الأساتذة في حياتي ليسوا معلمين يلقون دروساً أو ينقلون معارف فقط، بل هم أصلٌ متجذر في كلّ خطوة خطوتها وكل فكرة نبتت في ذهني. فلا يطيب لي حديث ولا يحلو لي مجلس إلا وذكرت مواقفهم التي كانت كالدرر، أضاءت لي درب الحياة بمصابيح من الحكمة والمعرفة.
هم الذين صاغوا حياتي بمواقفهم النبيلة وأفعالهم السامية، فكانوا لي آباء روحيين ومرشدين في دروب لا تهتدي فيها النفوس إلا بصبر وتجربة. وكم من مرة استدعيت حكمهم واستبصرت بتجاربهم في اللحظات الحرجة، تلك التي يقف فيها المرء محتاراً بين السبل، فإذا بتجاربهم تتراءى لي؛ كالأضواء في ليل بهيم، تقودني إلى الطريق القويم.
لقد أدركتُ مبكراً أن سيرتي الذاتية ليست أحداثاً متتابعة أرويها أو أمجاداً شخصية أتباهى بها فحسب، بل هي في الحقيقة تكمن في أولئك الأساتذة الذين كانوا لي كالشموع في عتمة الطريق.
إن سيرتي هي سيرة هؤلاء الذين كانوا لي مشاعل نور، وأيقونات حكمة، وأمثلة عليا أتطلع إليها في كل ما أمر به. ومن أجل ذلك كتبت هذه السيرة وأنا في سن مبكرة، ليس تعجلاً ولا طلباً للشهرة، بل وفاءً لهؤلاء الأعلام الذين أغدقوا عليَّ من فضلهم، وإقراراً بما لهم من أيدٍ بيضاء على حياتي. فالسيرة ليست إلا استذكاراً لفضلهم وتنويراً بمواقفهم التي تظل حية في قلبي وعقلي، تنبض بالحياة كلما واجهتُ موقفاً من مواقف الدهر.
لا يطيب لأرباب العلم عيشٌ إلا في رياض الكتب، ولا يهنأ لهم حال إلا بصحبة الأوراق والأسفار؛ إذ الكتبُ عندهم أرواح ناطقة، وأنيسٌ لا يخون، ورفيقٌ لا يمل، وكفى بذلك أن يكون الكتاب عزاء القلب، وراحة الذهن، وغذاء الفكر. وإني لأعلم من أخبار أساتذتي ومن صحبتهم في البلدان كثيرًا من الحكايات والوصايا عن الكتب والمكتبات، مما يُبهج السامع، ويثير في القلوب حب العلم، ويشعل جذوة الحماس للطلب.
كانوا يحدثونني عن عيشهم بين رفوف الكتب، وكيف أضحى الكتاب لهم أنيسًا وصاحبًا لا يملون منه، حتى إن أحاديثهم هذه توقظ العزائم النائمة، وتبعث في النفوس روح الجِد والسعي إلى العلم بغير ملل ولا توانٍ.
ومما رأيته بنفسي في هذا المقام أنني كنتُ أترددُ كلَّ أسبوع في بداية الطلب على أستاذٍ جليل، بحرٍ من بحور العلم، موسوعيّ المعرفة، واسع الاطلاع، أقرأ عليه في "أدب طلب العلم" بعد صلاة الجمعة، وقد بلغت محبته للكتب مبلغًا عجيبًا لا مثيل لها.
كان إذا لمس الكتاب مسّه كمن يلمس روحًا حيّة، يتعامل معه برفق وحنان، يحفظه من أيّ سوء، ويعطيه من الحرص والعناية ما لا يعطيه إلا لعزيز. وإذا ألمَّ به المرض ومنعه من التجوال في المكتبات، وشراء ما استجدّ من المطبوعات، كان يوصيني أن أقوم مقامه، فأشتري له الجديد من الكتب.
لكني رأيتُ أن هذا العالم الجليل ينفقُ كثيرًا من ماله على الكتب، حتى كان راتبه الشهري يذهب أكثره إلى ذلك، وكنت أحيانًا أساعده في شراء بعض حاجات البيت، ومع هذا كان لا ينفك يوصيني أن أقتصد في شراء الأشياء الأساسية، وأبحث عن الأرخص في كل شيء في أي مكان، لا لشيءٍ إلا ليبقى له ما ينفقه على حبيبه الأول: الكتاب.
وفي أيامه الأخيرة، إذ اشتد به المرض وأقعده عن الحركة، طلب مني شيئاً بدا لي غريباً، قال لي: "إذا اشتريتَ لي كتبًا جديدة، فضعها في كيس وأخفها تحت السرير حتى لا تشعر زوجتي، فقد سئمتْ من كثرة ما أشتري من كتب!" فكان إذا خرجتُ جاء إلى الكيس فأخرج الكتاب واحداً تلو الآخر، ووضعه في مكتبته، دون أن تشعر زوجته، وكأن في ذلك سلامه النفسي وراحته التي لا يدركها إلا مَن عرف قيمة الكتاب.
لقد تأملتُ في أمر هذا العالم العظيم، كيف صارت الكتب له بمثابة الحياة نفسها، وكيف أنها الهواء الذي يتنفسه، والزاد الذي يقيم به روحه. ولا تحسبنّ أن حرصه على اقتناء جديد الكتب كان ترفًا أو مجرد جمع؛ كحال الكثيرين، بل كان يقرأ كلّ كتاب أشتريه له بعناية، فلا يدع دقيقة تمر دون أن يقرأ، ويدوّن ويضيف إلى علمه. وكنتُ آتيه كل أسبوع بعدة كتب، فلا ينقضي الأسبوع إلا وقد فرغ منها، كأنما ينهل منها نهلاً، فلا يشبع ولا يمل.
هكذا كان تعلّق هذا العالم بالعلم، وهكذا كان حبّه للكتب لا يعرف الحدود.
ومن ضمن نصائحه التي دونتها عنه في هذا الشأن قوله: "اعلم أن الوقت هو أعز ما يملكه الإنسان، فهو كالنفس، إن خرج من صدرك، فلن يعود. وإن الأيام تتسارع، ولا يقف قطارها عند باب أحد، فما أنت فاعل إذا فاتك الزاد، وغابت عنك الفائدة؟
وإن من غبن نفسه في وقته فقد غبن حياته كلها، ومن ضيع دقائقه في اللغو والبطالة فقد باع ثروته بأرخص الأثمان. والوقت يا بنيّ هو ميزان الحكيم، لا يفرط فيه ولا يضيعه فيما لا ينفع، بل هو كالسيف، إن لم تقطعه بالعلم والعمل قطعك بالجهل والندم.
فإذا أردتَ السلامة والفلاح لنفسك وغيرك فعليك بالقراءة والكتابة. فإن العلم هو الذي يرفع قدر الإنسان ويزكي نفسه، وهو نور البصيرة وقوام الرأي. وإذا كنت في مجلسٍ فلا تجلس بغير كتاب، فإن الكتب أنفع لك من صحبة الحمقى، وألذّ من لهو الغافلين.
والكتابة يا بنيّ هي الصنعة التي يبقى أثرها، ويجري نفعها؛ فإذا كتبت علمًا أو دونت حكماً، فقد ضمنت لك ذكراً بعد الممات، ونفعاً بعد الفناء، ولا تكن كالذين يؤثرون الدعة، فإنهم يخسرون أنفسهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. وليكن يومك معمورًا بالعلم والقراءة، فإنّك إن لم تغتنم شبابك في طلب العلم، ندمتَ حين لا ينفع الندم".