** بقية العدد السابق **
وفي يوم 27 يوليو أي بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وفي الساعة الثامنة صباحا دق باب مسكني فقمت من نومي فزعا وأنا اتساءل : من ذلك الذي يطرق الباب فى تلك الساعة المبكرة، وفتحت الباب لأجد أمامي اثنان من ضباط الشرطة العسكرية قالا لي بنفس واحد : اتفضل معانا!
وكدت أقع على الأرض، ففي تلك الأيام كنت اسمع أنباء عن القبض على بعض اللواءات من القيادات العسكرية السابقة، وعلى بعض المدنيين من أنصار الملك، وقلت فى نفسي :جالك الموت يا تارك الصلاة، وتمالكت نفسي وارتديت ملابسي، وودعت زوجتى إبنة عمي وأولادي بحرقة.
وأمام البيت وجدت سيارة لوري عسكرية كبيرة فيها جندي يحمل مدفعا رشاشا، وركبت السيارة وأنا أرتعش، وبعد دقائق من الهلع والخوف، توقفت السيارة عند مبنى الإذاعة في “الشريفين”، وهنا تنفست الصعداء بعض الشيئ، وبعد دقائق مرت ببطء شديد وكأنها دهر، أدخلوني لضابط كبير يجلس على مكتب، ويكتب وآخر بجانبه، وقلت: السلام عليكم ولم يرد أحد، وبعد دقائق آخرى قال لي الضابط الكبير: هل أنت أستاذ السيد بدير؟ وتضايقت أكثر فقد كنت فى تلك الأيام في عز شهرتي اسما وصوتا وشكلا، فقلت : أيوه وأنا خائف، فقال : اتفضل اقعد!
وجلست فإذا به يفتح درج مكتبه، ويخرج ورقة ويسألني عن بعض الزملاء وانتماءاتهم، وبعد أسئلة كثيرة وساعات من التحقيق، سألني كنت بتشتغل أيه قبل فصلك من الإذاعة؟ قلت له : كنت مدير التمثيليات فقال لي : اذن ترجع وتعمل كمدير تمثيليات، فقلت له : ولكنني الآن أعمل في السينما ولست متفرغا للعمل الإذاعي، وليس لدي رغبة للعمل فى الإذاعة، فرد علي : ولكننا نريد منك أن تعمل فى الإذاعة، فقلت: حاضر ولكني لن أعمل كمدير للتمثيليات، وسألني ماذا تريد أن تعمل؟ قلت له : هل تعرف من اوقفني عن العمل؟ قال : كريم ثابت مستشار الملك، فقلت له : أنا أريد أعمل فى نفس منصبه أي كمستشار للإذاعة.
ورد علي فقا : طيب تعال غدا في العاشرة صباحا، لقد عين الأستاذ “أمين حماد” مديرا للأذاعة، وستقابله وتتفق معه على كل شيئ، وبعد أن خرجت من المكتب وأنا طاير من السعادة، سألت أحد العساكر الواقف أمام باب المكتب عن اسم الضابط الموجود بالداخل فقال لي : حضرة الضابط صلاح سالم.
