الجرائم التي ارتكبها الرومان بحق: تاريخنا، وحضارتنا منذ أن وطأت أقدامهم أرضنا، يندى لها الجبين، حيث أبدوا أعجابًا غريباً بالمسلات الجرانيتية، لما لها من رشاقة ونقوش هيروغليفية تأخذ الألباب، فالمسلتان اللتان أطلق عليهما اسم "سترابو"، هما ضمن عدة مسلات استولى عليها هؤلاء الغزاة.
ولما لا، وقد جاء فى كتاب بريان م. فاجان ( مؤلف بريطاني لكتب علم الآثار الشعبية، وأستاذ فخري لعلم الإنسان في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا )، ما يؤكد أن قسطنطين الأكبر ( 306-337) كان – مثلاً - أكبر مغتصب للمسلات المصرية، ومن المعروف أن في هذا القسطنطين استولى على مسلة للملك تحتمس الثالث، كانت فى طيبة ( الأقصر حاليا )، فنقلها إلى الإسكندرية تمهيدا لإعادة نقلها إلى القسطنطينية، لكن الموت عاجله قبل أن يحقق أمنيه.
ومع ذلك جاء من بعده من حقق هذه الأمنية، ونقل مسلتنا بجوار مسجد أيا صوفيا الحالي ( يقع على الضفة الأوروبيَّة في مدينة إسطنبول، أُنشئ في العصر البيزنطي )، وتحديدا فى عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول سنة 390 م، والمسلة مازالت هناك حتى اليوم، كما تم نقل مسلة أخرى إلى روما، ونصبت فى حلبة سيرك الإمبراطور ما كسيموس بقلب روما ( عاصمة إيطاليا، ومقر الحكومة الإيطالي )، ولكنها سقطت ثم أعيد نصبها مرة أخرى فى عهد البابا سيكستوس الخامس 1587م.
ومن الطريف أن الرومان حاولوا مرارا أن يقلدوا المسلات المصرية، لكنهم – مع الأسف الشديد - فشلوا عدة مرات، فكانت تجاربهم ساذجة إلى حد بعيد، وهذا يدل على عبقرية أجدادنا المصريين القدماء، وتقدم حضارتنا بمئات السنين عن غيرها فى ذلك الوقت، وهذا ما أكده أيضا عالم الطبيعة الرومانى الفذ "بلينى الأكبر"، عندما رأى أن تلك المسلات ترمز إلى أشعة الشمس، وفطن إلى أن نقوشها الهيروغليفية عبارة عن ملخص "العالم الطبيعى كما يراه حكماء مصر"، ولم يكتف الرومان بهاتاين المسلتين، بل سرقوا مسلة ثالثة، موجودة إلا في متحف كامبوس مارتيوس،
ويؤكد لمؤلف "فاجان"،أن الرومان منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر، وهم مهتمون جدا بالفلسفة والحضارة المصر العريقة، وهو الأمر الذى حفذ الإمبراطور هادريان ورجاله - من وجهاء الرومان - أن يستحوذوا على أكبر عدد ممكن من آثارنا لتجميل حدائقهم، وذلك – بحسب ظنهم – لمجاراة آثار الفن الإغريقي، وفى ذات الوقت، استمرت سرقة المقابر وتخريبها فى عهدهم دون وازع ولا رادع، وكم من سائح رومانى أثارت أشجانه ماكان يقرأوه عن أحد معابد فيلة، عبارة شهيرة كانت تقول: "كل من يصلى لإيزيس تأتيه السعادة وينعم بالعمر الطويل".
ولأن الشئ بالشئ يُذكر، فعلى الرغم من كثرة الأقاويل التي ادعت – كذبا وافتراءا - بأن مسيحيي مصر خربوا حضارة أجدادهم الفراعنة إنتقاما من الرومان لصالح ديانتهم الجديدة، أو بالأحرى لصالح المسيحية ضد عادات وتقاليد قدماء المصريين، إلا أن هذا الادعاء، ظل مجرد طرحاً حتى تم نفيه، ليس دفاعاً عن المسيحية، ولكن طلباً للاستزادة من المعرفة، خصوصاً وأن هذه الحقبة شهدت جريمة بحق البشرية لم تكن تخطر على بال عاقل من علماء التاريخ والآثار فى العالم.
وذلك عندما قام الإمبراطور جستنيان ( القرن السادس الميلادى ) بإغلاق معبد إيزيس بـ"فيلة" وسرقة تماثيله لينقلها إلى القسطنطينية، وبذلك أصبح مجمع الآلهة الفرعونية كمكان للعبادة غير شرعى، أو قانونى بلغة العصر، ولم يتوقف الأمر على هذا النحو، بل صاحب سرقة هذا المتحف شيوع سرقة أخرى متعمدة لآثار مصر ومقابرها، بعدما أشيع أن النقوش الفرعونية فى تلك المعابد، ما هي إلا نوع من الشرور والمجون، وتؤدى إلى الجرائم.....!!
