الكلمات الاخيرة التي يودع الناس بها الحياة قد تكون تلخيصاً لحياة بأكملها، كما قد تكون وسيلة للاقتراب من تلك المنطقة الغامضة، المغلفة بالأسرار، التي تباعد بين هذا العالم والعالم الآخر.
ففي تلك الكلمات نسمع غمغمة واعدة من الأمل، ونشعر بقشعريرة من الرعب. وبعض تلك الكلمات حزين، اما بعضها الآخر فصاخب بما فيه من فكاهة.
إلا ان تلك الكلمات جميعا تشترك في صفة عامة واحدة، اذ يكون لها وزن القول الفصل، سواء اجرت على لسان ملك عظيم او شخص عادي، او سمعناها من فم انسان طاهر او آخر غارق فى الخطايا.
"يا مخلصنا يسوع المسيح، تقبّل روحي". هذا ما قاله الشهيد جون رودجرز وهو يحرق بتهمة الهرطقة عام ١٥٥.
وبعد نحو ٣٠٠ سنة، كان جون هولمز، عم الطبيب والمؤلف الامريكي اوليفر ويندل هولمز، راقداً في فراش الموت، عندما مدت ممرضة يدها تحت اغطية الفراش لتتحسس قدميه. وبعدما فعلت، قالت تلك الممرضة همساً للأقارب الجالسين حول الفراش ان هولمز ما زال حياً، لانها لم تسمع ابداً عن شخص مات وظلت قدماه دافئتين. وهنا فتح هولمز عينيه وقال آخر ما عنده: "لكن جون هولمز فعلها!".
وعندما حانت ساعة الروائي الفرنسي اناتول فرانس، كانت آخر كلمة خرجت من فمه: "يا أماه!" وهو عين ما فعله راقص الباليه الروسي الأشهر نيجينسكي، إذ نادى امه، في لحظته الاخيرة، بلفظة تدليل "ماماشا!". إلا ان الموسيقار جوستاف مالر، همس بصوت خافت: "موزار!"، ثم مات.
وقد كان شكسبير، الذي قال القول الفصل في اكثر من موضوع، مدركاً للرهبة التي يشعر بها الناس تجاه الكلمات الاخيرة. ففي مسرحية "ريتشارد الثاني"، يقول دوق لانكستر، وهو يموت، لدوق يورك: "يقولون إن ألسنة المحتضرين تفرض على الناس الانتباه لها، كما يفعل اعمق تآلف للألحان.
فحين تغدو الكلمات شحيحة، يندر ان تقال بغير جدوى، لأن اولئك الذين تصعد كلماتهم من قلب الألم لا تتفوه شفاههم إلا حقاً. ومع ذلك، فإن الكلمات الأخيرة، يجب ان تؤخذ بمقدار من الحذر، لأن الذين تنسب اليهم لا سبيل إلى سؤالهم للتأكد من صحة التصريحات الختامية المنسوبة اليهم. كما ان الاحياء ربما ابدلوا ما قيل بكلام آخر، حرصاً منهم على سمعة الراحل من ان تلحقها شائبة اذا ما وقف الناس على الكلمات الأخيرة التي قالها حقاً.
أما الكلمات الاخيرة التي يتاح التيقن من صحتها فعلاً، فهي تلك التي صدرت عن المحكوم عليهم بالإعدام وهم يواجهون لحظاتهم الاخيرة. وهناك وفرة مزعجة من تلك الكلمات توقفنا على مصدر ما يسمى "فكاهات المشنقة". السير توماس مور، مثلاً، الذي حكم عليه الملك الانجليزي هنري الثامن بالإعدام، لأنه عارض بشدة طلاق الملك من زوجته ليتزوج سواها، طلب من الجلاد، لحظة الإعدام، ان يمهله برهة ريثما يزيح لحيته جانباً، قائلاً: "هذه اللحية لم تذنب في حق الملك". أما السير وولتر رالي، الذي حكمت باعدامه الملكة اليزابيث الأولى، فقد تحسس حد البلطة التى سيضرب الجلاد بها عنقه، وعلق بالآتي: "هذا دواء حاد المذاق، لكن فيه شفاء أكيداً من كل العلل". وأما وليم بالمر، الذي اعدم لأنه قتل صديقاً له بالسم، فقد تقدم الى الباب الأفقي الذي يفتح تحت قدمي المحكوم عليه لحظة شنقه، وقال: "هل انتم واثقون من أنه آمن؟". لكن الثوري الروسي ميخائيل بستوجيف ريومين، كان أقل خفة عندما انقطع الحبل عند اول محاولة لشنقه، فقال: "لا شيء يفلح أبداً في ما يخصني. فحتى هنا أمنى بخيبة الأمل".
