في الوقت الذي ينشغل مجتمعنا المصري بتقبيل الدكتور حسام الموافي الذي يخلط خلطا مشينا بين العلم والدين ليد رجل الأعمال المصري محمد أبو العنين، وفي الوقت الذي تهاجم فيه الغالبية الساحقة من أبناء الشعب المصري مؤسسة تكوين التي تم إنشاؤها من قبل بعض الكتاب والمفكرين المصريين والعرب، وفي الوقت الذي انقسم فيه المؤيدون لضرورة مغادرة العقل العربي للخرافة والأساطير حول ما ذكره الباحث السوري فراس سواح إجابة على سؤال من الدكتور يوسف زيدان عن أهمية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من أنه وزيدان أكثر أهمية من العميد، فإن العالم يخطو خطوات واسعة في مجال العلم، بل إن العالم المتقدم قد استقل صاروخا في مشوار العلم الذي لا ينتهي بل يطلب المزيد.
فيوما بعد يوم يخطو العلم خطوات كبيرة بل يقفز قفزات مذهلة، وهذا نتيجة لتراكم المعارف البشرية التي كانت تتضاعف في الأزمان السحيقة؛ أزمان ما قبل التاريخ، والمقصود بها هي تلك الأزمان التي لم يكن الإنسان فيها قد اكتشف أو بالأحرى ابتكر عملية الكتابة، تلك التي سمحت له بالتدوين: تدوين التجارب والأحداث، فامتلك الإنسان أرشيفا يمكنه أن يعود إليه، نقول كانت المعارف الإنسانية تتضاعف كل عشرات القرون، ولكن ما أن استطاع الإنسان أن يسجل تلك المعارف ويحفظها إلا وأخذ في البناء عليها في حلقات متتابعة، فأصبحت تتضاعف المعارف كل بضعة قرون ثم كل قرن وهكذا إلى أن وصل الحال بنا في هذا العصر الذي أخص ما يميزه أنه عصر العلم بامتياز فأصبحت المعارف تتضاعف كل عدة ساعات، هذا الذي يعكس الطفرة العلمية والمعرفية الهائلة لهذا العصر الذي هو من السرعة بشكل مذهل، فلا يستطيع شخص مهما تمتع برجاحة العقل ومهما خصص من وقته للبحث والدرس أن يلم بما يتحقق من إنجازات أو اكتشافات في فرع واحد من فروع العلم أو المعرفة، وهذا ذاته ما يظهر الفرق ما بين التحصيل في عالم اليوم المتسارع والتحصيل في عالم الأمس الذي كنا نرى فيه هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم موسوعات زمانهم حيث كانوا يلمون بمعظم علوم تلك الأيام.
من بين ما يشغل بالي ويسيطر على اهتماماتي بشكل ملفت هو ما نطالعه عن محاولة العلماء إعادة مخلوقات قد اندثرت منذ أزمان طويلة، فكما تخبرنا نظرية التطور فإن الأنواع التي استطاعت أن تتكيف مع الطبيعة استطاعت بالتبعية أن تستمر في الوجود، وأن تلك الأنواع التي لم يكن لديها القدرة على التكيف مع الطبيعة كان مصيرها الفناء والاندثار.
ولكن بعد التقدم الكبير في علم الجينوم وهو أحد فروع علم الوراثة المتعلق بدراسة الجينوم، أي كامل المادة الوراثية داخل مختلف الكائنات الحية. يتضمن المجال جهودا مكثفة لتحديد تسلسل الحمض النووي بشكل كامل ورسم الخرائط الدقيقة للجينوم - نقول بعد التقدم الكبير في هذا العلم الذي استطاع العلماء فيه إلى الوصول فك شفرة الجينوم البشري كاملة، وهذه الصورة الكاملة للجينوم ستمنح البشرية فهماً أكبر لتطورنا، وبيولوجيانا، وستفتح الباب أيضاً للاكتشافات الطبية في مجالات كالشيخوخة، والحالات التنكسية العصبية، والسرطان، وأمراض القلب.
ولم تقتصر عملية فك شفرة الجينوم على الجينوم البشري بل لقد توصل العلم إلى معرفة الخريطة الجينية لعديد الكائنات حتى المندثر منها، ومن هذه الكائنات المندثرة التي قام العلماء بفك شفرة الجينوم الخاص بها كان جينوم إنسان نياندرتال، حيث من المثير أن نعلم أن الإنسان الراهن عاصر إنسانا آخر لفترة حوالي 150.000 عام هو الإنسان المسمى: النياندرتال، وحدث هذا حتى قبل حوالي 35 ألف سنة فقط، ومما يُذْهَب إليه أن الإنسان الراهن كان سببا في انقراض إنسان نياندرتال، وهذا أحد الأسباب التي أعلن عنها العلماء في سعيهم لإعادة هذا الإنسان للوجود، وكأنهم في ذلك يقدمون اعتذارا عما تسبب فيه أسلافنا، إن صحت نظرية أن الإنسان العاقل كان السبب في اندثار أخيه إنسان نياندرتال.
ولا تقتصر جهود العلماء على إعادة إنسان نياندرتال إلى الوجود ولكنهم يسعون إلى إعادة كائنات أخرى منها طائر الدودو
حيث في تقدم علمي مذهل، كشف علماء أنهم يحاولون إعادة طائر الدودو الذي انقرض منذ 350 عاماً إلى الحياة. ولهذا الغرض استخدمت شركة هندسة وراثية الحمض النووي المأخوذ من عينات عظام الطائر، مثل الجمجمة، لإجراء التسلسل الكامل لجينوم هذا النوع. وتعمل الشركة على تطوير دجاج معدل وراثياً على أمل أن يكون بمثابة أمهات بديلة لحمل أجنة الطيور المنقرضة، بحسب ما نقل موقع "ذا صن" البريطانية.
تحديد تسلسل الجينوم
فقد حقق العلماء بالفعل إنجازاً يتمثل في تحديد تسلسل الجينوم الكامل للأنواع المنقرضة، من عينات العظام والشظايا الأخرى.
وتتمثل الخطوة التالية في تعديل الجينات لخلية الجلد لأحد الأقارب الأحياء، وهو حمام نيكوبار، بحيث يتطابق جينومه مع جينوم الطائر المنقرض.
والهدف هو جعل الجينوم مطابقاً لجينوم الطائر المنقرض، أو الاقتراب منه قدر الإمكان، بمساعدة أداة تحرير الجينات Crispr-Cas9، وهي تقنية يمكنها "قص ولصق" أجزاء صغيرة من الحمض النووي، ما يعني أنه يمكن للعلماء حذف أو تعديل جينات معينة، بحيث تمثل الحيوان الذي يتطلعون إلى إعادة إنشائه بشكل أكثر دقة.
آخر مرة شوهد فيها
يذكر أن آخر المشاهدات المؤكدة لطائر الدودو كانت في ستينيات القرن السابع عشر.
وانقرضت هذه الحيوانات الكبيرة التي لا تطير في غضون بضعة عقود فقط من وصول المستكشفين الأوروبيين إلى جزيرة موريشيوس الواقعة شرق مدغشقر في المحيط الهندي، موطنها الأصلي، قبل 350 عاماً.
وحصل طائر الدودو على اسمه من كلمة برتغالية تعني "أحمق"، بعد أن سخر المستعمرون الأوروبيون من افتقاره الواضح للخوف من الصيادين البشر.
هذا ما يسعى ويشتغل عليه العلماء الحقيقيون، أما نحن فمازال بيننا وبين العلم بمفهومه الراهن آمادا بعيدة، لن نقطعها ونحن نمتلك تلك العقلية البائسة التي تشغل نفسها بتوافه الأمور.