في ذاكرتي تتراقص الذكريات لتستحضر لحظات مرّت عليّ في المرحلة الإعدادية، ذلك الزمان البسيط الذي كانت الحياة فيه تتمايل بين الدرس واللعب، وفي متاهة الحياة التي تلتف حولنا؛ كخيوط العنكبوت تبرز زهور الحكمة والتجارب التي تنمو في أعماق الروح بين الأشواك. تنفض الرياح عن أغصان الزمان، وتتساقط معها قطرات الحكمة؛ محملة بعطر الخبرة ونقاء الفهم.
أحببت الذكريات وأردت التمتع بها، وصممت أن أنتزع منها كلّ ما أستطيعه!
كان يومًا من الأيام عندما دخلت الفصل الدراسيّ، كانت الأجواء مليئة بالانتظار والتوتر، حيث كنا نستعد لدراسة مادة الرياضيات. دخل المدرس بعجلة، وأمرنا بالانتظام في المقاعد، وبينما نجلس بترتيب معين دخل المفتش الذي كان يراقب سير الدروس. كان جو الفصل ممزوجًا بالترقب، خاصة مع ضعفنا في فهم مادة الرياضيات بسبب تقديم المفاهيم الأساسية بشكل غير واضح منذ بداية العام الدراسي.
في تلك اللحظة الصامتة حين كان المعلم يشرح تسللت أصوات خفية للهمس بين الطلاب، تعكس مدى القلق الذي كان يخيم على قاعة الفصل الدراسي، وفي لحظة الاختباء وراء الصمت تفاجأ الجميع عندما ظهر المفتش بوجه موروث الحكمة، لكن مع ملامح من القلق والتوتر، كما لو كان يشعر بالقلق تجاه ما يمكن أن يجده!
كانت جلستي في المقعد قبل الأخير، وشعرت بالتوتر يتزايد، خاصه بعد جلوسه في المقعد الأخير خلفي. بدأ المعلم بشرح المادة بشكل غير واضح، ورغم محاولاته في تحفيزنا فإن الأجواء بقيت خافتة.
وفي لحظة من الصمت بدأ المفتش في طرح الأسئلة، وقليل من الطلاب كانوا يشاركونه، حتى طرح عليّ سؤالًا مباشراً، وعلى الرغم من خوفي وتوتري إلا أنني تمكنت من الإجابة بثقة، ومع كثرة الأسئلة أصبح الجو أكثر قلقًا، حتى وصل الأمر إلى حدوث موقف غير متوقع.
وبينما كان يطرح الأسئلة شعر الطلاب بالرعب يتسلل إلى قلوبهم، وتحول الصمت السابق إلى همسات متقطعة من الخوف وعدم اليقين. وفي تلك اللحظات تحولت القاعة إلى مسرح لدراما الحياة الواقعية، حيث كان الأمل والخوف يتنافسان على السيطرة على الوضع.
جلس المفتش يرفع نظره بتأمل عميق نحونا، كانت عيونه تحمل بريقًا من الاستغراب والتأمل معًا، كما لو كان يحاول فهم أسباب الضعف الدراسي الحاصل أمامه. وبينما كانت الأنظار تتبادل الحديث الصامت مع ملامحه المتألقة ظل المعلم ينتظر بانتباه شديد؛ ليستنطق الحكم النهائي من رجل الإشراف.
لقد توجه المفتش بانتقادات حادة نحو المعلم، ملوحًا بضعف مستوى الطلاب، كانت هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها معلمًا يتعرض لهذا النوع من الانتقاد العلني.
باغتتني هذه اللحظة بالفعل، فما هذا الانتقاد العلني الذي لم أشهده يومًا من قبل؟ لم يكن من المألوف رؤية المعلمين يُحاكمون علنًا أمام طلابهم، ولكن هذا اليوم كان استثنائيًا، لا يُنسى في سجلات التاريخ المدرسي.
تفوه أحد الطلاب بعد خروج المعلم بكلمة فكاهية، مُعبِّرًا عن أن الأستاذ لن يكون معلمًا بعد ذلك اليوم، بل سيتم تحويله إلى حارس. اندفع ضحك الطلاب على تلك العبارة الطريفة، ولكنني شعرت بحزن شديد على معلمي؛ حيث بدا أمام طلابه في حالة من الضعف الشديد.
بعد رحيل المفتش عاد المعلم بعصا طويلة، صرت أسمع أصوات الضرب تتردد في القاعة، وبينما كان الجميع يتألم أحسست بأن الأستاذ ينتقم منهم، كأنه يريد تحميلهم جميع المسؤولية، وقد شعرت أن هذه الاتهامات تأتي بعد سلسلة من أخطائه المتراكمة في التدريس.
هنا أقف وأتساءل، هل يمكن تحميل الطلاب فقط مسؤولية ضعف مستواهم، أم أن المعلم يتحمل الجزء الأكبر من هذه المسؤولية؟ بنظرة سريعة نجد أن معظم المواد الدراسية لا تعاني من نفس المشكلة التي نواجهها في مادة الرياضيات. ويبدو أن هذا الواقع يؤكد فكرة عدم اهتمام المعلم بتقديم الدعم الكافي لطلابه؛ إذ أعتقد أننا كنا بحاجة إلى مزيد من الاهتمام بمبادئ هذه المادة.
ولا ريب عندي أن المعلم الناجح هو الذي يعلم الطلاب ما يناسبهم ويساعدهم على فهم المادة بشكل أفضل، فلا يقتصر على اتباع المنهج الدراسي بشكل صارم؛ فالمعلم الذي يلتزم بالخطة الدراسية دون مرونة في تقديم المعلومات الأساسية التي يحتاجها الطلاب لا يكون متمكنًا تمامًا من مادته في الغالب. وينبغي لكل مشتغل بالتدريس أن يكون على دراية تامة بجميع جوانب المادة التي يدرسها، ويجب عليه أن يتقن جميع الجوانب الأساسية من المناهج الدراسية، بدءًا من الصف الأول حتى الصف الذي يعلمه الآن.
عندما عدت إلى المنزل لم أتوقع أن تكون هذه هي القصة التي سأرويها لوالدي، وهو المعلم الحكيم مربي الأجيال، فلم يكن هذا الموقف يعكس القيم التي ربيت عليها. كانت تلك التجربة درسًا قاسيًا في تفاعل المعلمين مع الطلاب، وفي النهاية كانت تجربة تعليمية مؤلمة، لكنها لا تزال جزءًا لا يتجزأ من ذاكرتي المدرسية. ربما تكون تلك الذكرى مفيدة للكثيرين الآن؛ إذ أرى أن الاهتمام الأول في تحسين التعليم يجب أن يكون في اختيار المعلم بعناية.