محمد سعد عبد اللطيف يكتب : أولاد حارتنا..!!

محمد سعد عبد اللطيف يكتب : أولاد حارتنا..!!
محمد سعد عبد اللطيف يكتب : أولاد حارتنا..!!
كانت الشوارع في الليل غارقا بالصمت والعتمة ولون الطين والسواد،وما يزال حتى اليوم.حتي ولو اشعلوا فيها كل الفوانيس الحديثة ،لا يستطيعون محو الذاكرة  ،قدرنا أننا ولدنا أثناء  الغروب من امهات لايحملن شهادات ميلاد ولا جوازات سفر عابرة للقارات نحن  أبناء الغيوم ،ولدنا أثناء الغروب ..،  زمن العباءات السود"
التاريخ يسكن في القاع ومن على الهامش والحافة، والمطرود من الفرح ومن السعادة ومن الحياة وليس في صالات وقاعات ومقاهي كتاب مصر المثقفين عن هموم ذاتية،في حين الحياة في مكان آخر كما لو ان هؤلاء البسطاء العظماء كانوا منفيين في وطن صار منفى وجدران منازله سجوناً.
ولدت في شارع كانوا معظمهم من الأرامل، آخر جيل  من النساء الريفيات عاشوا معركة الحياة بشرف وبطولة بلا تذمر علي الحياة جيل العباءات السود والثياب السود،جيل هو التوقيع الأخير على زمن لن يتكرر، عشنا بلا مسرات ولا تعبير عن مشاعر وعواطف.
ممنوع البوح بل مسموح الموت، صمتاً، بلا أدوات زينة ولا حقائب يد  ولا  حياة  خاصة ولاكوافير ولا روتوج نجن أبناء الصمت ،تربينا  زمن"الفرن والكانون والزير ولمبة الجاز ووابور الجاز ،عندما قرأت رواية" شارع "ميجل" للروائي{ نايبول} الحاصل على جائزة" نوبل" وقارنت شخصياته بنساء شارعنا  الأرامل، كانت المفارقة أن المسافة واسعة بين الإثنين، في شارع {ميجل} مسرات وأعياد وحفلات وجنون،وخداع واحتيال ومرح.في شارع الطبالة   تكريس مطلق للعمل والأطفال والزي الوحيد هو اللون الأسود غالباً في كل الفصول الذي يتبدل مرة واحدة في العمر  الى اللون الأبيض
في الخروج الأخير  الي مسواه الآخير  من المنزل الي القبر  ، لون الكفن.الحياة الحقيقية تسكن هذه النفوس الكبيرة، التاريخ في القاع والحواري  والذقاق ، وليس في ثرثرة الحمقي علي شبكات التواصل الاجتماعي وأنصاف  المثقفين، الأدب يسكن هنا في هذه الاحاسيس الثابتة المنسية.
منذ شهور جاء طبيب مشهور من أبناء حارتنا   الدكتور/ مدحت خفاجي/ ،وخرجنا في الليل الى الشارع للكشف علي مريض جارنا،
وقف منتصف الشارع وتأثر بعمق بتلاحم الجدران من البناء الحديث ، كما لو أنه بيت واحد، التفت وقال بتأثر:
" ستظل ذاكرتي مطلية بلون الطين منذ كنت طفلاً في هذا الشارع  حتي اليوم".
كنا نحن فتيان الشارع اولاد الغياب والخايبات والملحات قد توزعنا على انتماءات فكرية  مختلفة، لكن فكري مختلف   بسبب نداء الفقر والعدالة والمساواة  والثورة لا عن فهم عميق للأفكار،وقد أكون حالة  إستثنائية في  الشارع عندما توجهت  نحو  الكتابة وحبي للآدب، في شارعنا على اليسار واليمين ، الجارة ام محمد الخبازة تكدح طوال النهار في الفرن  البلدي من الفجر مقابل بضع ارغفة من الخبز ،الزوج غائب ولا حضور له، يقال إنه مطارد من ثأر في صعيد مصر ، والسيدة ام محمد  كلما خرجتُ في الفجر تخرج هي وأسمعها تحدث نفسها ويوماً قلت لها:
" عمة أم محمد  عن أي شيء تتحدثين بهمس بلغه لا اعرفها ..؟"
" عندما تكبر ستعرف السر". وهذا ما حدث عندما لا يجد الإنسان المثقل من يتحدث اليه، لا يجد غير نفسه.
على اليمين،سيدة  مطلقة تركها زوجها وعاش في صان الحجر شرقية    نحلة لا تكل ولا تمل مع العمل، ام ابراهيم  الزوج حاضر لكنه هامشي ويذهب لصيد السمك في الترع  حتى المساء.
