التعددية في بناء المجتمعات بقلم د.علي أحمد جديد

التعددية في بناء المجتمعات بقلم د.علي أحمد جديد
التعددية في بناء المجتمعات بقلم د.علي أحمد جديد
 التعددية دلالة على نظامٍ اجتماعي وسياسي يضم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بمظهرها الديموقراطي الذي يتيح  تداول السلطة وإشراك مختلف الفئات والتوجهات في بناء مجتمع مسالم يرفض الإقصاء أوهيمنة فئة معينة على مقدراته .
و(التعددية) من المفاهيم المتداولة بكثرة من قبل الأحزاب والنخب الحاكمة في المجتمعات الديمقراطية ، حيث تقوم (التعددية) على إعطاء الحق للشرائح الاجتماعية المختلفة فكرياً أو عرقياً للمشاركة السياسية من خلال إنشاء الأحزاب والمنظمات المدنية المسالمة ، ويتم ذلك تحت سقف  دستور يرسم حدود الحريات ويضمن حقوق الناس دون تمييز بينهم على أساس العرق أو الانتماء .
وتُعَدّ الهند والولايات المتحد الأمريكية ، من الأمثلة القوية على المجتمع التعددي . ففي الهند هناك التعددية الدينية الأبرز في العالم ، حيث سكان الهند يتبعون أكثر الديانات المعروفة منها وغير المعروفة مثل : 
(الإسلام ، المسيحية ، الهندوسية ، السيخية ، البوذية ، اليانية .. وغيرها) . وبالرغم من ذلك فإن الشعب الهندي تتعايش أطيافه مع بعضها البعض في مجتمع سياسي ومسالم واحد . 
وتدل (التعددية) إلى الاختلاف في المواقف والآراء حول فكرة محددة أو نهج مطروح أو متداوَل ، مما يجعل للتعددية أجزاءها المختلفة والتي تتراوح بين تعددية دينية ، ثقافية ، سياسية .. واقتصادية ، حيث توضح كل من التعدديتين الاقتصادية والسياسية  وجود أكثر من نظام اقتصادي أو سياسي في الدولة الواحدة . أمّا التعددية الدينية فهي تدل على مجموعة توجهات دينية في المجتمع الواحد مع تشجيع واحترام التعايش السلمي والتوافق فيما بينها . وكذلك تعبّر التعددية الثقافية عن الأقليات التي تعيش ضمن مجتمع أوسع ، حيث تحتفظ بقيمها وبهويتها الثقافية وبممارساتها ،  ويتمّ تقبل هذه القيم من قبل ثقافة الأغلبية السائدة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ ثقافة الأقلية الواحدة أو الأقليات في المجتمع الواحد تكون كفسيفساء جميلة في لوحة متميزة بجماليتها لا تتنافى مع نظام الدولة القائمة فيها ولا تخالف قوانينها . وعندما تتنوع لَبِناتُ المجتمع بأفرادٍ من خلفياتٍ متنوعة وتجارب عديدة ، تكون القدرة على ابتكار الآراء والأفكار ، وعلى تنامي المنافسة في تقنيات الانتاج ، قد لا يتمكَّن الآخرون المهيمنون التفكير فيها أو ممارستها ، إذ أن لكل فرد أسلوبه الخاص وخبرته المختلفة في التعامل مع أمر ما أو في مهنة ما بناء على الخبرة الشخصية والعادات الاجتماعية والثقافية الموروثة . ودليل ذلك تميز المجتمع السوري بتعدديته (السريانية والعربية والآشورية والأرمينية والكردية .. وغيرها) .
ومما لاشك فيه أن المجتمع السوري يتعرض في الحياة اليومية لممارسات وثقافات وتقاليد مختلفة عن بعضها البعض ، وهو ما يجعل المراقب مندهشاً من آثار هذا التعايش و الاندماج . 
