حسني حنا يكتب : دائرة معارف البستاني ... المعرفة في زمن الجهل

حسني حنا يكتب : دائرة معارف البستاني ... المعرفة في زمن الجهل
حسني حنا يكتب : دائرة معارف البستاني ... المعرفة في زمن الجهل
 
"ابحث أنت عن المعرفة، فالمعرفة لا تبحث عن أحد".
*Anatole France
 
 
في العام (1875) صدر العدد الجديد من صحيفة (الجنان) الدورية في بيروت وفوجئ القراء بأن رئيس تحرير الصحيفة بانه سيقوم باصدار (موسوعة Encyclopedia ) او دائرة معارف عصرية ، هي الأولى من نوعها باللغة العربية يومها. 
 
المعلم بطرس البستاني
هو أحد كبار رواد النهضة العربية ، أديب وموسوعي ومربي و مؤرخ ، وهو مؤلف أول موسوعة عربية سماها (دائرة المعارف) . وأول من أسس مدرسة وطنية عالية راقية ، وأول من أنشأ مجلة هادفة سامية ، وأول من ألف قاموساً عربياً عصرياً مطولاً سماه ( معجم محيط المحيط) وهو أول قاموس عصري في اللغة العربية، تمت طباعته في مجلدين كبيرين ، وهو الذي قام بترجمة الكتاب المقدس الى اللغة العربية ، وقد انتهى عن ذلك في عام (1864) وأصدر جريدة باسم ( نفير سوريا ) و (الجنان) ، وهو أول من نادى بتعليم المرأة . وقد كان يعرف العديد من اللغات منها ( السريانية، الايطالية ، الفرنسية ،العبرية ،اليونانية والانكليزية.
 ويقول العلامة البرت حوراني (ت 1994) وهو من أساتذة التاريخ والعلوم السياسية في جامعة Oxford في انكلترا ، حول ذلك ما يلي :
"ارتسمت علائم الدهشة على وجوه كثرة ، عربية وغير عربية على حد سواء، إنهم يعرفون المعلم بطرس البستاني بوصفه مترجماً و مدرساً وباحثاً وكاتباً ، وله قراؤه في بلاد الشام ومصر، لكنهم لا يعرفون أن الرجل تلقى علومه في أوروبا مثلا ، بما يؤهله لأن يباشر هذا المشروع الشديد العصرية والمطالب والمصادر والتمويل" ....
 
صدور الموسوعة
وسط ضباب التشكك فوجئ هولاء وأولئك بصدور أول مجلد من (دائرة المعارف) في العام (1876) باللغة العربية، وتحت هذا الإسم عنوان فرعي باللغة الفرنسية. يقول : (موسوعة عربية ) . وهذا ما احتفل به القوم يومها . وما أن جاء عام (1882) حتى كان قد صدر من موسوعة البستاني العربية خمسة مجلدات كاملة ، ثم أتي العام ( 1883) ليشهد حدثين أساسيين :
- الأول : هو صدور المجلد السابع من ( دائرة المعارف)
- الثاني : إعلان وفاة المعلم بطرس البستاني ، صاحب الموسوعة ومؤسسها الأول.
 
 
 الموسوعة بعد المعلم ابطرس البستاني
بعد وفاة المعلم بطرس البستاني ، تولى الأمر من بعده ابنه (سليم البستاني) الذي كان مساعده منذ البداية وصدر المجلد الثامن من الموسوعة في العام (1883) وجاء هذا العام بدوره ليعلن وفاة سليم الابن ، وبدأ البطء يشوب مسيرة الموسوعة ، التي قام أيضاً على أمرها ولدا البستاني الكبير ( نسيب ونجيب)
وبعدها قريبه (سليمان البستاني) ، فكان أن صدر المجلد التاسع ، وأعقبه المجلدات العاشر والحادي عشر في العام (1900) لكنهما لم يصدرا كالعادة في مدينة بيروت، بل صدرا في القاهرة عن مطبعة الهلال الشهيرة.
وكان المجلد الحادي عشر ، هو خاتمة المجلدات ، من ذلك المشروع الموسوعي الطموح، الذي راود وجدان المعلم بطرس البستاني ، واحتل مساحة واسعة من اهتمامه بثقافة العرب وحضارتهم. وكان الموقوف عند حرف (العين) وكانت آخر مقالات الموسوعة العربية عن الأسرة العثمانية الحاكمة في ذلك الحين في استانبول ، حيث كان السلطان عبد الحميد الثاني، ينوء بكل ثقله وفساد حكمه ، على مقدرات الدولة العلية، التي كانت بدورها، تعاني سكرات الاحتضار.
 