نضف إلى ما سبق، وجود جريمة أخرى، قد ارتكبها المحتل الرومانى سنة 397 بقيادة البطريق (القائد) المتعصب وجنوده، وذلك عندما أصروا على تخريب متعمد للسيرابيوم بـ"منف"، وقد ظل على هذا الحال حتى غطته الرمال، ولم ير النور إلا فى القرن التاسع عشر.
وبعد أن اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح الملاحى 1517، تمكنوا من احتكار أغلب وسائل التجارة، خصوصاً التوابل منها، وفى ذات العام دان حكم مصر للعثمانيين، وترتب على ذلك، أن أبرم السلطان سليم الأول معاهدتين مع: فرنسا، وإنجلترا، تعهد فيهما بحماية غير المسلمين داخل إمبراطوريته، الأمر الذى مهد لانتظام السياحة، وتدفق الزائرين والدبلوماسيين داخل مصر، وكان معظم هؤلاء يهتمون بتجارتهم دون الجوانب العلمية، باستثناء عالم النبات الفرنسى بيير بيلون سنة 1553 الذى زار الأهرام وأبى الهول ودخل هرم خوفو.
في هذا السياق، نشير إلى أن أهم شئ لفت انتباه الأوربيين فى مصر، هو المومياوات، إذ كانت الكتابة عن تحنيط الجثث منتشرة فى الادبيات القديمة، وفى ذات الوقت اعتاد بعض المصريين وغيرهم من الأجانب على سرقتها من التوابيت، وذلك لاستخدامها فى العلاج.....!!
مع العلم إن هذا العُرف كان سائداً فى القرن السادس عشر، حيث كانت المومياوات ومستخضراتها، تستخدم ضمن العقاقير الطبية، ومما يلفت الانتباه فى هذا الشأن، أن كلمة مومياء فى كتاب "نهب آثار وادى النيل ودور لصوص المقابر" هى كلمة فارسية الأصل مشتقة من كلمة "ماميا"، وتعنى "الزفت"، وهو مادة شديدة السواد، وإذا تعرضت للشمس، أو الحرارة، فإنها سرعان ما تذوب.
وقد كان "الزفت" الشرقى مشهوراً فى علاج الجروح والكدمات والغثيان والكسور وغيرها، وهو فى مظهره يشبه إلى حد بعيد، ذلك الذى كان يستخدمه المصريون القدماء فى تحنيط الجثث، لذلك عندما يقل "الزفت" أو القطران - ىكما كانوا يسمونه - فإنهم كانوا يستخدمون ما يجدون منه داخل الجثث، وذلك حتى تخطوا كل ذلك وتعدوه، حينما استبدلوه باستخدامهم لحم الجثث نفسه.....!!
إذن لم يكن غريباً ذلك الهوس الذى أصاب البعض بسبب التهافت على تجارة المومياوات التى كانت تصدر إلى الخارج كجثث كاملة محنطة، أو "فتاتها" بعد تعبئتها لتباع فى أوروبا، وهو الأمر الذى حفذ اللصوص على انتهاك مقابر الموتى، خصوصاً القديمة منها للحصول على مكاسب ملوثة، رغم أن سعرها في هذا الوقت، كان زهيداً للغاية، أى كل ثلاث رءوس محشوة بمادة التحنيط مقابل، درهم واحد......!!
وفى موضع آخر من ذات المؤلف المشار إليه سابقاً يُذكر أن اللصوص، قد اعترفوا بعد تضييق الخناق عليهم بالضرب من قبل المسئولين أنهم تعودوا على سرقة الجثث من المقابر لـ"يغلوها" فى درجة حرارة معينة حتى يُقطع لحمها، وبعد ذلك يجمعون الزيت الطافى (القطران) من على سطح المياه ليبيعونه لـ"الفرنجة"، موضحين أن كل مائة وزنة منه مقابل 25 "قعة" ذهبية.....!!
لذا اشتغل الكثير من التجار الأجانب فى "سبوبة" المومياوات، وذلك لزيادة مكسبهم، ومن هؤلاء اللصوص الرحالة الألمانى جوهان هلفريج، الذى زار مصر عام 1565 بغرض الحصول على عدد من هذه المومياوات، وهناك شخص آخر يُدعى "جون شانديش" - وكيل الشركة التركية بالإسكندرية -1585-1586 كان أكثر طمعاً وجشعاً ولصوصية من هذا الألماني، فلم يعدم الوسيلة لسرقة ما أراد من المومياوات بواسطة مواطنيه المقيمين فى مصر آنذاك، وغيرهم ممن استطاع رشوتهم بالمال، وقد حصد العديد من مومياوات مدينة "منف".
وجميعنا يعرف ما لهذه المنطقة من خصوصية فى تاريخ قدماء المصريين، وحتى الآن لم يكشف لنا أى أثرى - مصرياً أكان أو أجنبيا - عن عظماء الفراعنة الذين دُفنوا فى "منف"، ووقعوا ضحية لصوصية هذا اللص الذى اشترى مومياوات بمبلغ 600 جنيهاً من المنتجات المحنطة: لحوماً، وجثثاً ليصدرها إلى إنجلترا.....!!، ومن ثم حقق هذا اللص أرباحاً طائلة من هذه التجارة المحرمة، حيث وصل سعر رطل المومياءالواحدة فى هذا التوقيت باسكتلندا سنة 1612 8 شلنات.....!!