أما ملكة فرنسا ماري انطوانيت، فكانت كلماتها الأخيرة اعتذاراً للجلاد اذ داست على اصبع قدمه: "سيدي، ارجو المعذرة!"، فأضافت بذلك معنى جديداً إلى مفهوم التعامل المهذب
بين الناس.
ولكن يبدو ان حياة القاتل نيل كريم انطفأت بأسرع مما يجب، لأنه صاح عندما انفتح باب المشنقة تحت قدميه: "أنا جاك..." ولم يتم قوله، مما اثار تساؤلات لا جواب عنها حول بقية القول: هل كان "... السفاح!" يا ترى؟ اي هل كان نيل كريم هذا هو المجرم الشهير جاك السفاح أم لا؟
ويبدو أن الفلاسفة كانوا أكثر من عانى الصعوبة في تلك اللحظات الاخيرة. فالفيلسوف هيجل اشتكى قائلاً: "إنسان واحد فقط فهمني، وحتى هو لم يفهمني!". اما بيير غاسندي، فقد عبّر عن حيرة بالغة: "ولدت لا ادري لمَ، وعشت لا ادري لمَ، وها انا اموت من دون ان ادري لماذا ولا كيف".
إلا ان المصور بيرجينو مات بغير توبة، رافضاً ان يقضي لحظاته الباقية مع كاهن. وكانت كلماته الاخيرة: "اني اشعر بفضول الى معرفة ما يمكن ان يحدث لامرىء يموت من دون ان يعترف ويحله الكاهن من خطاياه!". اما الشاعر الألماني هينريخ هايني، فقد بدا له ان ذلك لا يهم كثيراً، فمات قائلاً: "سيغفر لي الله... فتلك مهنته".
وما اكثر من تجنبوا الروحانيات، فظلوا محتمين منها بمهنهم حتى النهاية. عالم النحو دومينيك بوهور، مثلاً، اختتم حياته بهذه الكلمات الممعنة في التدقيق اللغوي: "انا مشرف على ـ أو أنا في سبيلي إلى ـ ان اموت فكلا الاثنين تعبير صالح للاستخدام". اما المحرر المالي والناشر كلارنس ووكر بارون، فكانت كلماته الأخيرة: "ما آخر الأخبار؟". وهناك الأطباء، وهم اناس يعلمون بحكم مهنتهم ما هو موشك على الحدوث. الطبيب الاسكوتلندي جورج كوهب (۱۷۸۸ - ۱۸۵۸)، مثلاً، قال: "مما ينتابني من احاسيس الآن، يمكنني القول باني احتضر - وانا مسرور لذلك".
وكانت الكلمات الاخيرة للكاتب والناقد ج.ك. تشيسترتون، تنم عن ان الرجل واجه لحظاته الاخيرة كمن يتخذ قراراً: "القضية الآن واضحة انها خيار بين الضوء والظلمة. وعلى كل ان يختار الجانب الذي ينضم اليه". وفي حال الشاعر الألماني جوته، كان الخيار لا لبس فيه. فقد مات الشاعر العظيم وهو يقول: "مزيداً من الضوء! مزيداً من الضوء!". لكن عالم النفس کارل يونج همس لابنه: "اسرع. ساعدني على النهوض من الفراش. اريد ان انظر إلى غروب الشمس". وكانت كلمات الكاتب القصصي الامريكي أو. هنري إلى من حضروا لحظاته الاخيرة، بعدما طلب اليهم ان يقووا النور في الغرفة: "لا اريد ان اذهب الى بيتي في الظلام". وعلى نقيض ذلك الكاتب، قال تيودور روزفلت: "ارجوكم ان تطفئوا النور!".
