لفت انتباهي مؤخرا، انشغال عدد لا بأس به من مشاهدينا بالدراما: التركية والهندية، وانصرافهم عن درامانا بشكل يثير التساؤل، وأصبح نجومها أصدقاء للمشاهد المصري، كالمسلسلات التركية مثل: السلطانة قُسم و المؤسس عثمان، كما ارتبط المشاهد المصري أيضا بالدراما الهندية منذ سبعينات القرن الماضي، الأمر الذي أعطى المسلسلات الهندية تأشيرة العودة بنجاح إلى لسوق المصرية مثل: جودا أكبر، صرخة قلب، ومنتهى العشق.
وبالرجوع إلى رأي بعض المتابعين لتلك الدراما من مختلف الأعمار والثقافات، وأيضا إلى رأى أحد النقاد الفنيين، وجدنا ان أحداثها هي الأكثر قربًا إلى عقلية وطبيعة المشاهد المصري الذي يميل إلى "الميلودراما"، كما أن هناك فئة كبيرة من المجتمع تستقطبها مثل هذه الأعمال، وتحديدًا أولئك الذين لديهم نسبة ثقافة أقل مثل ربات البيوت اللاتي يجدن في رومانسيات "الهندي والتركي" فرصة لتمضية أوقات فراغهن.
لذا فإن التقارب بين الثقافة المصرية ونظيرتها التركية والهندية يوضح أن هناك عددا من الموضوعات المشتركة مثل: قضايا الثأر، العلاقات الزوجية، ومشكلات الجيل الجديد مع القديم وغيرها، مع ملاحظة أن انصراف المشاهد المصري عن دراماه ومتابعة دراما مختلفة عن لغة بلاده، يعد بمثابة رسالة احتجاج منه، لكنه في نفس الوقت أبدى ملاحظته بأن الأعمال التركية والهندية يعيبها التطويل والتمطيط لزيادة عدد الحلقات، وهو ما أخذته عنها الدراما المصرية.
ما سبق يجعلنا نتحسر على تراجع قوتنا الناعمة التي سيطرت على المقدرات: الثقافية، والأيديولوجية للطرف المستهدف فترة طويلة، حيث كانت تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين على التغيير والتأثير على الرأى العام، دون إظهار هوية الفاعل ولا الهدف الأساسي من عملية التغير هذه، الأمر الذي ساعد على تحقيق أهداف سياستنا الخارجية بواسطة مجموعة من الأدوات التي تجمع بين: القوة الناعمة والقوة الصلبة، حيث تكمن أهمية هذه الأدوات في كونها عاملًا مؤثرًا في مسار السياسة الخارجية، ومحددًا هامًا لمعالمها.
إضافة الى صناعة السينما في مصر، والتي يدأت في ثلاثينيات القرن العشرين، وبدورها أنتجت ثلاثة أرباع الأفلام العربية القصيرة والطويلة، وعلى الجانب الأخر؛ استضافت مصر العديد من المهرجانات العالمية بالإضافة إلى الشهرة التي اكتسبتها الدراما المصرية، وعروض الأوبرا، والموسيقى،. ويعتبر الروائي "نجيب محفوظ" هو الكاتب العربي الوحيد الحاصل على جائزة "نوبل" في الأدب، كما لعبت اللهجة المصرية بصفة خاصة واللغة العربية بصفة عامة دورًا كبيرًا في تقريب شعوب المنطقة العربية من خلال الصحف والمجلات والأفلام السينمائية التي كانت تهدف إلى توحيد الشعوب العربية ضد القوى الاستعمارية.
وفي إطار مساهمة الدولة المصرية في التحول في استخدام القوة الصلبة إلى القوة الناعمة؛ لعبت الدولة المصرية دورًا حاسمًا في الحفاظ على السلم والأمن الدولي، فقد ساهمت في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ 1960 في الكونغو ومنذ ذلك الحين ساهمت مصر في 37 بعثة للأمم المتحدة، مع أكثر من 30.000 من قوات حفظ السلام المنتشرة في 24 دولة في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، كما توفر أكثر من 2000 فرد من رجال الجيش والشرطة يخدمون تحت راية الأمم المتحدة في بعثات السلام، فيما تتخذ مصر موقفًا جادًا من التأكيد على المشاركة في عمليات حفظ السلام مع رفضها لاستخدام القوة غير المبررة في عمليات حفظ السلام لأنها تؤدي إلى طمس الهدف الحقيقي منها وتهدد شفافية العنصر العسكري للبعثة.
