة وجهها عنه ، تسخر من ضعفه، فتحرمه  الأمل في الراحة، فلا يجرؤ على القول بأنه قد تعب ، لا يزال مُجبرًا على العودة إلى نفس الروتين القاتل، يلتقيان في المدخل الرئيس للمصنع، تدور بينهما نظرة غريبة ، لم تكن نظرة حب، ولكنها نوع من الفهم الصامت، فهم مشترك أن حياتهما قد تحولت إلى مجرد مسعى للبقاء: 
-        هل سمعت عن الحريق في القسم الرابع؟ قال جمال 
قالت سلمى بلهجة مكسورة.
-       نعم  . 
ثم صمتت؛ فالتفت حوله في حياء 
-       لكننا مضطرون للاستمرار، ما بأيدينا حيلة 
-       طبعا نستمر ، أجابت بصوتٍ منكسر
صمت جمال للحظة، لقد تعود على الاستماع لهذه العبارات المعلبة التي يرددها الجميع، ولكن عينيه أظهرت شيئًا آخر شيئًا أكثر عمقًا من مجرد مقاومة قاسية، مرت تلك اللحظة بينهما بصدق نادر ، لحظة تحدثا فيها عن أكثر ما يخشاه الناس، اللامبالاة التي تقتل الأحلام، وتشل الطموحات ، وما لبثت ساعة العمل أن بدأت، ليغرق الجميع في ذات الروتين الممل، الأجساد تتعب، العقول تفرغ، والأمل يتلاشى تدريجيًا، ولكن الجميع ما زال على قيد الحياة، لا وقت لديهم للتراجع، ولا مجال لليأس ، فالجوع، والإهمال، والألم ، سلسلة غلت بها رقابهم، وفي المساء، بعد نهاية العمل، يسير جمال بجانب سلمى على الطريق الترابي العتيق الذي يفضي إلى بيوتهما، توشحت السماء السواد ، وعيناهما تراقبان الأفق المظلم ، لا ترى سوى ظلهما مسحول على تراب الطريق.
 قالت سلمى بصوتٍ منخفض  : 
-       أتعرف يا جمال، لا أعرف إذا كان الألم سينتهي يومًا، أم أننا سنظل نركض خلف سراب .
-       إننا لا نركض، نحن نمضي فقط في الحياة 
تدخل بيتها ترسم ابتسامة واهنة، تقبل صغيرتها،  تضع الطعام،  تعطيها الدواء، يأكلان، تحاول أن تبتلع الهم الذي يلتهمها، تقبل ابنتها تغطيها تذهب للأريكة ، تطاردها كلمات جمال كالأشباح ، تتنفس بعمق، تنام لتستيقظ على ذات الروتين.