جاءنا هذا السؤال من الأديب الكبير والإعلامي الإذاعي المصري المتميز الدكتور هشام محفوظ:
أستاذنا المفكر الكبير الأستاذ بهجت العبيدي صديقنا الغالي
بعد التحية
دمت بخير وبفكر معطاء مستنير
عندي سؤال سيدي:
هناك مقولة متداولة ربما في عموم مجتمعاتنا الإنسانية الشرقية و حدها، هذه المقولة هي: الجوع كافر
برأيك صديقي العزيز هل هذا من باب التوسع في الكلام على طريقة المبالغة السائدة في مجتمعاتنا الشرقية أم أن هناك بالفعل علاقة عضوية بين الجوع والكُفر؟
وجاءت إجابتنا على الصديق الأديب الكبير على النحو التالي
في المجتمعات التي تنقسم الناس فيها إلى مؤمن وكافر، وهي تلك المجتمعات التي توصف بالمجتمعات المتدينة، عكس المجتمعات التي لا تهتم كثيرا، في فضائها العام، بالدين، حيث أنها تعتبر الدين علاقة مباشرة وعمودية بين الإنسان ومعبوده، أيما كان هذا المعبود، فهي لا تقسم الناس هذا التقسيم، بل ربما لا تهتم كثيرا بعقيدة الأشخاص، فلا ينقسم الناس فيها إلى: مؤمن وكافر، بل تقبل كل المعتقدات دون تمييز، بل أكثر من ذلك فهي تقبل ألا مُعْتَقِد "دينيا".
نقول إن المجتمعات المتدينة تضع الكفر في أحط منزلة وتنظر للكافرين نظرة فوق كونها متدنية فبها الكثير من الحقارة والعديد من الدناءة وتنسب للكفر كل الآفات بل وتجعله سبب كل فاقة، دون رجوع لواقع العالم ككل، فهذه المجتمعات تقيِّم الأشخاص بما يظهرونه من تدين: سواء كان هذا التدين حقيقيا يعمل صاحبه على تحقيق جوهر الدين وأهدافه السامية أو كان هذا التدين مجرد تدين شكلي لا يحقق صاحبه أي قيمة حقيقية من القيم التي تنادي بها الأديان.
ومن هنا فحينما تريد تلك المجتمعات أن تصف شخصا أو شيئا بأبشع الصفات فيكفيها أن تطلق عليه صفة أو لفظة الكفر، ولأنه ليس هناك أقسى على النفس البشرية من الجوع فلقد لجأت تلك المجتمعات المتدينة إلى وصفه بالكفر، أو جعله هو والكفر سواء بسواء.
إن سد الجوع كان الهدف الأول لبني الإنسان، وكافة الكائنات الحية، فبدون سد الجوع لا يستطيع الكائن الحي أن يستمر في الحياة، ولعل ذلك كان سعي الإنسان الأول، الذي استطاع أن يعيش عشرات الآلاف من السنين دونما مأوى، ولكنه لا يستطيع أن يعيش بضعة أيام دونما طعام، ولقد كان تأمين الطعام سببا في صراع مستمر بين الإنسان والطبيعة مرة وبين الإنسان وباقي الحيوانات مرة أخرى وبين الإنسان وأخيه الإنسان مرة أخيرة، وإن كان الإنسان قد استطاع التغلب على الطبيعة، في الكثير من الأحيان، بعدما نضج بشكل كبير، وكذلك استطاع ترويض الحيوانات مستغلا إياها للتغلب على الجوع مرة باتخاذها طعام له، وأخرى باستخدامها كآلة لمساعدته في تحقيق الوفرة من الطعام، فإن صراعه مع أخيه الإنسان نتج عنه خسائر بشرية هائلة، كان سببها الأول هو تحقيق ما يكفيه من حاجة وفي مقدمتها الطعام.
والجوع، إن لم يكن اختيارا كما هو الحال عند الزاهدين والمتريضين روحيا، يُظْهِر في الإنسان أسوأ ما فيه، ويجعله، حال تمكن منه تمكنا كبيرا، في مواجهة مع خالقه متسائلا عما اقترفه حتى يضيق عليه وبه الحال ليصل إلى هذه الحال من الفاقة والفقر ومن ثم الجوع الذي يقرص على معدته الخاوية وأمعائه الفارغة! في ذات الوقت الذي يجد أقرانا له من بني الإنسان، ليسوا أكثر منه طاعة، ولا أفضل منه سلوكا ولا أرقى منه، على ما يزعم، إيمانا وهم يتنعمون في الخيرات ويملؤون بطونهم بما لذ وطاب ويتقلبون في النعم، فإذا بهم على حافة الكفر، إلا من رحم ربي، حيث لا إجابة مقنعة، ولا موعظة مجدية، ولا وعودا متحققة.
ولعل ما نشاهده عند عديد العوام في الصيام في نهاية اليوم من عدم القدرة على السيطرة على النفس، لهو دليل قاطع على ما يتركه الجوع في نفس الإنسان من ضعف يدفعه إلى حماقات لم يخطر ببال أحد أن تصدر عن الإنسان، ولعل أبرز ما يعكس عمق تلك المقولة السائرة: الجوع كافر ما يحله الشرع الحنيف في حالات الجوع القصوى من السماح بأكل المحرمات، هذا الذي لو قام به الإنسان في الأوقات الطبيعية لوصف بكل قوة بالكافر.
إننا نذهب إلى أن مقولة الجوع كافر ليست من باب المبالغة وليست من باب المجاز، بل إننا نذهب إلى أنها تأتي في باب التشبيه البليغ الذي يحذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه كقولنا: الجندي المصري أسد.
ولعله من المناسب هنا أن نذكر أن أولى مهام الدول والحكومات بل والمنظمات العالمية هو توفير الطعام لسد الجوع، ولعل ما يذكره ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الحق في الغذاء ما يؤكد تلك المقولة: الجوع كافر، حيث يعتبر ميثاق الأمم المتحدة حق الإنسان في الغذاء الكافي أساسيًا للتمتع بجميع الحقوق. فدون سد الجوع لا يستطيع الإنسان أن يتحصل على أي حق من الحقوق، فهو الحق الأول يتبعه بقية الحقوق من حرية وكرامة.
ولعل في ما رفعته الثورة المصرية من شعار: عيش حرية عدالة اجتماعية، مُقَدِّمَةً العيش "الخبز" – الذي هو النوع الأهم في أنواع الطعام بالنسبة للإنسان المصري - فوق كل شيء ما يؤكد على بشاعة الجوع.