ربما كان من حسن طالعي أنني نشأتُ بين جدران بيت كانت للكتب فيه منزلة جليلة، فكان والدي -رجل التربية والتعليم ومدير المدرسة وصنيعة الأساتذة الكبار- متشبثاً بشغف اقتناء الكتب، كأنّه كان يسعى لتأمين زادٍ روحيّ لأهل الدار لا يقل شأناً عن القوت اليومي. كان يشتري الكتب ويضيفها إلى مكتبتنا الصغيرة بشغفٍ يوازي حرصه على توفير حاجاتنا الأساسية.
وآنذاك كانت دور النشر القومية والمؤسسات الصحفية تصدر أمهات الكتب في أعداد شهرية مدعومة، فتوافرت بين أيدينا ذخائر التراث، كـ"تفسير القرطبي" و"سيرة ابن هشام"، وغيرها من مؤلفات تطاول النجوم في سماء المعارف.
أعود بذاكرتي إلى أيام الطفولة؛ كنتُ في المرحلة الابتدائية حين كانت المكتبة البسيطة في بيتنا أشبه بكنز مغلق في "دولاب" خاص. لم أكن حينها أعرف رفوف المكتبات المتعارف عليها الآن، وكنت أشعر أن لهذا الدولاب نكهة خاصة، كأنه يستدرجني إلى فتحه مرة بعد مرة في الأسبوع الواحد. كنت أخرج الكتب واحداً تلو الآخر، أستعرض عناوينها بعين طفل صغير لا يفقه إلا القليل مما أمامه، ولربما قرأتُ بعض الصفحات، ورغم أني كنت أخوض غمار كلمات لا أستوعبها، لكن شيئاً ما كان يشدني للاستمرار في هذا الطريق، ويغذي في داخلي هذا الارتباط العجيب بالكتب.
كانت تلك اللحظات تمنحني إحساساً غامضاً، كأنني أطأ أرضاً مقدسة، وأستشعر في قلبي هدوءاً عجيباً وراحة نفسية لا تضاهى.
لا أخفيك أن هذه الرحلة المبكرة بين عناوين الكتب، وتصفحي لصفحاتها -وإن كان دون إدراك كامل- قد تركت في نفسي أثراً لا يُمحى. كان ذلك التعرف الأول على عوالمها بمثابة غرس خفي نما شيئاً فشيئاً، فتفتحت آفاق لم أكن أعلم بوجودها، وتسللت إلى روحي لمحات من المعرفة، وكأنها بذور انغرس بعضها دون أن أعيها، لكنني وجدت ثمارها تتجلى أمامي فيما بعد.
كان ذلك التصفح غذاءً خفياً لهذا الشغف الوليد. إنها جمرات صغيرة تراكمت، فأضحت ناراً من شوق لا ينطفئ للقراءة، وصارت لي عوناً ورفيقاً لا غنى لي عنه!
ومضيتُ طالباً منتظماً في رحاب الأزهر العظيم، حيث صار عليّ أن أغوص عميقاً في محيط الكتب، وأن أتعرف على أصنافها المتنوعة. اشتريتُ كتباً عديدة، حتى وجدت نفسي أتعثر بين أزمات مالية وأثقال لا تنتهي. لكني لم أبالِ قط بأيّ مشقة في سبيل الحصول على كتاب، فقد صار الكتاب عندي أثمن من الطعام والشراب، وأهم من أي كماليات أو ضروريات؛ إنه الحياة نفسها، بل هو سر بقائي على قيد الحياة، كأن أنفاسي معلقة بين سطوره.
أذكر ذلك الولع المبكر الذي استحوذ عليّ، ولعاً أضحى يلازمني كظلي، فغدوتُ مبتلى بعشق الكتاب وشرائه، إذ كنت أقضي الساعات أتنقل بين أرفف المكتبات الخاصة والعامة، متأملاً في غلاف تلو الآخر، كمن يبحث عن كنزٍ دفينٍ في وسط الرفوف.
هذا الولع لم أستطع أبداً صرفه عن نفسي، بل صار هو محوري الذي تلتف حوله كل عاداتي واهتماماتي.
كنت أمني النفس بعد الحصول على (الدكتوراة) بأن تهدأ جذوة هذا الشغف العارم، وتخف حدته، إذ أنني اقتنيت كل كتاب يمكن أن ينير لي ولو سطراً في كتابة رسالتي. لم أكن أستسيغ فكرة الاعتماد على المكتبات العامة لكتابة الأبحاث الأكاديمية، إذ اعتبرت الباحث الجاد هو من يسبر أغوار كل كلمة كتبت حول موضوعه، ويمكث مع هذه الكتب طويلاً، يقلب صفحاتها، يدرس حروفها، ويعيش بين كلماتها.
أردت أن تكون الكتب قريبة من عيني ليل نهار، تحتضنني وتفتح لي أبواب المعرفة في كل لحظة، أبحث بين سطورها، وأتأمل معانيها، وكأنني أستشف من عمقها حياة أخرى.
بعد حصولي على درجة (الدكتوراة) تفرغتُ للكتابة أكثر من أيّ وقت مضى، فجعلت يومي مقسماً بين ساعات العمل التي لابدّ منها لتحصيل الرزق، وبين وقتٍ مقدس أكرسه للقراءة والكتابة. وجدتني محاطاً بمساحات شاسعة من المجالات التي تتسع قلمي، وتزدحم حولي نداءات المثقفين يطالبونني بالكتابة عن قضايا شتى، كأنني محاصر بهم، يتعاقبون مع كلّ شهر، ويبدأون معي قصة معاناة جديدة؛ فلا أفرغ من تسليم مقال إلا وتأتي مطالبة بمقالٍ جديد، بخلاف تلك المقالات الثابتة في مجلات مختلفة؛ كأنما هي عجلة لا تكف عن الدوران.
وهكذا، صرتُ مهموماً بالكتابة، أعيش شقياً بها، مثقلاً بحملها، وقد زادت القراءة من معاناتي، إذ أضحت مرضاً يُقلقني، لا أشفى منه ولا أستكين، وقد سلبني هذا الداء الاستمتاع بالكثير من لحظات الحياة. فالكتابة تلتهم الزمن والصحة والفكر، وتتركني مرهقاً، مضيقاً على أهلي، بل وعليّ، لكنها رغم ذلك سبيل للبقاء، أشعر أنها امتداد للحياة، حياة تتجاوزني، تخرج من بين حروفي لتحيا في زمن آخر، وكأنني أهب بها نفساً جديداً لمن سبقني.
ورغم ما فيها من آلام، وما تحملني من عناء، إلا أن الكتابة هي صميم كياني، سرّ وجودي الذي لا تكتفي منه النفس، ولا يمله العقل، ولا يوقفه التعب.