"تترك وطنك فقط، عندما لا يترك لك الموطن مجالاً للبقاء " .
بدأ الغرب الاتصال بالشرق في العصر الحديث عن طريق البعثات التبشيرية الغربية. وقد وصلت أول بعثة تبشيرية أمريكية الى مدينة يافا في فلسطين عام ( 1821) وبعد سنتين أي في عام (1823) وصلت بعثة تبشيرية امريكية أخرى ، استقرت في مدينة بيروت، ثم استمرت البعثات التبشيرية تصل الى بلاد الشام ، حيث أنشأت المدارس ومعاهد التعليم في العديد من مدن لبنان وسوريا وفلسطين ، كما قدم العديد من السياح الأوروبين والامريكيين. وهذا ما أسهم في تعريف أهل المشرق العربي باوروبا وأمريكا ، ولو على نطاق محدود . وتأسست الكلية البروتستانتية السورية عام (1866) على أيدي الأمريكيين فى بيروت . وقد اصبحت فيما بعد (الجامعة الأمريكية في بيروت) كما أسس المبشرون الفرنسيون (الجامعة اليسوعية ) في بيروت أيضاً في عام (1875)
وقد ساعد انتشار المدارس والجامعات على نشر العلم والمعرفة ، وقيام عصر النهضة العربية أو عصر التنوير ، الذي كان للمسيحيين فيه الدور الأهم في نشر الوعي وتنوير الأذهان والقضاء على الجهل والتخلف المستحكم في ظل الحكم الشمالي البغيض
وعن هذه السُبُل عرف أهل المشرق العربي، صورة براقة للحياة الحرة الكريمة في اوروبا وأمريكا
دوافع الهجرة الى امريكا
كان للهجرة الى امريكا دوافع متعددة لدى سكان المشرق العربي ومنها : .
* كثرة السماسرة ووكلاء البواخر ، الذين كانوا يشجعون الناس على الهجرة.
* تأثير المهاجرين أنفسهم، خاصة أولئك الذين حققوا نجاحات هامة في هجرتهم ، على أقاربهم وأصدقائهم ، ودفعهم الى الاقتداء بهم، عن طريق المراسلات ، او عند عودتهم لزيارة وطنهم .
* تدفق الأموال، التي كان يرسلها المهاجرون الى ذويهم ، والتي كثيراً ما كانت تستخدم، في بناء العمارات الكبيرة التي كانت بمثابة دعاية حقيقية للهجرة.
* لعل من أهم دوائع الهجرة ، هي الضائقة المالية والاقتصادية التي كان يعاني منها سكان بلاد الشام منذ منتصف القرن التاسع عشر،وحدوث المجاعات بين حين وآخر. وهذا ما دفع الكثيرين الى الهجرة والبحث عن آفاق جديدة للعمل والعيش الكريم . إضافة الى إنحطاط الزراعة والصناعة والتجارة .
* زياده عدد السكان، والضغوط السياسية والاجتماعية والدينية والطائفية، وحدوث حروب اهلية بين حين وآخر، كما حدث في عام (1860)
طلائع المغتربين
استفادت الهجرات الى أمريكا من مناخ الحرية السائد فيها ، وكان البحر هو طريق الهجرة الوحيد، وكان أول المهاجرين هو اللبناني (انطونيوس يشعلاني ( الذي وصل الى مدينة بوسطن في عام ( 1854 ) ثم انتقل للعيش في مدينة نيويورك . وهذا ما أكده المؤرخ (د.فيليب حتي ) وقد امتاز (البشعلاني ) بالذكاء والشجاعة ، وعمل في تدريس اللغة اليونانية واللاتينية والعربية ..
والشخص الثاني من أوائل المهاجرين كان اللبناني (سهيل صابونجي ) الذي وصل إلى أمريكا بدعوة من المبشر الأمريكي المعروف (كورنيليوس فان ديك) رئيس البعثة التبشيرية الأمريكية في بيروت والمدرس في الجامعة الأمريكية .