الاهتمام بالموسوعة 
لاقت (دائرة معارف البستاني ) منذ صدورها اهتماماً كبيراً وهي ما زالت إلى الآن ، من أهم الأعمال الفكرية وأشملها من نوعها في اللغة العربية.
ويتوارد إلى الذهن السؤال التالي : كيف تسنىّ طباعة عمل موسوعي بهذا الحجم الكبير في مدينة مثل بيروت، التي كانت وقتها مدينة متوسطة الحجم، بين حواضر امبراطورية بني عثمان المترامية الأطراف؟!..
وصحيح أن  دوائر المعارف ، نشرت قبل ذلك بقرون في عدد كبير من البلدان الأوروبية ....
 
 
 لماذا في بيروت
إن إجابات كثيرة ، يمكن أن تُساق على مثل هذا السؤال منها : أن مدينة بيروت كانت وقتها رغم صغر مساحتها ، مدينة سريعة التطور، تنتفض بحيوية التواصل مع أوروبا ، بأفكارها وتقاليدها عن طريق البحر المتوسط. ومنها أن المسيحيين كانوامنفتحين على الغرب، وعلى فرنسا وانكلترا بشكل خاص. وقد تعلموا الفرنسية والانكليزية وقاموا بجهود رائعة، في الترجمة من لغات أوروبا الى العربية، ومن التراث العربي الى لغات أوروبا ، و أثّروا في مقتضيات قيام النهضة العربية الحديثة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد عملوا على تقديم الحضارة الأوروبية ، وفكرها ومناهجها المتطورة إلى قومهم الناطقين باللغة العربية في البلدان العربية
 
من أعمال بطرس البستاني
اتصل المعالم بطرس البستاني بالمبشّرين الأمريكيين القادمين إلى لبنان ، ليعمل معهم مترجماً واستاذاً للغة العربية، حيث تعلم منهم اللغة الانكليزية ، التي أجادها بطلاقة . وتحول إلى مذهبهم البروتستانتي. ودرس معهم كذلك اللغتين اليونانية والعبرية، من أجل المزيد من فهم الكتاب المقدس بعهديه القديم (التوراة ) والجديد ( الانجيل ) وهذا المزيج من المعارف واللغات والتجارب قاد بطرس البستاني ، إلى أهم مشاريع حياته ، في عالم الفكر والمعرفة والتربية والابداع.
 
 
المدرسة الوطنية
أنشأ المعلم بطرس البستاني (المدرسة الوطنية) وأراد لها أن تكون معهداً، يضم الشباب المتعلمين، دون تفرقة على أساس دين أو مذهب أوطائفة ، وكان عرضها كما قال " أن يتعلم الطلاب حب أرض الأجداد، وأن يُتقنوا معرفة اللغة العربية " .
 
 
قاموس محيط المحيط
كان المشروع الثاني الطموح لدى المعلم بطرس البستاني ، هو إصدار قاموس (محيط المحيط) وإصدار صحيفة (الجنان) ثم إصدار (دائرة المعارف) التي جاءت كما كتب صاحبها : "لكي تلبي حاجة أهل اللغة العربية . إلى أن يستقوا معارف عصرهم، من العلم الحديث والتكنولوجيا، وتاريخ أوروبا ، وتواريخ العرب و آدابهم".
 
