"الكتاب المقدس هو تاج الكُتب ، والموعظة على الجيل هي دُرّة هذا التاج"
مهاتما غاندي
إن إشكالية تحريف الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ما زالت تثير جدلاً واسعاً على مستويات كثيرة . وهذه الاشكالية توسعت وصارت لها أشكال . وهذا ما استدعى البحث فيها ، وبيان الأدلة على بطلانها ، لاسيما أنها باتت تشكل خطراً مع تمدد الأفكار والجماعات المتطرفة في عالمنا المعاصر وبما أن كل موضوع قابل للدراسة والنقد ، فقد آثرنا في هذه المقالة السعي لبيان الحقيقة
من هم العبرانيون
العبرانيون هم الشعب السامي الرابع ، الذي سكن سوريا، بعد الأموريين والآراميين والكتفانيين. وقد اتبع العبرانيون في مراحل حياتهم الأولى النموذج الحضاري للشرق الأدنى الذي كان يمثله الكنعانيين سكان الساحل السوري، وقد أخذ العبرانيون عنهم لغتهم وابجديتهم . واللغة العبرانية هي لهجه كنعانية ، أطلقت عليها التوراة اسم ( شفة كنعان ) . والكنعانيون هم من علم العبرانيين الزراعة ، بعد ان کانوا في مرحلة البداوة والرعي.
لمحة عن التوراة
لم يصلنا مؤلف يشبه العهد القديم (التوراة) في اهميته في العصور التي سبقت المسيحية ، والتوراة هي أكثر من مؤلف ديني ، إنها صرح حضارة بأكملها ، كما قال المؤرخ ( د. فيليب حتّي ) في کتابه ( تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ) وقد ظهرت أكثرية الأدب التوراتي بين عامي ( 750 - 550 ق.م) وهناك عدد من المعلمين فضلاً عن المؤرخين، الذين اسهموا في تأليف (التوراة) خلال عهود متلاحقة. وقد اصبحت اللغة الآرامية ( السورية ) بعد العبرية. التي يوجد فيها الفكر الديني عند العبرانيين وسيلة للتعبير.
ويتألف كتاب (التوراة) من عدة أسفار منها (كتب موسى الخمسة). وهي من أقدم المؤلفات في التاريخ، وهي تحتوي على الوصايا العشر، ويمكن أن تعد أقدم الكتب المدونة في التاريخ كله ...
ومن أهم أنبياء العبرانيين (عاموس Amos ) وهو أول رجل في تاريخ الفكر ، أدرك وحده الله وصفته العالمية ، وقد أعلنت رسالته حوالي عام (750 ق.م ) .
أما ( أشعياء ishaia ) فقد بدأت نبوته نحو عام (738 ق.م) .و قد رأى بعين إيمانه حكم السلام العام، تحت رئاسة (ملك السلام) اي (يسوع المسيح) فتعم سلطه العالم، ويصنع الناس سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل.
ويضم صفر إرميا Jeremiah (القرن 7 ق.م) أنبل تفكير في العهد القديم، توصلت إلية البشرية في أقوال الانبياء العبرانيين إلى مستوى لم تتجاوزه الا في أقوال (السيد المسيح) وأقوال (بولس st.paul).
لمحة عن المسيحية
ولد يسوع المسيح في مدينة ( بيت لحم ) جنوبي القدس ومعناها (بیت الخبز) في زمن الامبراطور الروماني اوغسطوس Augustus في فلسطين الولاية النائية من الامبراطورية الرومانية. وقد جمع المسيح حوله الأتباع وعلم وبحر وشفى ، ثم صُلب في سبيل معتقداته .
وقد ظهر مورخ شاب من مواطنيه هو فلافيوس من يوسيفوس. Jusephus خصص كتابة لمن سماه (الرجل الحكيم) و (صانع الاعمال الخارقة ) .
ويذكر المؤرخ اللاتيني تاكيتوس Tacitus (55- 120 م) المسيح، بأنه تعرض لعقوبة الموت في عهد الامبراطور تيبريوس ، وحكم الحاكم ( بيلاطوس البنطي). ومع ذلك فإن الذين كانوا أقرب إلى المسيح في الجليل واليهودية ، و عرفوه جيدا ، أصبحوا مقتنعين بانه لم يكن شخصاً عادياً بل (ابن الله) ،
وقد اهتم بعض مريديه من تسجيل تعاليم سيدهم واعماله ، وهكذا وصلتنا الأناجيل، وهي مصدرنا الرئيس عن حياة المسيح ، وقد دام هذا الدين أكثر من أية فلسفة وعقيدة أخرى في بلاد اليونان والرومان .