ملحمة الهجرة
الحكايات عن (ملحمة) الهجرة إلى أمريكا في بداياتها كثيرة ومثيرة . وحكايات الاغتراب التي حفظها لنا التاريخ عن الآباء والأجداد،تقود الى حيث الكّد والشقاء، والصبر الطويل
ويبدو أن المرأة لم تكن بعيدة عن هذه المغامرة اذ انها بدورها قد شاركت الرجل في ترحاله وحله ولعل (غندورة) المرأة اللبنانية التي حاولت أن تلحق بزوجها في العام (1910) تختصر المعاناة التاريخية من جهة، ومن جهة اخرى ، تؤكد مساهمة المرأة اللبنانية في إنجاح المغامرة العائلية المهاجرة .
المغامرة
تحملت (غندورة) أعباء السفر ، ورحلت لكي تدقّ باب العالم الجديد، وكان الكثير من المصاعب يجعل من رحلة الهجرة ، خاصة بالنسبة إلى صبية أوامرأة مغامرة ، بكل ما في الكلمة من معنى . والذكريات التي ترويها هنا ، هي من أجل لقاءات أجرتها الكاتبة اللبنانية الأصل ( أليكا نف) مع عدد من الرواد المغامرين الذين وضعوا اللبّنات الأولى لملحمة هجرة الجالية اللبنانية إلى العالم الجديد .
وفي مقابلة أجريت مع ( غندورة ) في مدينة لوس أنجيلوس سنة (1962) تروي غندورة للكاتبة قصتها ، عندما حاولت ان تلحق بزوجها سنة (1910) وكيف ركبت البحر ، وطفلها بين ذراعيها، مع أحد عشر شخصاً من أبناء بلدتها ، وكان ابن عمها يعرف بعض الكلمات الانكليزية، وهذا ما أهله كي يشرف على أمورهم .
وحين رفضت أخته وزوجته في مدينة مرسيليا في فرنسا بسبب التراخوما، قرر ابن عم غندورة أن يسلك بجماعته الطريق من جديد الى المكسيك للوصول الى الولايات المتحدة.
و تذكر ( غندورة ) أنها دارت العالم لمدة ستة أشهر، وتحكي وهي ترتعش من الذكرى : "ذهبنا الى البرازيل ، وإلى مكان كان فيه جبل تخرج من النار ، وتوقفنا أيضاً في (بورتو ريكو) و(وغواتيمالا ) وفي أمريكا الوسطى، اجتزنا نهراً على ظهور الثيران ومشينا عبر جبال وغابات . وكان مكسيكي يقودنا ، ووصلنا الى ( أريدو) في المكسيك ، حيث استقبلنا زوجي ، ولم نستطيع أن يجتاز الحدود، وعندثذ استقلينا قطاراً الى (فونتيري) ومن ثم الى ( الباسو ) ، واستُقبلنا هناك وعبرنا ... " .
في مجال العمل
في العالم الجديد لم تركن المرأة الى الراحة ، وكان أول عمل مارسته هو التنقل في جولات يومية من أجل مهنة البيع المتنقل ، حيث تنطلق النساء الى الأحياء ، يطرقن أبواب البيوت لبيع أشياء بسيطة تحوزتها مثل الجوارب ودبابيس الشعر وكبب الخيطان وغيرها.
ولقد كان باستطاعة المرأة أن تحدد بشكل أدق ، ما تحتاجة المرأة ، وكان باستطاعتها أن تنجح في الدخول الى اي بيت أكثر من الرجل ، وتقيم الحوار ولو بالإشارات مع الشارية، وكان الزبائن من يثقن بهن أكثر وكن يحصلن دائماً على زبونات جديدات وكثيراً ما تحول قسم منهن إلى صديقات، عندما أصبحت اللغة بمتناول اليد ....
وكتب ( سلّوم مكرزل) سنة (1929) بخصوص إسهام المرأة البائعة المتجولة في اقتصاديات لبنان وسوريا ، ورأى أنها لعبت دوراً، وأشار إلى أنها لفتت انتباه الباعة الرجال الى سلع جديدة يحملونها ، كلوازم المرأة واغطية الأسرة، وتتأكد اهمية ذلك حين تعرف أنه بعد افتتاح باب الهجرة إلى أمريكا، وصل اليها ما بين ما في (1920- 1924) آلاف المغتربين من سوريا ولبنان ، كان من بينهم (45) بالمائة من النساء .
