تاريخ (مملكة بابل) من النهوض حتى الاندثار د.علي أحمد جديد

تاريخ (مملكة بابل) من النهوض حتى الاندثار د.علي أحمد جديد
تاريخ (مملكة بابل) من النهوض حتى الاندثار د.علي أحمد جديد

 

كانت مدينة (بابل) مركز حضارة بلاد الرافدين قرابة الألفي سنة . وتشير السجلات القديمة التي تعود إلى أكثر من 4000 سنة ق.م أن (بابل) كانت تمثل مركزاً إدارياً ، في الوقت الذي كانت فيه مدينة (أور) هي مركز الإمبراطورية .
تقول الباحثة (غويندولين ليك) في كتابها (البابليون) : 
"لم تكن (بابل) مدينةً مستقلة . ففي عام 1894 قبل الميلاد ، بعد سقوط مركز الإمبراطورية في مدينة (أور) ، أسقط مدينة (بابل) رجل يُسمى (سامو أبوم) وهو من سلالة العموريين المتحدثين باللغة الساميَّة والذين يعودون بأصلهم إلى (سورية الكبرى) . وجعل (سامو أبوم ) من مدينة (بابل) والمناطق المحيطة بها مملكته الصغيرة . وبقيت (بابل) قائمة على هذا الوضع حتى وصول (حمورابي) إلى الحكم بعد ستة أجيال . و(حمورابي) هو الحاكم الذي حوَّل مدينة (بابل) من مملكة صغيرة إلى إمبراطورية عظيمة . لأن (حمورابي) آثر الحذر والصبر قبل بدء التوسع ، بسبب موقع مملكته بين مملكتين كبيرتين هما (لارسا و أشور)" . 
وتوضِّح (غويندولين ليك) : 
"ركّزَ الملك (حمورابي) على توطيد دعائم مملكته اقتصادياً ببناء القنوات وبتقوية الحصون" .
وعند موت ملك (أشور) وفراغ السلطة بعده ، استطاع (حمورابي) أن يبدأ التوسع بسلسلة من الحملات التي هزم (ريم سين) حاكم (لارسا) بعد أن صمد باقياً في قمة هرم الحكم نحو 60 سنة . 
وتقول ليك : 
"نتج عن هذا الانتصار ضمُّ كلٍّ من المدن (أور و أوروك و إسين و لارسا) إلى حكم (حمورابي) . ووسعت حملات أخرى ضد (أشور و ماري) إمبراطورية (حمورابي)" . ولايعرف علماء الآثار الكثير عن شكل مدينة (بابل) في عصر الملك  (حمورابي) . 
ومن ورقة منشورة في كتاب "العالم البابلي" ، تقول الباحثة (هارييت كروفورد) :
 "للأسف لم نتمكن من التوصل إلى أكثر بقايا مدينة (حمورابي) ، لأن ارتفاع مستوى المياه لم يسمح باستكشافها" .
وقد شكلت بقايا النصوص والكتابات المصدر الأكبر للمعلومات بسبب ندرة البقايا الأثرية . وكان (حمورابي) إلهاً حاكماً في مملكته ، وكان الأهل يُسمّون أبناءهم بأسماء تعني (حمورابي هو نجدتي) أو (حمورابي هو إلهي) ، وذلك ما يتضح أيضاً في شريعة (حمورابي) الشهيرة .
وتتميز شريعة (حمورابي) - الموجودة اليوم في متحف اللوفر - بمبدأ (العين بالعين) في سَنِّ القوانين ، وهي الشريعة التي كانت  تنظّم العلاقة بين (حمورابي) وبين الآلهة والشعب ، وتَعُدُّ أن الآلهة قد أرسلته ليحكم مملكته . فنقرأ في مقدمة شريعته الشهيرة : 
"ثم نادى الإلهان (أنو و بيل) اسمي ، (حمورابي) الأمير العظيم الذي يخاف الإله ، ليحكم الأرض بالصلاح والاستقامة ويقهر الأشرار ، ومن الآن يجب على القوي ألا يؤذي الضعيف" .