نضف كل ذلك نوع آخر من القوة الناعمة، والتي أشار إليها الخبير الأثري الصديق د. حسين عبد البصير، وهي الآثار المصرية كواحدة من أهم مصادر قوتنا الناعمة، والتي تمتد تأثيراتها إلى مختلف أنحاء العالم، حيث تساهم في تعزيز الصورة الإيجابية لمصر وحضارتها القديمة وتجذب الآثار ملايين السياح سنويًا، ما يساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني بشكل كبير. تبرز أهرامات الجيزة ومعابد الكرنك و"أبو سمبل" كأيقونات عالمية تجذب الأنظار.
كما تدعم الآثار المصرية - في حالة الاهتمام بها، ومعرفة أهميتها وقوة تأثرها الحضاري والثقافي على عكس ما نراه اليوم للأسف الشديد - الجهود الدبلوماسية؛ إذ تلعب دورًا محوريًا في تحسين العلاقات مع الدول الكبرى التي تهتم بالتعاون الثقافي وتستخدم مصر الآثار كأداة لتعزيز الحوار والتواصل مع مختلف الثقافات والشعوب وتحفز هذه الجهود المشروعات الثقافية المشتركة وتبادل الخبرات الأثرية، كما تحقق الآثار المصرية تأثيرًا كبيرًا في مجال الإعلام؛ إذ تسهم في إنتاج أفلام وثائقية وبرامج تلفزيونية تركز على الحضارة المصرية وتساهم هذه البرامج في نشر الوعي الثقافي والتاريخي بين الشعوب.
كما تعمل القنوات الفضائية على عرض الوثائقيات التي تحكي قصة مصر القديمة، ما يعزز الاهتمام بالحضارة المصرية، وتستمر الآثار المصرية في تعزيز مكانتنا كقوة ناعمة؛ إذ تجذب الانتباه والإعجاب من مختلف أنحاء العالم. تعكس هذه الآثار تاريخًا من الإبداع والتقدم الحضاري الذي يلهم الإنسانية إلى اليوم. تساهم الجهود المستمرة للحفاظ على هذا التراث في الحفاظ على مكانة مصر على الساحة العالمية.
لكل ذلك وغيره، يجب دراسة ظاهرة تراجع قوتنا الناعمة، والعمل على النهوض بها كأحد العوامل القوية لاستعادة قوة اقتصادا، وعودة دورنا الريادى في المحيطين: الإقليمي والعالمي، ذلك أن معظم تلك القراءات ذهبت إلى وجود خطة خبيثة لمحاربة قوتنا الناعمة، ومحاولة القضاء عليها، فذهب البعض للتأكيد بأن هناك اجتماعات سرية، عقدها الموزعون الخليجيون للرد العملى على قرارات نقيب الممثلين أشرف زكى، التى أثارت استياء واسعاً فى مصر والعالم العربى منذ عدة أشهر، ومن قبلها ما أثاره بعض الفنانين المصريين، حول رفضهم للتعاون الدرامي المصرى - السورى، وهو التعاون الذى دفع بوجوه سورية موهوبة لمنافسة المصريين.
الأدهى أنه تم الجزم بأن هذه الاجتماعات كان هدفها الوحيد، هو ضرب صناعة الدراما المصرية فى مقتل، عن طريق تحجيم كمها المعروض فى القنوات الفضائية الخليجية، وبعيداً عن السؤال البديهى الذى يطرحه هذا التصور: "كيف عرف هؤلاء بفحوى هذه الاجتماعات، طالماً أنها سرية وتمثل مؤامرة ما؟"، فقد تاهت منا وسط كل ذلك بديهيات ربما نخشى الاعتراف بها فنفقد ريادتنا المزعومة، مثل الاعتراف أن ثمة تعالياً تعامل به صناع الدراما المصرية طوال الوقت مع أقرانهم العرب، وهو ما لم يعد مقبولاً اليوم، وكذلك كان هو نفسه السبب فى ردود الأفعال العنيفة على قرارات أشرف زكى، بمنع تعاون الممثلين العرب فى أكثر من عمل مصرى واحد كل عام، وهى القرارات التى حملت تعالياً واضحاً على الفنانين العرب، واتهمتهم بمحاولة سرقة النجومية من المصريين.