كما تُعَدّ (التعددية) البداية الأولى للتسامح مع الآخرين عن طريق الاتفاق المتنامي بين أفرادٍ يحملون أفكاراً فريدة ومبدعة متميزة ، لأن التعامل والتواصل فيما بين الأفراد أو المجموعات يكشف وجود الكثير من الأمور المشتركة مع الآخرين .
ويشكل مفهوم (التعددية) من الناحية السياسية ، الذي يسمح بالتعبير بطرق سلمية عن المصالح والمعتقدات والمطالب المختلفة ، سمةً أساسية من سمات الديموقراطية ، ويستلزم ذلك أن تتضمن البنود الدستورية في المجتمع السليم درجة ما من تلك التعددية . كما تتضمن الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان بعض الضمانات لوجود تلك التعددية ، إلا أنها تبقى مقتصرة على تعريفات "الحد الخارجي" أو "الحدود الدنيا" في حماية التعددية . وفي هذا السياق فإن مؤلفي الدساتير لديهم العديد من النماذج الدستورية التي تتفق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان ، ولكنها قد تكون أقل أو أكثر تواؤماً وانسجاماً مع مفهوم (التعددية) .
وكاتبو الدستور - أي دستور - لابد وأن يحتسبوا العوامل الأخرى إلى جانب (التعددية) كالاستقرار السياسي مثلاً . لأن الإصرار على نموذج عال من (التعددية) السياسية في الدستور قد يعوق الاستقرار ، ذلك لأنه يتسبب في تفتيت السلطة إلى أكثر مما ينبغي ،  ولابد من التوازن المناسب لكتابة ضمانات تقوية التعددية في أي دستور وطني . كما تساهم النظرة الشمولية لمفهوم (التعددية) في الدستور أثناء مفاوضات كتابة بنود الدستور في تقديم تنازلات متبادلة بين المتفاوضين ،  كالخلاف حول شكل النظام الانتخابي مثلاً ، فالذين يخشون عدم تمثيل الأحزاب الصغيرة يمكنهم ان يقبلوا بحَلٍّ وسط قائم على وجود درجة معينة من اللامركزية تتضمن تمثيلاً فعالاً على المستويات المحلية . وما من شك بأن العوامل المجتمعة كالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية تؤدي دورها الرئيس في الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد والتي تقسم الشعب الواحد أحزاباً وشيعاً ، لذلك لابد من الإشارة إلى أن (الحزب) هو مؤسسة تؤدي دوراً مهماً وأساسياً في أي مجتمع حين يكون الحزب فيها وسيطاً نزيهاً بين القيادة السياسية وبين الجماهير الشعبية .
ولعل من أهم أسباب تعدد الأحزاب في دولة ما ، هو وجود تعددية فكرية وعقائدية وإثنية عِرقية ودينية وطائفية . وكل فئة من هذه الفئات تسعى لضمان حقوقها من خلال نفوذ سياسي يتمثل في طموح الوثوب إلى المراكز القيادية في السلطة .
 وقد ساهم تبني بعض الدول لمبدأ (الديموقراطية) في نظام التمثيل النسبي والانتخاب غير المباشر بتعزيز أو في نشوء ظاهرة مايمكن تسميته (التعددية الحزبية) ، لأنه وفق نظام التمثيل النسبي لا يتم هدر الأصوات الانتخابية ، لأن الأقليات في أي مجتمع يمكن أن تتمثل داخل المجالس المحلية بنسب تساوي ، إلى حد ما ، حجمها الحقيقي . وهذا ما يمكن ملاحظته في كثير من الدول مثل (إسبانيا وايطاليا) التي تتبنى نظام التمثيل النسبي المذكور .
وإن نظام التعددية الحزبية على الرغم مما يتمتع به من مزاياه الإيجابية إلا أن ذلك لا يمنع وجود عيوب ظاهرة فيه وغير ظاهرة ،  بما يمكن توضيحه :
 