وادّعى (حمورابي) التعاطف والشفقة ، لكن قانون شريعته كان قاسياً ، إذ استخدم عقوبة الإعدام كثيراً حتى مع الجرائم البسيطة  مثل السرقة ، وتضمنت عقوبات أخرى تقطيع أجزاء من الجسد ، وهو ما يختلف عن شريعة سابقة وضعها حاكم (أور) قبل عدة قرون ، كثر فيها فرض الغرامات عوضاً عن القتل و الإعدام . وقد واجهت (حمورابي) مشكلة العبودية الناتجة عن الدَيْن ، وكان يُضطَّر إلى إلغاء الديون أحياناً ، وذلك ما يشير إلى وجود أعباء مادية ضخمة بسبب تدهور الزراعة وبسبب الفوائد العالية على رأس المال .
والملفت أن شريعة (حمورابي) لم تكن عادلة بين النساء وبين الرجال ، فنقرأ في أحد القوانين : 
"إذا اتهم أحدهم امرأة رجل آخر بالتزاوج مع رجل غير زوجها ولم يُقبض عليها ، يجب عليها أن ترمي نفسها في النهر من أجل كرامة زوجها" . 
كما كانت توجد قواعد تحمي المرأة التي فُرض عليها العيش مع رجل آخر بعد أن يتوفى زوجها في الحرب ، إضافةً إلى قوانين تُقرُّ حصول الأرملة على إرث زوجها المتوفى ، وحصول المرأة غير المتزوجة على الدعم المادي من إخوتها بعد وفاة والدها .
انهارت (مملكة حمورابي) بعد وفاته سنة 1595 ق.م ، وأسقط الحاكم الحثي (مرسيلي الأول) مملكة (بابل) مُنهياً حكم سلالة (حمورابي) . وتشير الباحثة (سوزان باولس) في بحث منشور سنة 2011 :
"أنه ومن أجل الإمعان في إهانة البابليين ، استولى الحثيون على تمثال (مردوخ) الذي كان أهم الآلهة السورية الموجودة في (بابل) وأقدسها - وهو الذي جعلت منه اليهود ربَّ ديانتها وأطلقت عليه اسم (يَهْوَه) - . وفي خضم الفوضى التي تلت ذلك ، وصل الكاشيون* إلى السلطة ، وتميزوا بامتلاكهم الخيول وهو ما منحهم ميزةً عسكرية متفوقة . وبذل الكاشيون وسعهم ليكسبوا وِدَّ أهل (بابل)" .
تقول (سوزان بولس) :
"أعاد الكاشيون تمثال (مردوخ) الذي سرقه الحثيون ، وسمحوا لأتباعه بالعودة إلى (بابل) وأحيوا معابد الآلهة البابلية" . وحافظ الحكم الكاشي على الأمان والاستقرار والسلام في (بابل) مدة 500 عام ، وأصبحت الكتابة البابلية أكثر مهنية وتفرداً في تلك الفترة ، واستُخدمت على نطاق أوسع عبر الشرق الأوسط .
وتقول ليك :
"أصبحت البابلية لغةً مشتركة في جميع أنحاء الشرق الأدنى من القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر ق.م ، ووُجدت الأعمال البابلية في تركيا وسوريا والشام ومصر إضافةً إلى بلاد الرافدين ، وأصبح الكتبة البابليون مطلوبين بشدة في بلاط الدول الأجنبية" .
وفي الفترة بين 1200 و 600 ق.م ، شهدت (بابل) الكثير من الحروب . ففي سنة 1200 ق.م ، تعرضت منطقة شرق المتوسط لموجات نزوح (شعوب البحر) بسبب تدهور الزراعة ، وانتشرت هذه الشعوب في الشرق الأوسط (تركيا والشام) ، وساهمت في زيادة المشكلات التي أدت إلى انقسام مصر . وعانت (بابل) من مشكلات وكوارث وأدت الحرب مع أشور إلى أسر ملك بابلي وإرساله مُكبَّلاً بالسلاسل . كماأدت حرب أخرى مع (عيلام) - جنوب إيران حالياً - إلى سرقة تمثال الإله (مردوخ) مجدداً . وفي ظل هذه الظروف أتى الحاكم البابلي الجديد (نبوخذ نصر الأول) 1105 - 1126 لينقذ (بابل) ، فهزم (عيلام) واسترجع التمثال . وبعد نجاح (نبوخذ نصر الأول) في الحكم تزايدت أهمية مهرجان العام الجديد .