والانسان لا يستطيع أن يجد في أي مكان آخر، مثل هذه الخلاصة المحكمة من الافكار النبيلة، وهذا التأكيد على المثل السامية ... كما أنه ليس باستطاعة أحد أن يكتشف في أي زمن شخصاً طبق ما علمه بمثل هذه الصورة التامة .
والمسيحية هي أكثر عن عقيدة، إنها رسالة وحياة جديدة، اساسها المحبة، محبة الله ومحبة الانسان، والمحبة الواحدة تفترض الأخرى ، والله نفسه محبة ، وبالمحبة جعل المسيحيون الانسانية عائلة واحدة تحت أبوة واحدة ، وهكذا وضعت المسيحية مثلاً عالمياً حيث ربط بين الدين والأخلاق.
الإنجيل أو العهد الجديد
كلمة ( إنجيل ) يونانية الأصل ، تعني ( البشارة) أو (الخير السار). وهو الكتاب المقدس لدى المسيحيين في جميع أنحاء العالم، يحتوي على (27) صفراً وضعت باللغة اليونانية في أواخر القرن الأول للميلاد، وهي الأناجيل الأربعة بحسب ( متى . مرقص ، لوقا ويوحنا ) بالإضافة الى سفر أعمال الرسل حيث (14) رسالة لبولس الرسول و (7) رسائل لرسل وتلاميذ آخرين، وسفر الرؤيا .
وكثيراً ما رافق العهد الجديد انتشار المسيحية في العالم، كما أنه يُعدّ مصدر اللاهوت المسيحي والأخلاق المسيحية، وقد أثرّ العهد الجديد على الحركات الفلسفية والسياسية في العالم المسيحي والغرب. وترك علامة لاتمحى على الأدب والفن.
والعهد الجديد مكتوب من قبل المسيحيين، بوحي من الروح القدس وقد جاء في الانجيل " كل الكتاب هو موحی به من الله ( تيموثاوس 2) حيث كتب لوقا إنجيله وسفر أعمال الرسل ، وكذلك كتب كل من متى ومرقص ويوحنا إنجيله.
إشكالية تحريف الكتاب المقدس.
من الواضح أن الذين يقولون بتحريف التوراة والانجيل، لايعرفون أياً من هذين الكتابين، ولم يطلعوا على أي منهما جملة وتفصيلاً. ومن المعروف أن ( التحريف ) لم يذكر في جميع المصادر العربية والأجنبية . وفي المقابل هناك عدة من الآيات في القرآن ، ، تذكر تحريف الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وقد جاء ذكر التحريف في (سورة البقرة 75) و (سورة النساء 45) و(سورة المائدة 12) والتحريف المقصود هنا ، ليس في ( الازالة والتبديل) كما يتوهم البعض، ولكن في (التفسير والتأويل ) وهذا ما سوف نستعرضه.
ماذا تقول التوراة
يقول الله في التوراة: "لا أبدل ما نطق به فمي " وقد جاء عند النبي اشعياء ( 11:35) : " هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لاترجع" وجاء في المزمور (119) :" خبات كلامك في قلبي " .
ماذا يقول الانجيل .
- يقول السيد المسيحم في الإنجيل : "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول " ( متى 35:24).
- ويقول المسيح ايضاً : " فإني أقول لكم ، إلى أن تزول الأرض والسماء، لايزول حرف واحد، أو نقطة واحدة من الناموس ، حتى يكون الكل " ( متى 18:5) .
- وجاء في رسالة بولس الرسول الثانية الى تيموثاوس ( 3 : 16) : "كل الكتاب هو موحى به من الله "
ماذا يقول القرآن :
في القرآن آیات عديدة تشهد بصحّة الكتاب المقدس منها :
- إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ( المائدة (44).
- نزل عليك الكتاب بالحق ، مصدقاً لما بين يديه ، و أنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس " (آل عمران 3) .
- " وليحكم أهل الانجيل بما انزل الله فيه " (المائد 47).
- وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلا ، لا مبدل لكلماته " ) الانعام 115) .
وجود المخطوطات
وجد علماء الآثار آلاف المخطوطات القديمة للتوراة والانجيل، وهي تطابق تماماً النسخ الموجودة بين أيدينا ، وهي موزعة اليوم في مكتبات ومتاحف العالم الكبرى ومنها (النسخة السينائية ) و (نسخة الاسكندرية) وهما الآن في المتحف البريطاني في لندن. و(النسخة الفاتيكانية) الموجودة في الفاتيكان وغيرها.
لفائف وادي قمران
هو لفائف اثرية تم اكتشافها في عدد من الكهوف شمال البحر الميت عام (1947) كانت موضوعة في جرار فخارية اسطوانية الشكل ذات غطاء، بعضها مكتوب بالعبرية وبعضها الآخر بالآرامية (لغة المسيح) وهي تضم نصوصاً دينية وصلوات وترانيم. ترجع إلى مابين القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الأول الميلادي.
