نعود إذن، لكن و بسؤال بسيط ما طبيعة هذه العودة، و في أي اتجاه يمكن رسم خارطتها ... هل هي عودة قارئ أرهقته الأيام بحثا عن الكلمات داخل الكلمات ام عودة مساهمة في بناء ما كسرته الأخطاء وربما الأنانيات...؟ بالتأكيد نحن نؤمن بالازدواجية بين الثقافة والسياسة ، بين الظروف المتآكلة والمواقف المتصالحة بين الذات والتاريخ...نؤمن أيضا بالالتزام بقضايا الكل، لأن المواقف لا تقبل الانشطار، و لا تقبل الانتصار للطارئ والمؤقت.
إذن ،عودتنا تأتي و قد تعرت كل حقائق التاريخ، التي كنا حذرنا منها في كتاباتنا من قبل، و قد بدأ التواري يلف أفكار صانعي المأساة، دعاة الاستئصال وأدعياء الانشطار الفكري...إن التاريخ ، و كما قلت أكثر من مرة (لا يمكن الوصول إليه بمكبرات الصوت) و أن البناء الحضاري لا يمكن أن يأتي ببيانات هي أقرب إلى اليأس من الحقيقية و بالتالي هي إضافة جديدة لواقع متأزم يحتاج إلى بناء جذاب وقف مسلمات التاريخ، و حساب المستقبل، إننا لسنا أكثر من غيرنا في هذا الكون وأن السوابق التاريخية ليست مجردة من الحاضر ولا من المستقبل، و إلا لماذا يأتي القرآن بذكر هذه السوابق في أكثر نصوصه و آياته..؟
إن استنطاق التاريخ هو عملية إبداعية واعية و واعدة ، وأن التأخر عن هذا الاستنطاق خاصة في الأزمات الحادة و الدامية – مثل أزمتنا – هو خيانة للموقف، وارتداد حضاري... فهل حاولنا و لو بالقليل استنطاق التاريخ لدفع الأزمة باتجاه الاندثار أو على الأقل صوب الهامش الحضاري؟
بالتأكيد لم تفعل ذلك و كل ما قيل لحد الآن ، هو مجرد محاولات لإرغام الناس على تقبل الأزمة ومعايشتها لأسباب سياسية وقد تكون الأساس في الأزمة كونها موضوع ايتقصاء خارج إطار الأغلبية.
إن السؤال المطروح اليوم و بحدة و إن هو غير واضح في أبجديات الفكر، فكر الأغلبية لتعودها على الصمت، هو لماذا الأقلية تحتكر السلطة و تتصرف و كأنها فوق التاريخ، و فوق كل ذي علم...؟ هذا السؤال يمكن أن يخلق أزمات متتالية إن استمر ضمير الأغلبية محصورا ضمن ذاكرة النسيان المتعمد..إن الظروف تتآكل و المواقف تتدفق باتجاه العودة إلى التشبث بقيم الإنكار المطلق للواقع والارتكاز كلية على صدى الواقعية المجردة من عناصر البقاء، ربما لسبب الخوف من أن ينطق الماضي ويعري الجميع أو ربما خوفا من رماد هذا الماضي ..ان الخطأ الذي يستعمل اليوم ضد الأغلبية لحماية الأقلية هو جوهر المفترض من الطرفين ( الأقلية والأغلبية)، و في ذلك هل يكفي أن تكون هذه الأقلية على عداوة دائمة مع التاريخ لتحافظ على بقائها..؟ التاريخ نفسه يقول : لا ، ذلك أن السياسة مثل الجغرافيا لا تحتمل الفراغ.. والفراغ عندنا اليوم بلا حدود، بل و تجاوز هذا الفراغ صدور السياسة على مستوى الأحزاب و المنظمات بعد أن تحولت بدورها إلى مزارع للظروف المتآكلة و للتصورات الظرفية المطبوعة بالميوعة أحيانا، و بالخوف أحينا أخرى، ما الذي تغير في التاريخ، بعد الأزمة..؟ سؤال يبدو تجريدي و غير متناسق مع الذات؟ لكن رغم ذلك يبقى سؤالا مهما بالنظر إلى ما نحن عليه، لقد تغيرت في الأزمة كل الأوهام التي علقت بالتاريخ، سواء تلك التي حاول الاستئصال إلصاقها بالأغلبية لحسابه الخاص، أو تلك التي حاول مثقفو الفتنة تدوينها عبر مناشير إعلامية يقال عنها صحف مستقلة..لقد تقدم العالم خلال عشرية الدم عندنا بما لا يمكن تصوره.لقد تحولت الهند إلى دولة نووية على سبيل المثال خلال 20 سنة، و تحول العالم إلى ما يشبه المستحيل في أكثر من مجال و نحن مازلنا بعد نؤمن بأن الفرنسية هي أساس الحضارة و نلغى قرونا من تاريخنا لا لشيء إلا لأن دعاة الفكر الآخر يؤمنون بالارتداد الحضاري لأنهم يرفضون البقاء ضمن دائرة التواجد الحضاري الذي يؤمن بالتمايز الثقافي، و بالخصوصيات الحضارية لكل أمة و لكل شعب..ولأنهم لا يملكون مؤهلات تؤمن لهم التواصل ضمن هذا الإطار بعد أن أقروا بالانتماء للآخر ظلوا يؤمنون بالرفض وعدم الاعتراف بالخطأ، ذلك أن الوثنية التاريخية التي يحبذونها على حساب "الأسلمة للتاريخ" أو بالأحرى الأسلمة لكل المعارف.صارت جزءا من تفكيرهم ولو بالإكراه أو الإرغام النفسي لها
إن الرفض إذا وضع في إطار فردي يخص صاحبه ويمكن احترامه في إطار احترام الرأي الآخر، أما أن يحول إلى قاعدة عامة يرغم عليها الناس فذلك أمر مرفوض لأنه يصنف ضمن دائرة الإكراه على تقبل الرأي المخالف.
