من بين أبرز المعارك الفكرية في تاريخ مصر المعاصر تأتي المناظرة الشهيرة التي خاضها المفكر الدكتور فرج فودة ضد رموز التيار الوهابي وجماعة الإخوان المسلمين، والتي شكلت منعطفًا تاريخيًا في مواجهة التطرف الفكري والديني. كانت هذه المناظرة تجسيدًا للصراع بين مشروعين فكريين متضادين؛ الأول يمثل الحرية والتعددية الفكرية والعقلانية، والآخر يتمسك بالفكر الوهابي المتشدد ونهج جماعة الإخوان في استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية.
خلفية المناظرة
جاءت المناظرة في بداية التسعينيات، وهي فترة شهدت فيها مصر تصاعدًا كبيرًا في نفوذ الحركات الإسلامية السياسية، خاصة الإخوان المسلمين والتيار الوهابي الذي حاول فرض رؤيته على المجتمع من خلال احتكار الدين واستغلاله في السياسة. وكان الدكتور فرج فودة في طليعة المفكرين الذين تصدوا لهذا التوجه، ودعا إلى فصل الدين عن السياسة وضمان حقوق الأقليات والمساواة بين المواطنين بعيدًا عن أي انتماءات دينية.
أسلوب فرج فودة في الانتصار الفكري
اعتمد فرج فودة في المناظرة على أسلوب فكري متميز قائم على الحجة العقلانية، والاستناد إلى التاريخ، والأدلة النصية. بدلاً من الدخول في سجالات دينية بحتة، فضل فودة أن يُظهر كيف أن التيار الوهابي والإخواني يسعيان للسيطرة على المجتمع باسم الدين، بينما يفتقدان لأي مشروع حقيقي لتحسين حياة الناس.
العقلانية والتاريخ
بدأ فودة بإبراز تناقضات الفكر الوهابي والإخواني مع تاريخ الحضارة الإسلامية نفسها. أشار إلى فترات الازدهار الثقافي والفكري التي شهدتها الحضارة الإسلامية، والتي كانت مفتوحة على الحوار مع الآخر واحترام التعددية الفكرية، على عكس ما يروج له الفكر الوهابي من انغلاق وتقليدية. كما تناول بشكل ناقد فترات الحكم التي سيطرت فيها التيارات المتشددة، وكيف أدت إلى تدهور المجتمعات وتراجعها فكريًا وثقافيًا.
فضح استغلال الدين
أوضح فرج فودة أن الإسلام السياسي، الذي تمثله جماعة الإخوان والتيار الوهابي، ليس إلا وسيلة للسيطرة على السلطة وليس دعوة لخدمة الدين. ضرب أمثلة واضحة عن كيف استخدم الإخوان الدين لأغراض سياسية، وكيف فشلوا في تقديم أي برامج اقتصادية أو اجتماعية حقيقية. وكانت هذه الحجة قوية جدًا لأنها أظهرت الفارق بين الدين كإيمان وروحانية، والدين كأداة سياسية للسيطرة.
حقوق الإنسان والمواطنة
من النقاط الجوهرية التي ركز عليها فودة هي أهمية مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان. أكد على ضرورة فصل الدين عن السياسة لضمان حقوق كل المواطنين بغض النظر عن دينهم أو عقيدتهم. طرح فكرة أن الدولة الحديثة يجب أن تكون مدنية، قائمة على مبادئ حقوق الإنسان، وأن استخدام الدين كأداة سياسية يؤدي فقط إلى التمييز والتفرقة داخل المجتمع.
ردود فعل التيار الوهابي والإخواني
أمام حجج فرج فودة، لم يتمكن رموز التيار الوهابي والإخواني من تقديم ردود عقلانية ومقنعة. كانت معظم ردودهم عاطفية وتعبوية، تعتمد على اتهام فودة بالإلحاد أو العمالة للغرب، دون تقديم حجج فكرية قوية تضاهي ما قدمه. وكان هذا واضحًا للجمهور الذي حضر المناظرة، حيث بدا الفرق واضحًا بين مشروع فرج فودة القائم على المنطق والعقلانية، ومشروع خصومه القائم على الشعارات الجوفاء والتعبئة العاطفية.
التأثير والنتائج
رغم أن فرج فودة دفع حياته ثمنًا لشجاعته الفكرية، حيث اغتيل على يد متطرفين بعد هذه المناظرة بفترة قصيرة، إلا أن تأثيره الفكري ما زال قائمًا حتى اليوم. رسخ فودة فكرة أن المواجهة مع التطرف الديني لا تتم فقط من خلال القوة الأمنية، بل تحتاج إلى مواجهة فكرية عميقة تكشف تناقضات هذا الفكر وتفضح استغلال الدين لأغراض سياسية.
لقد انتصر فرج فودة في تلك المناظرة، ليس فقط لأنه قدّم حججًا أقوى، بل لأنه قدم نموذجًا للمثقف الذي لا يخشى التعبير عن آرائه حتى لو كان الثمن حياته. سيظل فودة رمزًا للشجاعة الفكرية والتنوير، وسيظل فكره منارة لكل من يسعى لمواجهة التطرف والدفاع عن قيم الحرية والمساواة.