وبدأ عملي في الإذاعة بعد الثورة بالفعل وفي وظيفة مستشار الإذاعة، وكان أول عمل لي بعد عودتي هو تقديم “محاكمات الثورة”، وعمل “مونتاج ” لها وإخراجها، لكي تقدم للمستمعين، وكان اهتمامي شديدا بالمحاكمة التى أجريت لـ “كريم ثابت” الذي حكم عليه بالسجن وأودع في سجن “ليمان طره”. وأثناء ذلك كنت أكتب سيناريو وحوار فيلم “جعلوني مجرما” قصة “نجيب محفوظ”، إخراج “عاطف سالم”، بطولة “فريد شوقي وهدى سلطان”، وكان هناك مشهد يهرب فيه “فريد شوقي” من السجن، وقد أردت أن أتعرف على حياة المساجين الحقيقية لكي أحسن الكتابة عن تلك الفترة، فذهبت إلى “محمود صاحب” مدير مصلحة السجون، وطلبت منه أن يدخلني إلى أحد عنابر المساجين على أني مسجون مثلهم، وأن أبقى في السجن عدة أيام، لكى أتعرف على حياة السجناء بشكل واقعي، وحذرني من ذلك لكنني أصررت، وبالفعل ألبسوني ملابس السجن، ودخلت إلى عنبر المحكوم عليهم بالسجن المؤبد، واعتقدت إن أحدا لن يعرفني، لكن بمجرد دخولي وجدت صوت من خلفي يقول لي: أزيك يا سيد، ثم أضاف بشماته: همه بتوع الثورة حبسوك برضه؟!، وتطلعت لأجد “كريم ثابت” أمامي، وسعدت جدا بكلامه لأنه سيرويه لكل السجناء، وبالفعل هذا ما حدث، واقتربت من كبار المجرمين، وعرفت منهم ما أريد معرفته لخدمة “السيناريو” وخرجت بعد حوالي أسبوع من جلوسي في السجن. وبعد نجاح فيلم “جعلوني مجرما” كتبت لـ “فريد شوقي” أيضا “حميدو”إخراج “نيازي مصطفى” وقبل كتابتي للسيناريو عايشت الأحداث قبل أن أكتبها، حيث ذهبت إلى الأسكندرية وعشت لمدة عشرة أيام في منطقة “أبوقير” حيث عشت حياة الصيادين، وأخذت لهجتهم التى يتحدثون بها، وفعلت ذلك مرة أخرى حين كتبت سيناريو وحوار فيلم “ريا وسكينة” للمخرج “صلاح أبوسيف”، حيث ذهبت وأقمت في حي “اللبان” القريب من منزلهما، وزرت المنزل، الذي كانتا تقتلان ضحاياهما فيه، وظللت أعيش في الحي ثلاثة أسابيع كاملة، وقابلت عجوزا كان يعمل “مكوجي” أيامها وعرفت منه الكثير عن أسلوبهما وطريقة حياتهما.
وفي عام 1959 فوجئت بالدكتور “عبدالقادر حاتم” وزير الأعلام والمسئول عن الإذاعة والتليفزيون يطلب مني التخفيف من عملي السينمائي، والتفرغ للعمل معه في التليفزيون الذي لم يكن قد ظهر بعد، واشتغلنا شهور قبل ظهور التليفزيون، ومع الإنطلاقة الحقيقية كنت أشرف على الديكورات، وإخراج بعض التمثيليات، وفى أحد الأيام استدعاني “عبدالقادر حاتم” وقال لي: تعرف يا سيد أحب شيئ إلى قلوب جمهور المتفرجين هو المسرحيات، لابد أن يكون لدينا عدة مسرحيات نعرضها لجمهور المنازل، ومن هنا جاءت فكرة “مسرح التليفزيون”، وأنشأنا ثلاث فرق مسرحية للتليفزيون، وكانت كل فرقة تضم ثلاثين ممثلا وممثلة، وأذكر أننا كونا هذه الفرق بعد أن نشرنا اعلانات فى الجرائد والمجلات، وعلى شاشة التليفزيون، واشترطنا أن يكون المتقدم حاصلا على مؤهلات جامعية أو من خريجي المعاهد الفنية، وكانت أول مسرحية “شيئ فى صدري” قصة إحسان عبدالقدوس، أعدتها السيدة أمينة الصاوي، وقام ببطولتها “حمدي غيث، صلاح منصور، زيزي البدراوي”.
وجاء شهر مارس عام 1973 ذهبت إلى بيروت لكي أرفع دعوى ضد أحد معامل الأفلام التى كانت تستولى على نسخ من الأفلام التى تنتجها هيئة السينما، وتطبعها وتوزعها خلسة، وانتهت القضية يوم 7 مارس، وذهبت لكي أحجز تذكرة العودة، فقابلني أحد أصدقائي الموزعين اللبنانيين، ورفض مغادرة لبنان قبل أن أقضي معه يومين، وحاولت أن أعتذر ولكنه أصر، بل ودخل إلى مكتب الحجز في شركة طيران الشرق الأوسط وطلب أن يؤجل الحجز، وسهرت معه ومع بعض الأصدقاء، وأثناء ذلك سقطت طائرة ابني الطيار “السيد سيد بدير” يوم 8 مارس الساعة العاشرة مساء، أثناء مناورة عسكرية مع إسرائيل.
