كل شيء فيه مستفز ، مرآه يحيطك بسحابة كثيفة من الضيق ، لا اتحدث عن شعره البرتقالي الهايش ، وسوالفه الطوال ، وأنفه الضخم يلفها شارب كث ، ولا وجهه البلاستيكي الأصفر ،يكفيك صوته الغليظ وهو يجعر ، ساعة يتوسط حوش المدرسة ،وصافرته النحاسية الناشبة بين أسنانه المتآكلة تدوي بلا انقطاع ،ما أثقله! ، أخبرني صديق عن صفته ،قال ذات مرة وهو ينفث غضبا :" مجدي ، إنسان ثقيل الظل ،انتهازي بمعنى الكلمة، جاء به خليل خالد مدرس الألعاب ليساعده في تنظيم طابور الصباح ، والسيطرة على المدرسة " ،اتحرق كي انصرف من أرض الطابور ، اتجنب ملاقاته قدر المستطاع ، رغم تودده الباهت لمن حوله ، تصحبه نكاته المعادة ، يتجول " مجدي " كذئب مراوغ بين جنبات المدرسة ، تفضحه عيناه حين تبدي اكثر مما تخفي ، يغرق المدرسات من تحت جفن ثقيل دون تحفظ ،يشعرك بأن الحياة قد خلت من كل قيمة ، تزداد كراهيتي لهذا المخلوق العابث عند كل صباح ،يخنق صدري عادم دراجته النارية الداكن ، وأزيزها المزعج ، يقهقه في ضجيج ، لا يسلم أحيانا من توبيخ الناظر وتقريعه لجرأته،لكنه قادر على تحويل الأزمة لصالحه ، تعاود ضحكته تجلجل من جديد ، تعلن انتهاء المشكلة ،اغرم " مجدي " " بعفاف " مدرسة الفلسفة ، و"عفاف " أرملة أربعينية معتدلة القوام ، ذات جسد مكتنز اللحم ،يزينه ردف ثقيل ، وصدر ناشب، وبشرة خمرية ملتهبة ، وعينان مشبعتان بالأنوثة ، ومن تحتهما شفاه حارة تقطر دائما بالحمرة ،ربما أغراه هذا بها وجعل منها صيدا رخيصا ، وربما كانت هي السبب ، فهي موزعة النظرات بنهم فاضح لعيون الرجال كمراهقة صغيرة.
رأيته وقد اتخذ لنفسه متكئا ،يرشف الشاي في توحش ،وينفث دخان سيجارته في توتر ، وبصره الجائع معلق بجسدها كلما مرت من أمامه .
حتى جاء صباح ،لفحت وجهي فيه حرارة تدفقت من عين الشمس التي تنفجر خيوطها كالنار، كنت حزينا لا أعرف لحزني سبب ،وكانت الطيور قد اتخذت لها مكانا فوق شجرة الكافور العتيقة ، تصدح بنشيدها المعتاد ، اقبل مندفعا في منظر كريه ، يسيل لعابه ، يحمحم في تجرئ ، وكأنه يبحث عن شيء ، توقف قليلا قبل أن يتوجه صوب حجرة المدرسين ،كانت فارغة إلا من " عفاف" خيم في هاته الساعة على المكان سكون مميت قاتل ،وكأن الزمن قد توقف ، واختفت الأصوات من حولي ، كل شيء أصابه الخرس وتلاشى ، إلا صوتا ثقيلا ينبعث من صدري ، تلاحق خفقان قلبي ، ظللت مشدوها هذه المرة لما يدور بالحجرة ، أزاح عن المكان صمته ،صوت ضحكاته المستفزة ، جعل يضحك ويضحك دون توقف، هذا ما اتذكره ، قبل ان يمتلئ المكان بأهله ، تقدم الناظر في صرامه وتجهم، وإلى جانبه " ممدوح " أمين المخازن غريم " مجدي " الذي دس فمه في أذن الناطر ، يلوح بيده في انفعال ، انكب الشيخ " طلبة " مدرس الدين يهش الطلاب ، الذين تسمروا أمام الباب يأكلهم الفضول، خرجت " عفاف " أخيرا ،لكنها لم تكن كما عهدناها في هندامها المرتب وأناقتها المعروفة ، بل كانت منهارة في فوضى عارمة ،دامعة العينين ، تقبض على فردة الحذاء تلوح بها متوعدة " مجدي " ،الذي خرج على إثرها مارقا بين الأجساد المتراصة ، يكيل الشتائم منفعلا.
أخيرا أقدم الذئب على فعلته ،تجرأ واقتحم الحرم لم يخيب ظني فيه ،لا نعلم ماذا حدث بينهما ،لكن الظاهر أنه راودها عن نفسها وهي استعصمت ،اختفى " مجدي " بعد فترة ، وبهتت جريمته ،لكن لعنته ظلت تطارد " عفاف " في كل مكان ،فعشرات أمثال " مجدي " أصابهم الهوس ، وجرتهم الغواية لأن يلاحقوها دون تورع.