وقد ألقى مؤلف "نهب آثار وادى النيل ودور لصوص المقابر" الضوء أيضا على الدور الإيجابى للحكومة المصرية آنذاك فى محاولتها الحد من تجارة المومياء، وذلك بعد أن فرضت عليها ضريبة باهظة، وحظرت تصديرها للخارج، لكن للأسف الشديد، ظلت تجارة "عظم التربة" - كما نقول الآن - تجارة رابحة ورائجة.....!!
وفى هذا البلاء يتحسر الفيلسوف توماس براون قائلاً: "أصبحت المومياء سلمة تشفى الجروج، وصار الفرعون يباع للحصول على البلسم"....!!، أما مارك توين، وهو رجل ساخر فيقول: "تستخدم القطارات (المصرية) مومياوات عمرها ثلاثة آلاف سنة، كوقود يُشترى بالطن، وربما بمحتويات المقابر كاملة"، ومما يؤسف له أنه حتى سبعينات القرن الماضى، كانت هناك سوق منظمة للمومياوات لاستخدامها فى السحر والشعوزة، على الرغم من أنها كانت محدودة، وهناك من يتوقع أن بعض صيدليات نيويورك تبيع مسحوق المومياء المصرى الأصلى بأسعار باهظة الثمن.....!!
ورداً على من ينتقد علماء العرب، ويشيد بعلماء الغرب فى مجال التاريخ والحضارات والآثار، وحتى لا نظلم المؤرخين العرب، فلا بد، وأن نوضح اهتمامهم البالغ بالتاريخ، حتى قبل ظهور الإسلام، خصوصاً تاريخ الأمم القديمة: حضارتها، ديانتها، تقاليدها، وعاداتها، ويأتى تاريخ مصر ضمن هذا الاهتمام، وما شغف الخليفة المأمون بالنقوش الهيروغليفية، وأمره لأتباعه بالتنقيب وفهم تلك الكتابة، سوى نموذجاً لتعضيد ما أشرنا إليه، لكن للأسف الشديد، كانت الهيروغليفية، قد اندثرت قبل الفتح الإسلامي بزمن طويل.
وقيل إن الناس قد عكفوا عن محاولة فهم هذه اللغة خشية من اتهامهم بعبادة الوثنية، أو الاعتراف بها، وهذا الفهم يمكن أن نستخلص نتائجه من مجهود "المقريزى"، الذى وصف العديد من آثارنا وسجلها ودونها قدر ما استطاع، وما أوقفه وغيره عن الاستمرار فى رصد هذه الحضارة، وكشف اسرارها سوى الجهل - كما قلنا - بالهيروغليفية التى ظلت غامضة حتى مجئ عالم المصريات الفرنسي فرانسوا شامبليون ( الذي سرق مؤلفات عالم الهيروغليفية العربي الشهير إبن وحشية النبطي )، وفك رموز حجر رشيد، فكانت بداية عظيمة لفك طلاسم المعرفة التى ظلت عشرات القرون فى طى النسيان.
العالم المصرى الكبير أحمد كمال باشا، اهتم هو الآخر إهتماماً بالغاً بطباعة بعض الكتب الخاصة بالآثار، ومنها كتاب بريان م.فاجان، لافتاً إلى أن معظم الكتب القديمة التى عنيت بوصف الآثار المصرية، رغم أنها تكون قد تجاوزت المصداقية بنسبة كبيرة، إلا أن من كتبوها وصفوا آثاراً حقيقة شاهدوها وحددوا موقعها، وينصح "كمال" بالرجوع لتلك الكتب ودراستها من الناحية الطبوغرافية لربما تؤكد أهميتها فى تحديد مواقع أثرية قديمة: إسلامية، قبطية، فروعنية. - بحسب رؤية د.أحمد زهير أمين.
نعود مرة أخرى للإشارة إلى أن آثارنا كانت عزيزة وقليلة فى أوروبا مطلع القرن السادس عشر الميلادى، وكانت مصدر اهتمام معرفى خاص لكل من فرنسا وبريطانيا فى ذلك الوقت، وتأكيداً لهذا الاهتمام سنستشهد برسالة كتبها السفير الفرنسي دى هوساى بالقاهرة عام 1638 إلى الكردينال ريشيليو بفرنسا:
- "إن أجمل الآثار القديمة قد صانت نفسها من قسوة الزمن قروناً عديدية، ليتسنى لنيافتكم اختيار ما تشاءون منها لتزيين مكاتبكم أو الحفظ فى خزائن نفائسكم، أتشرف بإخطاركم أننى كى أوفر لها ما تستحق من الحماية والصيانة، فقد وزعت منشوراً فى المشرق على كل القنصليات الفرنسية، ينبه إلى ضرورة اتخاذ ما يلزم لتحقيق هذا الهذف النبيل"....!!