فوضى التخوين والتكفير التي نشهدها اليوم تمثل ظاهرة خطيرة ومؤلمة تؤثر في المجتمعات بشكل عميق. إذ تزايد استخدام هذه المصطلحات بشكل عشوائي ما أصبح يهدد الترابط المجتمعي بالتفتيت وزيادة التوترات. وبالرغم من وجود تلك الظواهر ممتدة عبر التاريخ في المجتمعات إلا أنها تبقى كبركان ساكن تتأجج نيرانه خلال الحروب والنزاعات المختلفة. ويتجاوز تأثيرها الأفراد ليصل البُنى الاجتماعية والاقتصادية. وفي معظم الأحيان، يتم استغلال هذه المفاهيم لأغراض سياسية أو اجتماعية، مما يزيد من حالة الحنق والقلق داخل المجتمع.
الأخطر من ذلك أن تلك الظواهر "التخوين والتكفير" تعيقان الحوار البناء بل وتجعلانه مستحيلاً. فبدلاً من النقاش حول الأفكار والمبادئ، يتحول النقاش إلى معارك شخصية تتسم بالتجريح والاتهامات. لا تعزز ثقافة الحوار والتفاهم وإنما تؤدي إلى المزيد من الانقسام والتشرذم داخل المجتمع الواحد.
والمعروف أن التخوين هو توجيه اتهامات بالخيانة لأفراد أو جماعات تتبنى آراء أو مواقف مخالفة.مما يؤدي إلى تصنيفهم "مخالفين" وهذا يؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطنين أما التكفير فهو إنكار إيمان فرد أو جماعة ووصفهم بأنهم غير مسلمين أو غير مؤمنين ما يعني إخراجهم من الملة مما يُخضعهم للعزلة الاجتماعية والرفض وهو تعبير يذهب في التطرف إلى آخره.
وتتأثر المجتمعات بشكل كبير عندما يصبح الأفراد عرضة لهذه التصنيفات، حيث ينشأ عن ذلك صراعات ومواجهات، تتداخل مع السياقات الاجتماعية والسياسية، ما يصعب معالجتها ، قد تؤدي في النهاية إلى القتل الأبرياء وترويع الآمنين.
وتعد الحروب الأهلية من أكثر الأزمات تأثيراً على المجتمعات، تسهم بشكل كبير في تصعيد ظاهرتي التخوين والتكفير. فمع تصاعد التوترات بين الأطراف المتنازعة، تنمو ظواهر التخوين والتكفير في سياقات معينة، كالتحريض السياسي إذ تستخدم بعض الأطراف التخوين والتكفير كأداة لتعزيز سلطتها، والاستقطاب السياسي عندها تتم تقسيم المجتمعات إلى "نحن" و"هم"، مما يعزز مشاعر الكراهية.
وشئنا أم أبينا يعتبر السابع من أكتوبر نقطة تحول فارقة في تاريخ المنطقة العربية، حيث ساهم هذا التاريخ في تشكيل عقلية جماعية جديدة مليئة بالتطرف والأفكار الخطيرة. تتجاوز آثار الحدود الجغرافية ، بينما كانت الحرب تدور، ظهرت أفكار سلبية زعزعت أساسيات المجتمعات، كالانتماء الأعمى الذي تجلت فيه مشاعر العنف والعداء تجاه كل ما يخالف للرأي المنتقد للحرب وغير متقبل لها ومتضرر منها خاصة هؤلاء الذين يعيشون في غزة أو خارجها ولهم اهل واقرباء في قطاع غزة يعانون جراء الحرب إذ وصل الأمر حد التجريح والاتهام بالعمالة وإلصاق تهمة الخيانة لانتقادهم ما حدث ووصفهم "الانهزاميين والانبطاحيين" حتى يتم اسكاتهم بالقوة أو تغيير أفكارهم. وهذا ما يحدث في لبنان اليوم فكل منتقد لصوت الحرب يتم تخوينه واتهامه بالعمالة والإنبطاح، على الجانب الأخر يتم اتهام كل من ساهم بوجود الحرب في غزة أو في لبنان أو أي مكان في العالم بأنهم متآمرون خانوا الناس ودمروا الأوطان أخذوا الشعوب للتهلكة عن دراية أو ربما بدون دراية لكن النتيجة كان هلاك الناس وضياع الأوطان لأجل مصالح أحزابهم الخاصة
لذلك فإن تلك الأفكار التي تتسرب للعقول من خلال تخوين وتكفير الناس هي بمثابة دافع للأعمال الوحشية والإرهاب النفسي العميق الذي سيؤدي بدوره لفقدان الثقة بين أفراد المجتمع الواحد. الأمر الذي يصعب العودة لحالة السلم خلال الحرب وبعد انتهائها مع وجود قلق مستمر يتجلى بمشاعر الخوف وعدم الأمان من استمرار التهجم وهو ما يؤثر على جودة حياتهم ما يؤدي إلى تفكيك الروابط الاجتماعية والنهاية المؤكدة هي الإنقسام ليتعزز العنف في المجتمع. لذا يجب التصدي لتلك الظواهر وبكل قوة والانتباه لما قد تؤول له الأمور تكون نتيجتها الدخول في حروب أهلية مستمرة في حال بقي الحال على نفس المنهاج
و علينا أن نعترف أن ذلك لن يكون بالأمر الهين. كونها ظاهرة قديمة متجذرة لها تأصيلها الشرعي. ولكي نبدأ، لابد أن يكون ذلك من البداية ، أي من التعليم، فالتعليم من الأدوات الأساسية لإعادة تشكيل القيم بعد انتهاء السيناريوهات الحربية. إذ أظهرت هذه الحرب أننا نحتاج لتعليم طويل يعمل على ترسيخ القيم الإنسانية من خلال تقديم مناهج تعليمية تعزز التفاهم بين الثقافات وتشجيع الفكر النقدي بعيدا عن التطرف وتقبل ثقافة الإختلاف في الرأي دون الحاجة للتخوين والعمل على تكميم الأفواه وتنمية مهارة الحوار لحل النزاعات. ثم يأتي بعد ذلك، الحوار بين مكونات المجتمع المدني والذي يعد عنصراً أساسياً في إعادة بناء العلاقات بين أفراد المجتمع ويسهم في إعادة التلاحم بين نسيج المجتمع و المقصود هنا هو الحوار البناء وليس الحوار الذي مساره الجدال و التشويه والتجريح الملئ بالاتهام وينتهي بمزيد من الخلافات.
من المؤكد أن الطريق طويل ووحيد لكنه يستحق أن نسلكه و المضي فيه قدما. فالنتيجة التي قد نحققها أفضل ألف مرة من الواقع المر الذي نعيشه طريق الالتحام بعد الانقسام .