أيضا تزايد عدد الفضائيات العربية مما يعنى شراسة أكبر فى المنافسة فيما بينها، وهذا ما يدفعها للبحث عن سبل لجذب المشاهد العربى، وأحد هذه السبل هو شراء حق البث الحصرى للمسلسلات، خصوصاً وأن هذه الفضائيات منها ما هو مخصص فقط لعرض المسلسلات، فضلا عن رغبة المنتجين المصريين فى الربح، تدفعهم للسعى لبيع العمل الواحد لأكثر من قناة، وهو ما لم يعد متاحاً اليوم مع زيادة المنافسة بين القنوات المختلفة.
من أهم أسباب تراجع درامانا وانصراف مُشاهدنا عنها أيضا، هو إصرار فريق العمل على تجسيد المجتمع المصري: بنات الليل وتجار المخدرات والأسلحة.. ثم البلطجى والديوس والخائن والمنتقم و«لقواد و.... وكأن مصر لا يوجد فيها سيدات محترمات، تعملن فى أرقى المناصب.. أو شباب ناجح ومكافح وشريف!!. عندئذ تذكرت نصائح أساتذتنا عندما قالوا إن «أهم مايميز الكاتب الوطنى عن الأرزقى..هو العمل على تواصل الأجيال مع بعضها البعض».. محذرين من أن «انحراف الكاتب عن هذا الهدف سيؤدى ــ حتماً ــ إلى ضياع مجتمعه وطمس هويته والقضاء على لغته وثقافته».
وحتى لايكون كلامنا مجرد حبر على ورق.. فإننى أنصح بمشاهدة الأفلام العالمية للسينما الهوليودية والبوليودية لنعرف الفرق بين الدراما التى تبنى وتسهم فى التقدم والارتقاء.. والدراما التى تهدم كل هذه المعانى الجميلة بدافع العمالة أو الخيانة أو لمتاع دنيوى زائل....!!
ما سبق يجعلنى أذكر نفسى وغيرى بأن الدراما المصرية منذ مائة عام ولوقت قصير مضى، كانت أحد أهم روافد اقتصادنا، بل وسبباً رئيساً فى انتصار قضايانا العادلة وانتشار ثقافتنا وعاداتنا وقيمنا، أما فى الفترة الأخيرة فقد تعرضت لمؤامرة خسيسة لاداعى للحديث عنها الآن، وسأكتفى بالقول إن "من راهنوا على تقزيم دور الدراما المصرية لصالح الدراما السورية قد خسروا الرهان من "بدرى".. ليه ؟؟
لأن إنتاجنا من المسلسلات تعدى فى عام واحد السبعين مسلسلاً، أما الشقيقة سوريا ــ أنجاها الله من محنتها - فلم تنتج فى نفس العام سوى ستة مسلسلات فقط معظمها تاريخى، نقيس على ذلك بقية الأعمال الفنية من مسرح وغناء وأفلام، وقد استمرت هذه المؤامرة الدنيئة لفترة أربع سنوات تقريباُ ثم توقفت لأسباب معروفة للجميع، ولأن مصر هى فعلاُ "أم الدنيا"، ولأنها قلب العروبة والإسلام النابض.
ولأن بقاءها يعنى بقاء العرب، وزوالها ــ لاقدر الله ــ يعنى زوال العرب، فقد انتبه المتآمرون إلا قلة فاسدة ومُفسدة من أبناء جلدتنا لعظمة وقيمة وقامة مصر بفنها وثقافتها وجيشها فى الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية فى ظل الموجة الاستعمارية الخبيثة التى سُميت بـ "الربيع العربى"، ولمثل هذه القلة الحاقدة أقول: توقفوا ــ الآن وليس بعد ــ عن إنتاج مثل هذه الأعمال التى زلزلت أركان الدولة وضربت قوتها الناعمة فى مقتل، توقفوا عن هذه المسخرة.
فمصر أرقى وأعظم من أن تجسدوها في: أغاني هابطة، وعلاقات محرمة وشاذة و"شوية" صيع وعواطلية وقوادين وساقطات، توقفوا أيها العملاء وتبرأوا من زلاتكم الخلقية التى أساءت لمصر وفنها وشعبها العريق»، أخيراً أناشد الجهات الرقابية والأمنية فى مصرنا الحبيبة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع هذا الإسفاف بدعوى "الحرية والإبداع"، فالحرية الحقيقية أو المسئولة ــ كما يسميها خبراء الإعلام ــ هى الحفاظ على الذوق العام من السقوط فى براثن الرزيلة والعمالة والخيانة، أما الإبداع فيعنى فى قاموس الدول صاحبة التاريخ العريق الارتقاء بالسلوك البشرى وليس انحرافه.. مش كده ولا إيه.....؟!