كنت أروم عيادة "الشيخ" (وهو عجوز حكيم ، يقيم في أطراف قريتنا ،يزوره الناس طلبا في نصح واإرشاد ورفع للمعنويات وايجاد لحلول ومخارج من الأزمات والمصاعب والعراقيل وغيرها، فهو محترف ومحنك في هذا الميدان بعد ما تعلمه من الحياة ودروسها المتنوعة والعديدة.
فقد كان يعيش مع ابنته البكر المقعدة منذ الولادة و يعيلها رغم تقدمه في السن ومرضه بفضل ما يمنه عليه قاصدوه وذوي البر والإحسان خاصة بعد وفاة الزوجة بغتة من فترة وهجرة الإبن الصغير إلى الغرب حيث يرى "الجنة والثروة ورغد العيش والمقام") كلما أغلقت الأبواب في وجهي وسقطت فريسة في شبكة من شباك صيادي "المياه العكرة" وكل متفائل يرنو إلى تحقيق أحلامه وبلوغ أهدافه بكل حزم وثبات - وما اكثر الصيادين الذين يهدرون الوقت في اصطياد الغير عوض البحث عن صنع غدهم وتأمين حياة أفضل قد ترتقي بهم وترفعهم إلى مرتبة الإنسانية -.
فقصدته يوما ودمائي تنزف من كل جانب جراء سهام من اعتقدتهم لن يخونوا يوما وقد أصابتني اصابات حادة وبليغة جعلتني أهرول نحو "الحاج" ليداويني ويصلح ما تعطل بداخلي فورا.
فابتسم ما إن رآني ودعاني للجلوس بقربه على أريكة منزله البالية المتسخة أيما وسخ إلى أن بات لونها يميل إلى السواد والقتامة، فتربعت أرضا (وتذكرت أول زيارة لي له في هذا المقام متى كان في أحسن حال على جميع الأصعدة، مفتول العضلات ورشيق القوام، مقبول المظهر والمنظر حسن الكلام ومحسنه إلى حد السحر) وقد ربت على فخذي وهو يقول بصوته الرصين الواثق من نفسه :
- بسم الله الرحمان الرحيم. تنفس جيدا بني وارتخ قليلا لتستجمع قواك ويستريح جسدك من مشقة الطريق
- (واضعا كف يدي على يده وانا أنظر أرضا حياء واحتراما) ومن أين تأتيني الراحة أبتاه والسهام تمزق جسدي وتنخره من كل حدب؟
- (مقاطعا وهو يبتسم) استغفر ربك واحمده على كل حال بني. اطمئن، فقد خلق الله الضيق ومعه الفرج، والدمع والابتسامة، والخير والشر.... صنع الشيء ونقيضه لنميز بينهما ونأخذ ما يصلح لنا وبنا (ويربت مرة أخرى على فخذي مبتسما في وجهي) حوقل واذكر الله.
ثم، شرعت في طرح مشكلتي وما تعرضت له من أذى ومكروه من طرف أقرب الناس لي في وقت كنت أتعامل معهم بكل تلقائية وراحة وقد وهبتهم ثقتي العمياء، وخضت في أدق التفاصيل كما طلب مني مخاطبي ونيران بركان وجداني تلتهب وتغلي غليانا غير مسبوق إلى أن شعرت بحرارة عظمى تنتابني وتكاد تحملني إلى عالم آخر غير هذا العالم، حتى أمرني بالصمت (بعد أن لاحظ تحولات حالتي وتعكر صحتي) والتمدد على الأريكة لبعض الوقت وقد شرع في وضع بعض من ماء الزهر على جبيني ورأسي وهو يتلو ما تيسر من القرآن بصوت مسموع ويتثاءب من حين لآخر.
بعدها، أمرني بالجلوس إلى جانبه وقد ناولني بعض الماء والغلال عساني استجمع قواي وتوازني ومعظم قدراتي لأفقه قوله، ومسح على وجهي بيده الغليظة مبتسما وهو يسألني:
- كيف وجدت طعم الغلال؟
- (وأنا أبادله الابتسامة بعد أن ارتحت قليلا) لذيذة والحمد لله، بارك الله فيمن كان السبب في ذلك
- (موافقا برأسه) أحسنت بني، بارك الله فيمن كان السبب، وهنا مربط الفرس
- (مستغربا ولم أفهم ما يقصده) ما دخل الغلال في مشكلتي؟
- (محدقا في عيناي بحدة) تمهل بني ولا تستجعل، فاستعجالك هذا سلبية من سلبياتك الجمة التي أوصلتك لما أنت عليه الآن. (وقد اعتدل في جلسته وابتلع ريقه واستعان بأصابع يده اليسرى لتشير وتفسر مع قوله) ماهدف الفلاح المزارع في الحياة يا صغيري؟ أ ليس الزراعة قبل حصد المنتج وبيعه وربح المال لتحسين الوضعية على جميع الأصعدة ؟ (وانا أوافق برأسي) أليس هذا طموحه ونجاحه؟ ألا يعتبر هذا تحقيقا لأحلامه وانتظاراته؟
- (بصوت منخفض) بلى سيدي، لكنني لم أفهم بعد
- (مقاطعا بشدة) انصت أولا.تعلم ان الانصات هو العمود الأساسي للتعلم وبناء الذات.