و هذا ما يفسر عدم تقبل الشارع منطق الأقلية التي تحاول فرضه من مواقع صنع القرار أو من مواقع الصراع على مواقع صنع القرار، فهل تدرك الأحزاب المعارضة هذا وتبسيط من خلال هذا الإدراك سلطتها بقوة الأغلبية على مواقع صنع القرار.. ؟ للوهلة الأولى يبدو هذا السؤال سابقا لأوانه طالما أن التزوير أصبح سنة في اغلب التحاليل السياسية عندنا، لكن بالنظر إلى المستقبل وإلى المتغيرات في هذا المستقبل يبدو أمرا ممكنا . هذا جانب... أما الجانب الآخر والذي يمكن إسقاطه على النظام فيبدو أيضا ممكنا إذا أردنا فعلا أن ندرك الخطأ و نتجه حقيقة صوب البناء الديمقراطي إذ يمكن للنظام أن يتجه صوب الأغلبية باتخاذ موقفها انطلاقا من الموقف التاريخي للثورة التي حكمت به خلال حقبة الحرب، وذلك بالرجوع إلى وثيقة أول نوفمبر و هي وثيقة نموذجية، باستقطابها الحيز الحاد من التاريخ الوطني فضلا عن محتواها الأيديولوجي ...
إن الإحساس بمرارة الواقع اليوم، و بكل مستويات هذا الواقع لا يمكن امتصاصه بخطب ظرفية أو بمحاكاة سياسية في إطار تجمعات هنا وهناك، أو بوجوه سياسية هي أقرب إلى الأرشيف العام للدولة منها إلى الواقع الدولي المتميز بالأحادية القطبية وبظاهرة العولمة.. التغير الحقيقي هو ذلك التغيير الذي يواكب المتغير الحقيقي ، إن على المستوى السياسي أو على المستوى ألمعلوماتي ..إن التغير ليس حكرا على الآلة بتجديدها أو ترميمها بل يتعداها إلى الإنسان ذاته والمتغير في الإنسان ليس في المحتوي المكاني الذي يوجد فيه بل في المحتوي التنظيمي والقدرة على تقبل المستجدات في هذه المتغيرات من غير تأخر وهذا - بالتأكيد - يحتاج إلى جيل جديد تصنعه هذه المتغيرات ويؤثر فيها تأثيرا ايجابيا ووفق احتياجات المستقبل ..إننا لا نؤمن بالصدف ، فكل شيء في الكون مقدر بمقدار وأننا بالتالي مدركون لحجم الخسارة التي نحن مقبلون عليها إن لم نتدارك الخطأ في (ما أريكم إلا ما أي) ..ومن اللأوعي الاعتقاد بأن الظروف المصطنعة إن بالإكراه أو بالضجيج الإعلامي يمكن إن تؤدي إلى بناء مؤسسات جديدة ، ذلك ، إن العالم الآن لم يعد يؤمن بالحدود الجغرافية للدول والتي اصطلح على تسميتها بحدود السيادة أصبح لا غيا إذا لم تكن الدولة (أي دولة) المقصودة بهذا الإلغاء تؤمن فعلا بالإرادة الشعبية في التغير وفي صنع القرار السياسي وصولا للحفاظ على النسيج الاجتماعي ..المسالة الآن ليس قي الخطب السياسية حزبية كانت أم غير حزبية ، ولكن في الاعتداد الشعبي بمصير ومصير دولته وهذا ما نحتاج إليه اليوم ونحتاج بقوة إلى من يجرنا إليه ولو بالإكراه.