لم يكن يدور في خلدي يومَ أخرجتُ الجزء الأول من كتابي “حديث الأموات” أنني أطرق بابًا جديدًا في معترك النقد والتحليل، أو أنني أضع نفسي تحت عين الفاحصين من أهل العلم وأرباب القلم. كان الأمر بالنسبة لي أيسر من ذلك بكثير، وأقرب إلى تجربة متواضعة ألتمس بها جسّ نبض أهل الاختصاص ورصد آرائهم حول محاولة أدبية طمحتُ أن تسير على نهج أستاذي الأكبر، محمد رجب البيومي، في كتابيه “من أعلام العصر” و "النهضة الإسلامية".
بدأتُ هذه الرحلة محمولًا بشعورٍ بسيط ومجرد من التكلف: الكتابة عن الراحلين، استذكارًا لما خلفوه من أثر، وإحياءً لذكراهم في صفحات الحاضر. لم أكن أطلب أكثر من أن ينظر أهل العلم إلى هذه التجربة بعين متفحصة، فيقدموا لي من رأيهم ما يمكن أن يُضيء لي السبيل في قادم الأيام، إلا أن ما وجدتُه تجاوز كل تصوراتي، فقد استقبل القُرّاء الكتاب بشغف لم أكن أستشرفه، وتلقته الأقلام بامتنان أشعرني بأن ثمة صدى يتردد في قلوب الناس لهذا العمل المتواضع.
كان معرض القاهرة الدولي للكتاب مسرحًا لهذا التفاعل، إذ رأيتُ حماس القُرّاء وهم يلتقطون الكتاب، ويصفونه بأفضل ما قرأوا في تلك الدورة.
لم تكن كلماتهم إلا بريقًا أشعل في نفسي جذوة الاستمرار، وألقى في طريقي ومضات من ضوء تدفعني لاستكشاف دروب جديدة لم أكن أعي وجودها من قبل.
لكن القصة لم تقف عند حدود الاحتفاء الشفهي أو الإعجاب العابر؛ فقد امتدت الأقلام إلى الكتاب، تكتب عنه وتتناوله في مقالات تحليلية ونقدية، وتفتح صفحات جديدة للنقاش حوله.
وهذه الأقلام لم تكن من بقعة واحدة، بل جاءت من شتى أنحاء العالم العربي، أكاديميين وباحثين ومتخصصين في شؤون التراجم والأدب.
كل ذلك شكَّل حراكًا ثقافيًا حول الكتاب، لم يكن في البال حين بدأته، لكنه صار الآن واقعًا يُضاف إلى التجربة، ويُثريها بمعانٍ لم تكن حاضرة في ذهني لحظة الكتابة.
ومع ازدياد هذا الزخم، كان للأستاذ الشاعر والناقد محمد دحروج المبادرة بجمع أطراف هذا الحراك في عمل نقدي شامل، يحلل ويستعرض أبعاد التجربة.
إنه كتابٌ في طور الإعداد، ولكنه يبشر بقراءات معمقة لمحتوى “حديث الأموات”، ويكشف عن زوايا لم تخطر ببالي حين كنتُ أخط كلمات الجزء الأول.
هذا الكتاب ليس مجموعة من المقالات التحليلية فحسب، بل هو شهادة على تفاعل المثقفين العرب مع التجربة، ومرآة لما يمكن أن يُضيفه النقد البناء من عمق وتجديد لأي عمل أدبي.
حين تأملت هذا كله، شعرتُ أن ما بدأته كتجربة متواضعة قد صار الآن مسؤولية. مسؤولية الكتابة التي تتطلب استمرارية، ومسؤولية الحفاظ على مستوى يليق بالثقة التي أولاني إياها القُرّاء والنقاد.
إن النجاح ليس نهاية المطاف، بل هو تحدٍ جديد يفتح أمامك مسارات أكثر صعوبة، ويُلزمك بعبء التجديد والإبداع الذي يضمن أن تبقى التجربة حيّة، نابضة بالحياة، وقادرة على إضافة الجديد إلى المشهد الثقافي.
وأمام هذا كله، أجد نفسي أكثر تعلقًا بما خطته يداي، وأشد حرصًا على المضي قدمًا في هذا الدرب. فـحديث الأموات ليس كتابًا يُطوى مع الزمن، بل هو دعوة مفتوحة لاستحضار الماضي في ثوبٍ جديد، وتقديمه لأجيال الحاضر كجسرٍ يصلهم بما مضى من عظمة وإبداع.
وإنني على أعتاب الجزء الثاني والثالث من هذا العمل لا أحمل معي سوى ما اكتسبته من دروس الجزء الأول، وما ألهمني به القُرّاء والنقاد من رؤى جديدة.
لا ريب أن الطريق طويل، لكنه مليء بالإمكانات، وفيه ما يكفي من التحدي ليدفعني للاستمرار دون أن ألتفت للخلف إلا لأتعلم مما مضى، ولأُعيد رسم خطوات المستقبل بأكثر حكمة وبصيرة.