- (متأسفا) بكل تأكيد
- لأجل ذلك، فإنه يخطط لبلوغ مبتغاه انطلاقا من توفير المواد الأساسية وحرث الأرض وتهيئتها، فزرع البذور وسقيها باستمرار وحراستها من سيقان الدواب وأرجل البشر ولسع ولدغ الحشرات ونمو وتكاثر الأعشاب الطفيلية والأمراض وغيرها، فمداواتها كلما تطلب الأمر ذلك وتوفير الأسمدة والأدوية ومزيدا من المياه، ثم السهر على تفقد المنبت باستمرار والتدقيق في كل صغيرة وكبيرة ومحاولة عدم اغفال أية جزئية قد تنال من الصابة ومن أحلامه وانتظاراته، الفرح وانشراح الصدر كلما أينع النبات وازهر ونما إلى أن يبلغ أشده وينضج ليصبح منتجا جاهزا للاستعمال، فيتحول الفلاح من حارس أمين متفان في عمله إلى جان يجني محصوله بكل دقة وحرفية وهو يمني النفس بتحقيق أمانيه التي لم يعد يفصله عن تحقيقها غير بعض الخطى عند ترويجها وقبض ثمنها لاحقا.
_ (بعد المتابعة بكل اهتمام) ماأجمل ما قصصت أبتاه
- (مقاطعا) انتظر وكف عن التسرع والاعراض عن الانصات بغية مزيد الادراك والتعلم ،فلا تتكلم إلا حين يؤذن لك بذلك في مجالس مثل هذا.
- (والعرق يتصبب) المعذرة
- (وقد بدأ يغضب) فعلا أعجبك ما سمعت لأنه كان سلسا وهادئا بدون مصاعب أو عراقيل.
- (مستعينا برأسي) وهو كذلك
_ (وقد تأبط شرا) أ لم انهك عن المقاطعة؟ فالعكس هو الصحيح، فقد نال التعب من الفلاح وحرمه من النوم والراحة وحرية التنقل والتحول من مكان لاخر والتجول مثل سائر البشر. كما نال منه السقم والمرض جراء تواجده بين السماء والأرض أثناء التغيرات الجوية والمناخية، وعانى من لدغ وقرص ولسع الحشرات والزواحف المتواجدة في منبته. كما اخترقت أشواك النباتات الموازية التي نشأت صدفة والأعشاب الطفيلية وارّقته وأجبرته على زيارة الطبيب وتناول الأدوية وحتى الخلود إلى الراحة لبعض الوقت أحيانا. كما انهكته الحراسة والجري وراء اللصوص والحيوانات السائبة والبحث عن هذا الدواء وذاك للقضاء على الجراثيم والاوبئة التي تصيب المزروعات وغيرها ،دون أن ننسى صعوبة العمل وما يتطلبه من قوة ومعرفة وجهاد ومثابرة وتحد وتجلد وما إليه وصولا إلى جني المحاصيل وما يرافقه من اتلاف وهدر لبعضها جراء السهو أو التراخي أو سوء التنظيم والتصفيف والخزن وغيرها، إلى صناديق الجمع واليات النقل وما يتبعهما من مشاكل وعراقيل، فالبحث عن المكان الأفضل للبيع والتسويق بأقل جهد ممكن وأكثر مردودية متاحة وفق العرض والطلب ومهارة البائع وغيرها.
- (مصدوما) يا الله
- (ضاربا بقوة بيده على فخذه) ما بالطبع لا يتغير. فأنت ترى بني إن الحياة جهاد مستمر وكفاح لايتوقف من الولادة إلى الممات، و"من طلب العلا سهر الليالي"، ومن أراد أن ينعم برائحة الورد وعذوبتها عليه أن يتحمل شوكها وألمه. فلا شيء يأتي صدفة دون ضريبة أو أداء ، فإن حصل كذلك فهو آني زائل لا يدوم بما أن "ما بني على باطل فهو باطل" ،ومن لم يسقط لم يتعلم معاني النهوض والقيام.