روّاد أوائل
من الدوحة البستانية حيث لمع المعلم بطرس البستاني، وابنه سلیم، وسليمان البستاني، وفؤاد أفرام البستاني، كانت معها عائلات أخرى مسيحية في لبنان مثل عائلة (اليازجي) ممثلة بالشيخ ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم ، ومن أتى بعدهم مثل فرح أنطون وأمين الريحاني وجرجي زيدان وغيرهم الكثير ، ممن أسهم في إرساء دعائم نهضة عربية ثقافة ، أتت ثمارها المباركة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وقد تألقت خارج لبنان أسماء أعلام ، كانت لهم إسهامات كبرى في حركة النهضة العربية، وعصر التنوير العربي، من رفاعة الطهطاوي وتلاميذه فى مصر إلى الشيخ محمد عبده ، و قاسم أمين والشيخ علي عبد الرازق، وطه حسين وغيرهم. إلى عبد الرحمن الكواكبي ومحمد كرد على في سوريا إلى النشاشيبي وطوقان في فلسطين، والألوسي والزهاوي والرصافي في العراق ، وخير الدين في تونس ... نجوم زاهرة في سماء الفكر العربي ، ظلت تواصل عطاءها ، بعد أن أدخل الآباء اليسوعيون أولى المطابع العربية .
وقد دأب الجميع على ماكانت أوروبا تخرجه من نتائج الابداع ، خاصة في مضمار العلم والتكنولوجيا ، وما أبدعه موليير وغوته ووليام شكسبير ، فالحضارات تعطي وتأخذ على الدوام ، ولا تقبل التقوقع والانغلاق على الذات .
 
سليمان البستاني وترجمة الإلياذة
في إطار النهضة العربية وحركة التنوير ، يأتي دور سليمان البستاني في لبنان، وهو الذي وصفه المستشرق الانكليزي الأشهر (سير هاملتون جب ) بهذه العبارات في عام (1928) :
"إنه الرمز البارز بإمتياز للمجتمع المسيحي في بلاد الشام في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ، لكل ما كان يقوم عليه أبناء هذا المجتمع من أنشطة شديدة التنوع بها شغف الى المعرفة ...".
بين منطقة (الشوف) و (بشرّي) و (دير القمر) من جبل لبنان عاشت عائلة البستاني، فنشأ صاحبنا سليمان ، حيث ولد في عام (1858) وتلقى علومه في (المدرسة الوطنية) التي أنشأها قريبه المعلم بطرس ، وفيها تعلم اللغة الفرنسية والتركية وعمل على إتقان اللغة الانكليزية.
وساح سليمان البستاني في بلاد الله الواسعة ، فزار اليمن ونجد والهند والعراق واستانبول وشيكاغو، كما عمل محرراً في مجلة (المقتطف)..
 
 
 نشر ملحمة الإلياذة
في عام (1904) طالعت مطبعة الهلال لصاحبها جرجي زيدان جماهير القراء بنشر ترجمة الالياذة، التي كان سليمان البستاني قد بدأها منذ عام (1887) وأمضى سبعة عشر عاماً عاكفاً على الترجمة، التي نُشرت في كتاب أنيق جاء في (1260) صفحة
 
 
الاحتفال بصدور ترجمة الالياذة 
لا عجب أن يكون صدور إلياذة هوميروس الذي عاش في القرن (8 ق.م) محوراً لاحتفالات كبرى ، ولهذا أقيمت حفلة عشاء حافلة في فندق ( شبرد) في القاهرة في شهر حزيران/ يونيو من عام (1904) تكريماً لمترجم الالياذة ، ضمت صفوة الصفوة من أهل الفكر والسياسة على السواء. فرسان الشعر الثلاثة الكبار (شوقي وحافظ ومطران ) ورجال العلم والثقافة ، والسياسة والصحافة ، ولفيف من المفكرين : ابراهيم اليازجي ، فارس نمر ، یعقوب صروف ، جرجی زیدان و جبرائيل تقلا ، بل ورجلين قُيض لهما تولي رئاسة الوزارة في مصر في قابل الأيام هما عبد الخالق ثروت وسعد زغلول.
وقد قبل الكثير من التقدير والثناء على سليمان البستاني على ألسنة أهل العلم والثقافة من عرب وأجانب، لكن لعل أهم ما قيل في الموضوع ، هو ما قالته (سلمى الخضراء الجيوسي) في كتابها (اتجاهات الشعر العربي الحديث) طبعة : ليون ( 1977):"إن الفضل الأول، الذي يعود إلى سليمان البستاني ، يتمثل في أنه كان سباقاً إلى فتح أبواب هذه الابداعات الأجنبية ، مما أتاح لشعراء العربية اليوم ، أن يقتبسوا صوراً وأخيلة ، ورموزاً وأساطير، تنتمي إلى العالم بأسرة "
وليس هذا في رأينا بالهيّن ، ولا بالقليل ..