كل أزواج الشارع لديهم مهن بجانب الزراعة والباقي  بلا فاعلية بين ميت ومختفي ومطرود والحي عرضة لنوبة تعذيب فورية لأن الاستقلالية الاقتصادية تترافق مع قوة الشخصية،وما دام الرجل لا يصك ولا يفك فهو مشروع في أية لحظة للطرد المهنة الحرة العمل في الفرقة الموسيقية في الحارة.،في الركن/العمه حسنة والزوج حي لكنه ميت حتى في ذاكرتها، كل ما يفعله هو الجلوس فوق عتبة الباب ومراقبة المارة،وفي المشاجرات التي تندلع لسبب او بلا سبب للاعلان عن الحضور والسلطة والنفوذ في الشارع،تقوم حسنة بخلع ملابسها  كحرب نفسية ضد العدو وبلا حياء ، ولم ير صبيان الشارع يوماً حسنة وهي ترتدي لباساً كما لو انها تستعد كل لحظة لمعركة وكان فتيان الشارع في انتظار تلك اللحظة ،كما يقول المثل:
" وقحة الحي سيدة جيرانها" .
جوارها العمة فاطمة،تربي طيور  البط والاوز والدجاج   أعالت عائلة. مقابلها فوزية،لديها  عنزة ونعجة  ودجاجة ، كانت كافية للعيش بلا عوز،جارتها  سنية الخياطة  خاطت كل انواع الملابس  بصمت، كنا نحلم لو خاطت جراحنا القادمة.
الجار الاخر مثل الأخرس كادح نظيف وعندما سأله صديق بلغة الاشارة عني أجاب الأخرس علامة الخطر والابتعاد، وعندها فكرت لماذا يعيش حياة الخرس،فما حال الباقي وهم في كل الأحوال بكم في زمن لا ينفع فيه الكلام إلا لقضاء الحاجات البدائية لا للتفكير والتواصل؟.
العمه
فهيمة /جارتي في الأمام والزوج مصاب بالخرف وعندما يضيع في الشوارع يسأل عن إسم أبي المعروف في سجلات الأمن ومطاردة
الخفافيش في الليل يوم كان الخفاش حقيقياً وليس خفافيش النهار كما اليوم وحين يرى منزلنا يتذكر منزله. أم عباس جمع حطب وقراءة الرؤية الشرعية   وأحياناً الكف وبريد رسائل بين العشاق قبل زمن البريد الالكتروني وصفحات التواصل، لا تقرأ ولا تكتب استغلها البعض اثناء فترة التسول في القرية  في نقل الرسائل الغرامية على ذراعها بالقلم الحبر مثل:
" شحرورة، انتظرك اليوم  قرب تل السيدة الجحشة تحت شجرة الجميز اوعند مقام الازمازي ، لم يحلم أبناء هذا الجيل ان أبنائهم واحفادهم ،سيكتوبون عبر التواصل الاجتماعي ،سوف نتقابل امام تمثال الدوما 
او ميدان الكسندر بلاتس اومحطة  البنهوف او بحيرة الكومو او ساحة الفاتيكان او ميدان الإليزية ..؟ إن الشارع ظاهرة نادرة  وسيطرة إمومية مطلقة على رجال مهمشين أو مقصيين وعودة للمجتمع الإمومي
الشارع الموازي يسمى شارع العميان والسبب عائلة تعاني من مرض العيون، عادتنا في الوصم:
الرجل الوحيد الأعزب الساكن وحده  في الشارع هو شعبان الأعرج، جبار وسكير وفاسد وشرس،وجدتُ أرامل الشارع حول جنازته حائرات في النعي ومن العادة ان لا يتركن جنازة غريب أو وحيد بلا طقوس أو دفن،وحضرت  الندابة السيدة/فتحية الي  شارعنا، فقالت حائرة أمام النعش:
" ماذا أقول عن هذا الفاجر..؟".
في اليوم الثاني سقط زوج ام محمد الخبازة ،واثناء الجنازة كانت ابنتة تبكي وتندب فقالت ليست ساعتك يا ابي فرد احد المشيعين كانت ساعه زبون ، اصيب حلاق الحارة  بنوبة قلبية  وهو يضحك نقل بعدها للمستشفي ومات ، تاركاً زوجته وحيدة بلا أبناء،وفي أيامها الأخيرة صارت شبه عمياء  وتسكن في ركن شارع العميان مقابل خربة بلا جدران   
 كانت/ أم زهية/ المرأة الوحيدة في الحي أيام الحرب عام 1973 مع إسرائيل  التي تنام بلا قلق.
المرة الأخيرة كنت ماراً في الشارع في المساء وكانت تجلس على العتبة تضع يديها على خدها، سألتني:
" من أنت..؟" 
أجبتها فقالت وهي تتوكأ على ركبتيها:
" محمد ؟ اشعل اللمبة الجاز المصباح إنطفأت"نظرت الي وجهها ،كان مثل 
غروب غسقي يطل من خلال العينين الغائمتين، أم زهية  سعيدة في زمن الحرب، لا قلق ولا إنتظار ومحسودة نساء شارع الأرامل.
قلت:
" ساشعل لك الليل لو إنطفأ المصباح"
"كانت فقط تريد أن تتكلم من أعماق وحدتها،نسيت لحظات أن أبدل لها المصباح من فرط التفكير بالحرب وعزلتها الباردة:
كان الشارع في الليل غارقاً بالصمت والعتمة ولون الطين والسواد،وما يزال حتى اليوم.بعدالعواصف التي ضربت قريتنا وراح ضحيتها اكثر من إعصار  لوس انجلوس .في الارواح من جراء حوادث الدراجات النارية ، لذلك سيكون الحنين للماضي في زمن الرأسمالية المتوحشة،،    
 
 
*  محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسبة