الأقلام الصادقة الوفيّة التي تبتغي النبل في العطاء الإعلامي والسياسي والفكري والثقافي ، هي تماماً شئنا أم أبينا مثل الخيول العربية الأصيلة ، الحياة عندها لا تعني شيئاً أمام الجموح والشموخ كشجرةِ سنديان منتصبة ، وإثبات الذات ورفض الخنوع والاستكانة .
وهذه الأقلام التي تنشد الحقيقة الإعلامية والثقافية والفكرية ، لا يمكنها إلاّ أن تعيش في جوٍ حقيقيٍ وصريح من التنافس الشريف ، من خلالِ سمو الكلمة ، نحو هرمِ الإبداع النبيل ، لما فيه مصلحة الإنسان والوطن والأمّة .
تماماً أعودُ لنفسِ التشبيه الذي بدأتُ به ، فالخيول الأصيلة تُمارسُ رغبتها في الصهيل في الأجواء الرحبةِ الواسعة ، ولكنها لا تعتدي على أحد ، بل تعكس شعور الإرتياح ومزاج الفرح عند الآخرين .
وإذا افتقدت الأقلام الصادقة ثقافة الصهيل ، فإنها تتحوّل إلى أقلامٍ عرجاء ، مكسورة الخاطر ، شبيهة بالأغصان اليابسة ، وتتحوّل إلى أقلامٍ مريضةٍ ومُعاقة تنتظر رحمة خالقها ، أو من يُموّلها .
إنّ الذين يودعون أقلامهم و أوراقهم و دفاترهم وكتبهم وذاكرتهم في مزادٍ علني ، أو في بورصة تزييف الحقيقة الإعلامية والسياسية ، فإنهم يدقّون المسمار الأول في نعشِ أقلامهم ويُعجّلون في دفنها ، أو ينتظرون القتل الرحيم من جهةٍ ما ، لأنها ، أي هذه الأقلام وُلِدت مُشوّهة عاجزة وكسيحة ، لأن أول صفةٍ من صفات الأصالة هي الولاء والإنتماء للإنسان وللوطن .
إنّ الأقلام التي تنمو على الطحالب والوشايات ، وتتعكّز ليلاً نهاراً على همسات الجدران الخرساء ، وتلدُ لنا بعد عمليةٍ قيصرية مقالات ليس لها أي علاقةٍ بهمومنا و جراحاتنا وصراعنا الإنساني والقومي ، ومعاناة الإنسان اليومية بكاملِ مجتمعه ، حيثُ الفساد المتفشي والعهر السياسي ، ومصادرة حريات الرأي من كلّ صوبٍ وجانب ، فهذه المقالات لا يمكن ولا بأي شكلٍ من الأشكال أن تكون محسوبة على الأقلام النبيلة ، أو الخيول الأصيلة ، بل يتحوّل نتاجها وبكلِ صراحةٍ إلى رجسٍ من عملِ الشيطان .
إنّ الكتّاب الذين يُمارسون الترفِ الفكري ، تُعتبر كلماتهم غير مسؤولة ، لأنهم لا يكشفون الحقائق ولا يفضحون الواقع الأليم الذي تعيشه الأمّة بسبب جرائم قوى الشر والعدوان ، وتقاعسهم هذا سوف لن يسكت عنه الإنسان والتاريخ ، بل ستقوم الأجيال الحالية والقادمة بفضحهم وكشف النقاب عن نواياهم المشبوهة .
اليوم ، نحن أحوج ما نكون ، وأكثر من أي وقتٍ مضى إلى أقلامٍ صارخةٍ ومسؤولة ، تصهلُ بأعلى صوتها ، وتُواجه الواقع الأليم الذي تعيشه الأمّة ، بدونِ ستائر مُزيفة أو خوف ، بعيداً كلّ البعد عن أقلام المُهرّجين الذي يُمارسون هوايتهم في السيرك المهترىء والرخيص ، وفي صالونات السلطان .
نحن بأمسِ الحاجةِ إلى أقلامٍ تحسُّ بأمانةِ الكلمة ، والهدف النبيل منها ، إلى أقلامٍ عفويةٍ صادقة ، لا نطلب منها سوى كشف الحقيقة وعدم التستر عليها ، أو تحريفِ الواقع ، إلى أقلامٍ نبيلةٍ تُجيد العزف على وتر الحقّ ، وتُجيد إيقاع جري وصهيل الخيول الأصيلة ، ولا تقع أو تنحرف إلى المستنقعات التي يسكنها البعوض والوباء والحشرات والضفادع والأفاعي ، وكتبة العهر السياسي .
إنها الفوضى والعبث بمشاعرِ الآخرين وبالمواقف ، إنّه الصمت المريب لآلة السياسة العربية وصمتها المشبوه أمام آلة الجريمة والإبادة التي تشهدها غزّة البطولة ، وغزّة الحرّة .
والأقلام الوسخة التي تقف إلى جانب الأشرار ، ما هي إلاّ إسطبلات رخيصة لحميرٍ كسيحةٍ لا تعرف لماذا تعيش .
إنّ الكلمة إذا صدرت بعيداً عن الولاء والإنتماء للإنسان وللوطنِ وللأمّة ، ستكون كلمةً مهترئة رعناء ، كرصاصةٍ طائشة قد تقتل صاحبها أو أبرياء آخرين .
كلّ الذين تاجروا ويُتاجرون بثوابت أُمتنا مهزومون ، وصوت الحقّ والشموخ ، وإرادة الإنسان في الحريةِ وفي البقاء هي المنتصرة .