وبعد عودتي للقاهرة مساء يوم 10 مارس ذهبت إلى منزلي ولم يبلغني أحد نبأ استشهاد ابني، وصبيحة اليوم الثاني أبلغني أحد أبنائي، وأذكر أنني لم أذرف دمعة واحدة على ولدي الشهيد، لكن انتابتني حالة اكتئاب وحزن شديدين، وظلت هذه الحالة فى اقصى حدتها لمدة ثلاثين يوما.
وظللت على هذه الحالة شهرا كاملا حتى جاءني ابنى الشهيد فى الحلم ورأيته جالسا في صالة منزل كبير وكانت الإضاءة فيه شديدة جدا، والأنوار قوية وكبيرة، وأمامه حمام سباحة صغير، وقد شمر عن ساعديه وقدميه، وهم بالغطس فى هذا الحمام الذي كان يمتلئ بالحليب الأبيض، بدل المياه، وعندما رأني قال لي: شايف يا بابا أنا فين؟! شايف الأنوار دي كلها! أنا مبسوط وسعيد لأنك لم تبك علي، بس أرجوك كلم ماما، وقل لها لا تبك كثيرا فأن هذا يزعلني، ويؤثر علي، أنا عارف يا بابا انك تحب “السيد البدوي” أرجوك أن تسافر إلى طنطا وتزوره، وأن تذبح هناك “عجلا” كبيرا وتوزعه على الفقراء والغلابة”.
وصحوت من الحلم بعد ذلك وذهبت يوم أربعين ابني الشهيد، وزرت “السيد البدوي” وفعلت ما طلبه مني، وفجأة وجدتنى أبكي بشدة لأول مرة وأنا أمام ضريح “السيد البدوي”، وعدت من طنطا مباشرة إلى المستشفي لكي أدخل لأول مرة في حياتي غرفة الأنعاش مصابا بهبوط فى القلب، وقضيت أسبوعين.
بعد خروج “سيد بدير” رجع لحياته الفنية، كتب وأخرج ومثل في العديد من الأعمال الدرامية والمسرحية والإذاعية، وعاد إلى برنامجه الإذاعي الأنتقادي “ما يعجبنيش” الذي كان يذاع يوميا، وكانت آخر أعماله المسرحية، مسرحية “عائلة سعيدة جدا” عام 1985 ، وتوجت حياته بحصاد ضخم من الجوائز، إلا أن أبرزها وسام الجمهورية، عام 1957، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، عام 1975، ثم شهادة تقدير من جمعية كتاب ونقاد السينما، عام 1976، وبعدها جائزة الدولة للجدارة الفنية عام 1977، وشهادة تقدير من فناني الشاشة الصغيرة، ثم جائزة تقديرية من جمعية فن السينما المصرية، عام 1980، وشهادة تقدير وميدالية طلعت حرب من نقابة المهن السينمائية في عيد السينما الأول، عام 1982، إضافة إلى شهادة تقدير من الإذاعة المصرية لخدماته الجليلة في مجال الإعلام والكلمة المسموعة، عام 1983، وشهادة تقدير وميدالية ذهبية من الجمعية العربية للفنون، عام 1983ظ ثم شهادة تقدير كرائد لدراما الإذاعة في عيد الإذاعة الخمسين، عام 1984، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، عام 1986، وآخرها جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة.بجائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1985 ، وفى الوقت الذي كانت فيه أحلام وطموحات سيد بدير المسرحية والسينمائية والتليفزيونية والإذاعية ما زالت كبيرة، فاجأته أزمة في الكلى وضعته على طريق النهاية وتوفي يوم الثلاثين من أغسطس 1986 .
والمدهش أن بعد وفاة “السيد بدير” بثلاث سنوات إغتالت إسرائيل عام 1989 العالم الشاب “سعيد السيد بدير” الذي تخصص في مجال الاتصال بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية خارج الغلاف الجوي، تحديداً في الإسكندرية يوم 13 يوليو ليحصد هذا الفنان العظيم الذي أعطى مصر أغلى مايملك من فكر وإبداع وأبناء .. يحصد لقب أبو الشهيدين .. رحم الله السيد بدير.