* أولاً : مزايا التعددية الحزبية .
 
لابد من ذكر مجموعة نقاط تُحسب لصالح تعدد الأحزاب مما يجعل لها دوراً ايجابياً في الحياة السياسية ومن هذه النقاط :
 
1). الانتقال من نظام حكم الحزب الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب ، ويمثل ذلك مرحلة جديدة من المشاركة السياسية التي يشكل السلوك الانتخابي للمواطن دعامتها الأساسية بوصفه سلوكاً جماعياً وإحصائياً بطبيعته ، فهو يسمح بمعرفة مدى انتشار القيم السياسية الديموقراطية في أوساط الشعب ومدى وعي المواطن لطبيعة العمل السياسي وأهدافه ، وكذلك يحدد مدى انتشار الأحزاب داخل المجموعات المختلفة للناخبين من خلال تأييدهم لمواقفها السياسية والأيديولوجية ، ويعتبر ترجمة حقيقية لمواقف الناخبين السياسية ، التي تحدد مدى قوة كل حزب سياسي حسب شعبيته .
 
2).  إفساح المجال لتمثيل جميع الأحزاب السياسية في المجالس وهو مايتيح لهذه المجالس أن تعكس أفكار الأحزاب وميولها .
 
3). نشر أيديولوجية (الديموقراطية) بين الناخبين ، وكذلك الاتصال الدائم بين جمهور الناخبين وبين نوابهم المنتَخَبين تحت قبة المجلس .
 
4). يمثل تعدد الاحزاب نوعاً من جماعات الضغط على الحكومة كرقيبٍ لممارسة الإصلاحات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والخدمية .
 
5). يكون نظام تعدد الأحزاب العامل الأهم المساعد على تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات .
 
6). تؤدي التعددية الحزبية إلى إيقاف إهمال البعض من أعضاء الحكومة ومقاومة تجاوزاتهن وطغيانهم واعتداءاتهم على حريات الأفراد أو الجماعات . كما أن التعددية الحزبية تسمح بتكوين القادة السياسيين على اختلاف اتجاهاتهم تكويناً سليماً في ظل التعددية ، وتخلق حواراً مثمراً ومعارضةً ناضجةً و قائمةً على الحوار السلمي .
 
7). يؤدي نظام تعدد الأحزاب إلى خلق معارضين لسياسات الحكومات الخاطئة يعملون بشكل علني يضمنه الدستور وبمشروعية قانونية للوصول إلى الدفاع الفعلي عن أهدافهم وأفكارهم في الإصلاح والتنوير و البناء .
 
*ثانيا : إن التعددية الحزبية وعلى الرغم من المزايا التي تتمتع بها إلا أنها لا تخلو من المساوئ والسلبيات والعيوب . وأبرز هذه العيوب التي تتصف بها التعددية الحزبية تتمثل في :
 
1). قيام التعددية الحزبية على أساس الانتماءات الثانوية ، أي على أسس إثنية عِرقية وطائفية ومذهبية ، لا على أساس الهوية الوطنية ، إذ أن ازدياد عدد الأحزاب يؤدي في النهاية إلى إضعاف مفهوم المواطنة والولاء الوطني ، وتغلب عليه الولاءات الفرعية من الإثنية العِرقية والمذهبية والطائفية .
 
2). تؤدي التعددية الحزبية إلى تفرقة المجتمع الواحد وتقسِّمه إلى جماعات لكل منها مبادئها وعقيدتها المناوئة لعقائد الأحزاب الأخرى بحيث لا تقبل التفاهم ولا التعايش ولا المهادنة .
 
3). تعتبر التعددية الحزبية سبباً في انعدام الاستقرار الحكومي والمجتمعي ، حيث لا توجد أغلبية  تدعم الحكومة خلال الفصل التشريعي ، وهو ما يؤدي إلى التغيير والتبديل وفي كثير من الأحيان إلى الفوضى .
 
4). تؤدي التعددية الحزبية إلى تقليص دور القيادات في السلطة وفي المجالس نتيجة سيطرة حزب أو أحزاب الأغلبية المؤتلفة عليه أو معه .
 
5). يؤدي نظام التعددية الحزبية إلى إضعاف المعارضة الإيجابية والبَنّاءة ، لأنها لا تتركز بيد ائتلافٍ حزبي واحد يجنّد لها إمكانياته ، وإنما تكون متوزعة بين عدد من الأحزاب توزيعاً غير متناسق ، وتكون غير متفقة في مبادئها وأهدافها ، وتبدو فيه المعارضة بأنها لا تتميز باستقرارها ولابثباتها على شكل واحد ولا على قرار واحد .
 
ومن خلال ما تقدّم من عيوب التعددية الحزبية إلا أنها ذات أهمية في النظام  الممثل لفكرة الديموقراطية ، التي يؤمن مريدوها بأن التعددية هي أهم المعوقات في طريق الاستفراد و الديكتاتورية . كما يمكن القول أن نظام التعددية يعني اشتراك أكثر من حزب في جبهة وطنية واحدة تسعى إلى استقرار المجتمع ، ذلك لأن نظام التعددية الحزبية يحقق نوعاً من التوازن داخل مؤسسات الدولة الثلاث :
- السلطة التشريعية .
- السلطة القضائية .
- السلطة التنفيذية .