و تروي احدى اللواتي ساهمن في المغامرة العائلية سنة (1926) إلى أنها هي ووالدتها كانتا بائعتين متجولتين ، وكانت هي تسلك جانباً من الشارع، وتسلك أمها الجانب الآخر ، وكان لا بد للبائعة أو البائع المتجول من الحصول على رخصة لممارسة هذا العمل ..
واذا كان المجتمع الأمريكي بادئ الأمر ، قد نظر باستهجان الى عمل المراء كبائعة متجولة ، فإنه لم يفهم إلى أي درجة كان تعاني المرأة من أجل أسرتها ، فقد درأت مكاسب الزوجات والأوبات ،والبنات والأخوات ، وتضحياتهن وعملهن ، الفقر والاخفاق في حالات عديدة ، ومكنت الأسرة والعائلة في حالات اكثر عدداً ، من أن تحسن مواقعها الاقتصادية بسرعة أكبر ، و لتنطلق بعدها في مغامرة جديدة من التجارة .
وتروي احدى المهاجرات وكانت في الثانية عشرون عمرها عام 1892 عندما بدأت عملها: " كان والدي يصطحبني في التجوال . وكان المزارعون عندما يشاهدوني و أنا بنت صغيرة ، كانوا يساعدوني.
المشاركة
لقد عمل ما يقارب (80%) من نساء الجالية في البيع المتجول، وذلك خلال المرحلة الريادية للهجرة ، وقد تخلت معظمهن عن هذا العمل كي تتزوجن بعد فترة كفاح ، وينشئن أسرة ، فإن عدداً كبيراً يبعث على العجب، إذ استمررن فيه حتى الثلاثينات والأربعينات، بعد إنصراف الرجال الى مهن أخرى، وتروي احداهن بأنها اصلحت السجاجيد ، حيث كان زوجها بائع جوال للسجاد الشرقي .
والمتبع للعديد من تجارب النسوة ، يخرج بنتيجة مؤكدة وهي أن المرأة ساهمت بشكل فعال في نجاح المغامرة العائلية المهاجرة ، حتى من الممكن القول أن في حياة كل عائلة ناجحة امرأة عملت الكثير ، حتى أن البعض منهن ، كنّ يغادرن لبنان لبضع سنوات ، ويتركن أطفالهن وراءهن ، حتى إذا جمعن تكاليف إعادة بناء أو ترميم المنزل في الوطن عُدنّ ، وبعد أشهر يرتفع القرميد الأحمر ، وتتفتح المصاريع الخضراء للنوافذ، فتظل دعوة مفتوحة للجميع نساء ورجالاً وصباياً وشباباً للأشتراك في مغامرة البحث عن الرزق والثراء،ويستمر النهر بالتدفق، ولا يتوقف عن ضغ الطامحين.
إعادة الإعمار
في (30) نيسان / أبريل من عام (1854) كتب الدكتور (كارسيلو) من الإرسالية الأجنبية لكنيسة سكوتلاندا الى لبنان "في القرى التي مررنا بها ، حيث كانت عمليات البناء جارية في عدد كبير منها ، وكانت سقوف المنازل الطينية تنتزع، وتوضع مكانها سقوف جديدة من قرميد مارسيليا . وكانت الأشياء جميعاً تتحدث عن الرخاء والازدهار . وقبل ثمانية عشر عاماً، لم يكن في الناحية كلها بيت قرميد واحد ...."
لقد كان اللبنانيون كما الطيور المهاجرة ، التي تقصد مواطن الدفء ، قد قصدوا بلاداً بدأت ترد منها حكايات عن الثراء والذهب كثيرة...
حكاية السندباد بدأت تُستعاد من جديد ، لكن هذه المرة ليس حول المواقد وفي السهرات ، بلى على صفحة الموج على ظهر السفن والبواخر.