بينما كانت أشعة الشمس تنعكس على مياه البحر الأزرق في الإسكندرية، يجلس يوسف على حافة رصيف البحر، يراقب قوارب الصيد وهي تتراقص على الأمواج، يشعر أن البحر كما يحمل عبء ذكرياته القديمة ، يحمل له وعدا جديدا ، تجاوز يوسف الأربعين وما زال يحتفظ بمسحة من الوسامة على وجه يحمل ملامح الجدية، في صوته عمق، يعبر عن نفسه بكلمات قليلة، تخفي عيناه أسرارًا عميقة ومشاعر دفينة ؛ فقد انطفأ مصباح حياته مع موت زوجته مريم، والآن، البحر شريك أحزانه في حياة يواجهها بمفرده ، اليوم، قرر أن يشتري بعض لوازم الصيد ، الشوارع تعج بالحركة؛ الناس يتبادلون الكلام، والباعة يرفعون أصواتهم في السوق ، ورائحة السمك الطازج تغلف الهواء، وعند دكان مستلزمات الصيد يلتقي يوسف بـ"سليم"،
- كيف حالك، ؟ سأل سليم بابتسامة.
- كما ترى، ، ماشي الحال ، أجاب يوسف بصوت يشبه الهمس
تحدث سليم ضاحكا عن الأيام الخوالي، ومغامرات الصيد، بينما في قلب يوسف يتسلل الحزن، وينصرف كل منهما إلى حال سبيله على وعد بلقاء في أقرب فرصة، عند البحر، يلمح يوسف امرأة ، ذات شعر أسود طويل وعينين تلمعان كالألماس كلما ألقت الشمس بأشعتها الذهبية على وجهها المشرب بالحمرة ، تجلس على رمال الشاطئ، ترسم لوحة جميلة لأمواج البحر، عمد يوسف إلى الاقتراب منها، مشدودًا إلى اللوحة التي جعلت الأمواج أكثر بهجة ، في حين تذكره الأمواج بأحزانه
- رسمك جميل ، قالها بلطف.
ليلى، - أجابت وهي ترفع رأسها وتبتسم :
- أشكرك، أحب البحر، وهو مصدر إلهامي.
دار حديث على استحياء، إذ تحدث هو عن شغفه بالصيد، وعن البحر الذي يذكره بمريم، شعرت ليلى بتعاطف تجاهه فاستمعت إليه باهتمام، طلبت ليلى منه أن ترسمه وهو يصطاد وألا يتوقف عن حديثه عن مريم أثناء رسمها اللوحة ، في تلك اللحظة شعر يوسف بانجذاب نحو مريم التي تبادله الحديث بلطف ورقة ؛ فأخذت ذكرياته مع مريم تتلاشى، بينما حديثه مع ليلى وعنها يحتل المساحة الكبرى فشعر بالذنب متسائلا بينه وبين نفسه :
- هل من الصواب أن يحب مرة أخرى؟
بدأت الرياح تعصف، وعلت الأمواج، كما لو كان البحر نفسه يحاول أن يخبره بشيء، فجمعت ليلى أدواتها واستعدت للرحيل على وعد بلقاء لاستكمال اللوحة ، في تلك الليلة ظل الفكر يروي خياله؛ فلم ينم وقرر أن يعبر لها عما يشعر به عندما يلتقيان ، وفي اللقاء الثاني استجمع شجاعته، وذهب إلى البحر قبل الموعد بساعات ، ينتظر وصولها، وظل جالسا على رصيف البحر حتى حل المساء، تأكد أنها لن تأتي، انتابه شعور بخسارة مؤلمة ؛ يتأمل أمواج البحر فيراها قد ابتلعت كل شيء جميل في حياته، لم يعد لديه شيء سوى ذكرياته عن مريم وتفكيره في ليلى، ومع مرور الوقت، سيطر شعور الوحدة عليه أكثر من أي وقت مضى، كل يوم يجلس على رصيف البحر يتأمل أمواجه متذكرًا ضحكات مريم، ورسم ليلى؛ فيجتاح الحزن قلبه، بينما كان يتأمل الموج ، رأى زجاجة تطفو على الماء ألقتها الأمواج أمامه أمسكها ليكتشف أن بداخلها ورقة؛ فتحها ليجد داخلها رسالة مكتوب فيها "دائما هناك أمل"
وبينما هو يصطاد ظلت الرسالة تدوي في رأسه فامتلأ قلبه بالأمل مجددًا، فها هي الأمواج تعيد له حياته التي ابتلعتها ، فكانت تلك بداية جديدة لعشقه مع البحر، ومع الذكريات التي لن تُنسى.