وتشرح (ليك) مهرجان العام الجديد : 
"تضمن هذا الطقس اجتماع كل الآلهة البابليين وقراءة ملحمة الخلق وتوطيد الإله (مردوخ)  للحُكم " .
وُجدت (مملكة بابل) من الألفية الثانية قبل الميلاد وحتّى الألفية الأولى قبل الميلاد كواحدةٍ من أقدم عواصم العصور القديمة ، حيث كانت عاصمة بلاد ما بين النهرين ، وكانت في العهد الثالث بالنسبة لمملكة (أور) مجرد مدينةٍ ريفية ، وشكلت فيما بعد نواةً لعاصمةٍ ضمت الأراضي الواقعة جنوبي بلاد ما بين النهرين، وجزءاًمن (مملكة آشور) الواقعة شمال بلاد ما بين النهرين ، بعد أن قام الملك حمورابي بدخولها وتسميتها عاصمة لهذه الأراضي في الفترة الواقعة بين 1750 - 1790 قبل الميلاد ، وبفضل موقعها المميز أصبحت مركزاً تجارياً وسياسياً مميزاً وصارت مطمعاً للغزاة .
وقد سميت (بابل) باسمها هذا الذي يعني بالفارسية القديمة (باب الإله) وكان مجتمعها يضم ثلاث طبقاتٍ من السكان بترتيب حسب أهميتهم ، يأتي (الحرّ) الحاصل على كامل حقوقه في الطبقة الأعلى ، ويليه من هم أقل حرية وحقوقاً ، ثمّ يأتي العبيد في نهاية الترتيب ، وكانت هذه الطبقات جميعها تخضع لشريعة (حمورابي) في القانون والأخلاق . أما الحياة العائلية وطقوس الزواج فكانت بسيطة وقريبة لما هو معروف اليوم ، وكان الأهل مسؤولون عن شؤون العائلة وعلاقاتها ، بينما تميزت البيوت في معظمها بوجود غرفٍ إضافيةٍ للخدم ، وتتوزع نوافذها  على أكثر من جانبٍ للبيت الواحد ، ولم تكن شوارعها منظمة ، كما أنّ عدد سكانها لم يكن معروفاً بدقة ، لكنه يقدر ما بين (10000 إلى 50000) مواطن ، وتتميز معرفتهم بالتنظيم العلمي والتكنولوجي ، فقد امتلك البابليون القدرة على الحساب ، وقاموا بشق القنوات المائية وبناء السدود وتنظيم أعمال صباغة الجلود ، والصناعات الفخارية ، وامتلكوا نظاماً قانونياً ومحاكم تعتمد نظام الشهود وتعاقب وفقاً لشريعة (حمورابي) .
وبعد وفاة الملك (نبوخذ نصر الثاني) ، تعرضت (بابل) إلى غزواتٍ عديدة بفضل قيمتها الجغرافية والتجارية ورغد الحياة فيها ، كان منها غزوات الفارسيين بقيادة (سايروس الأكبر) ، ثم غزاها (الإسكندر المقدوني) الذي أصابته "حمّى بابل" ، وتوفي ليترك المدينة للفرس ، حيث أنهكتها الصراعات الداخلية والخارجية قبل أن تبدأ بالاندثار في العام 141 قبل الميلاد . وحين غزاها المسلمون عام 650 بعد الميلاد ، كانت المدينة قد اندثرت تماماً وبقي منها بعض الآثار فقط أشهرها برج (بابل) المعروف منذ بدء التكوين وحتى اليوم .
==========
* الكاشيون : هم أهل مدينة (كوث) المذكورة في سِفر الملوك من كتاب "توراة العهد القديم" .