وغير أولئك جميعاً أناس ظلوا حتى اللحظة الاخيرة منشغلين بما كان عليهم من مسؤوليات. فالفيلسوف اليوناني سقراط، كان ينازع على اثر تجرعه السم عندما رفع الملاءة، التي كانت تغطي رأسه، وقال لأحد تلاميذه: "كريتو، أما زلت مديناً بثمن ديك لاسكليبيوس. هلا تذكرت ان تسدد ذلك الدين؟". لكن الجنرال وينفيلد سكوت رحل عن هذه الدنيا، وهو منشغل بمسؤولية من نوع آخر. فهو طلب من خادمه ان يحسن العناية بحصانه. وهناك من حضرتهم المنية فكان شغلهم الشاغل ان يموتوا وقوفاً، كالأسقف جون وولتون الذي جعل من حضروا موته يساعدونه على الوقوف، لأن الاساقفة يجب ان يموتوا وهم قائمون على اقادمهم". وقد فعل، كما فعل قبله الامبراطور الروماني تيتوس فلافيوس فسباسيانوس، لأن الأباطرة يجب ألا يموتوا إلا وهم وقوف، ولويس الثامن عشر، لأن الملك يجب ان يموت وهو واقف. وعلى عكس هؤلاء جميعاً، كان جيمس ماديسون، الذي ختم حياته بقوله: "اني احسن الكلام دائماً وأنا راقد".
وبدا الموت، بالنسبة إلى بعضهم، خاتمة غير متوقعة لما كانوا منهمكين فيه. اللورد بالمرستون، رجل الدولة الانكليزي (١٧٨٤ ١٨٦٥)، مثلاً، قال لطبيبه ساخطاً، عندما صارحه هذا بخطورة حاله: "أموت يا عزيزي الطبيب؟ هذا آخر شيء ازمع على فعله!".
اما الممثل دوغلاس فيربانكس فقال: "لم احس في اي وقت بأني افضل حالاً مما انا الآن". ومات بعد تلك الكلمات. وعندما اتهم جودوين، بقتل اخيه، اجاب انه بريء. ولكي يبرهن على براءته قال: "سأثبت لكم اني بريء اذ ابتلع هذه الكسرة من الخبز". غير ان الكسرة وقفت في حلقه، فاختنق ومات. وفي معركة ساسباخ عام ١٦٧٥، صاح الجنرال الفرنسي هنري فيكونت تورين: "ليس في نيتي ان اقتل اليوم!" وبعد ذلك بثوان، اصابته قذيفة مدفع بجراح مميتة.
وغالباً ما تكون الزوجات هن اللواتي يسمعن كلمات ازواجهن الاخيرة. الصحافي الامريكي و. و. ما كنتاير (١٨٨٤ـ ۱۹۳۸)، مثلاً، طلب من زوجته هذا الطلب الاخير: "هل تسمحين بأن تستديري الى هذه الناحية؟ اني احب النظر إلى وجهك!". اما الرئيس جيمس بولك، فهمس قائلاً: "احبك، يا سارة، احبك!". وتبدو كلمات نابوليون الاخيرة كما لو
كانت اشادة بسطوة امرأة واحدة. فقد تتابعت هذه الكلمات من فمه: "فرنسا... الجيش... قائد الجيش... جوزفين".
غیر ان للنساء مشاغل اخرى. فالكونتيسة فونتين - مارتل، التي كانت ممن قدموا الرعاية إلى الفيلسوف الفرنسي الساخر فولتير، شغلتها لحظة وفاتها خواطر ارضية للغاية، اذ قالت: "حمداً لله. فأياً كان الوقت، هناك في مكان ما ملتقى للعاشقين!".