"وتعد هذه اللفائف من أثمن الكنوز التي تم العثور عليها في الشرق الى الوسط ، وقد تم إعدادها للترجمة والدراسة وهي موجودة اليوم في الولايات المتحدة وبعضها في اسرائيل ، وبمقارنتها بالنصوص العبرية والمسيحية ، تبين أنها تطابقها بشكل كامل.
مقالة هامة العباس محمود العقاد
كتب العقاد في مجلة الهلال (عدد شهر كانون الاول / دیسمبر من عام (1959) المقال الافتتاحي تحت عنوان (کنوز وادي قمران )
قال فيه:
" إن هذه اللفائف الاثرية ، التي تعود الى نحو (2000) سنة. أي قبل الاسلام بأكثر من ستة قرون ، تبين بعد إعدادها للدراسة والاطلاع، أنه لا يوجد بينها وبين الكتب الموجودة بين أيدينا الآن أي اختلاف أو تبديل " ويضيف العقاد قائلاً : " كنا نتوقع أن اكتشافات وادي قمران ، تثبت تحريف الكتاب المقدس " ، ولكن إكتشافات وادي قمران، جاءت لتؤكد عدم تحريف الكتاب المقدس"...
رأي الكاتب أحمد أمين
يقول الكاتب أحمد أمين في كتابه (ضحى الاسلام ص 359) حول تحريف الكتاب المقدس ما يلي :
"التبديل في التأويل ،لا في التنزيل ، التوراة والانجيل قد طبقت شهرتهما مشارق الأرض ومغاربها ، ولا يعلم عدد نسخها الا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في كل هذه النسخ ، ويستحيله العقل، ويشهد ببطلانه.
رأي العلماء والمفسرين
- يقول الامام البيضاوي : " جاء القرآن تصديقاً لما تقدمه من الكتب الإلهية ، المشهود على صدقها ، فهو شاهد على صحتها " .
- وفي (تفسير الجلالين ) : " إنا أنزلنا الذكر، أي أن الله حفظه من التحريف والتبديل ، والزيادة والنقص " .
- جاء في (صحيح البخاري ) : يحرفون الكلم عن مواضعه أي يزيلونه ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم - يؤلونه على غير تأويلة".
- عن وهب بن منبه : " إن التوراة والانجيل ، كما انزلهما الله لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يظنون التحريف في التأويل".
استحالة التحريف بالمنطق والعقل
من السهولة بمكان القاء التهم ، لكن من الصعب إثباتها .. والحقائق لا يمكن طمسها ، وقد جاء في الانجيل "لاتخفي مدينة موضوعة على رأس جبل" ومن المفيد هنا ، طرح مجموعة من الأسئلة حول أشكالية التحريف؟!..
- من هوا المحرف ، ومتى تم التحريف ؟!..
- بأية لغة تم التحريف، و اين كان ذلك؟!..
- أين هي النسخ غير المحرفة، وقد كان عددها بالملايين عند ظهور الإسلام.
- التوراة والانجيل كلام الله بالوحي ، فكيف يسمح الله بتبديل كلامه .
- كيف يؤمن انسان بكتاب يحرفه ؟!.
- اذا قام اليهود بتحريف التوراة ، فكيف سيسكت المسيحيون أو الوثنيون والعكس صحيح.
- اليهود طوائف متعددة وكذلك المسيحيون ، فأية طائفة قامت بالتحريف، وكيف سكتت باقي الطوائف .
- هل تم التحريف قبل الاسلام ام بعده ، وهل تم تحريف التوراة والانجيل بالكامل ، أم تحريف أقسام منهما ، وما هي النصوص المحرفة و ما هو الأصل فيها؟!..
خاتمة :
إن الإختلاف في تفسير النصوص الدينية وتأويلها، وتعدد المعاني فها ، موجود في كل الديانات ، وإن عدم الاقرار بهذا الاختلاف في الماضي والحاضر ، قد ادى الى الانحراف والتطرف، وفرض الرأي الواحد ، فصادر بذلك الحقيقة ، وشرع للعنف والاستبداد باسم الدين.
إن النتائج التي وصل إليها (علم النصوص) ، جديرة بالاعجاب والتقدير. وبوسعنا اليوم أن نؤكد أن نصوص الكتاب المقدس ، بعهديه القديم والجديد ، هي نصوص صحيحة ومثبتة بشكل كامل. وإننا اليوم بحاجة إلى حوار الثقافات، و إزالة الشكوك والأوهام لا إلى الاتهامات للوصول الى عالم يسود فيه الحق والحقيقة، والحرية والمحبة والسلام، وقد قال السيد المسيح :"وتعرفون الحق والحق يحرركم".