بالحقيقة وبيقين الواقع، أنه لا جمال أرفع وأروع وأعلى إبداعًا من جمال مَن خلَق الجمال، ومن محبَّة الله العظيم للجمال أن خلق الجمال، خلق ذلك فى كونه ومخلوقاته، وأرضه وسمائه، جمال مادى منحوت على صفحات الطَّبيعة وسطورها، يُعلن عن نفسه دون مشقَّة أو أقنعة زائفة، للتعبير عن ذاته بذاته..
والجمال فى النهاية يدعونا للتأمل فى المعطيات الإبداعية، سواء تلك التى وفرها الله فى كل مخلوقاته، والتى فى صدارتها الإنسان، أو تلك التى تأملها الإنسان فى مفردات الكون العظيم، فحاول التقليد والتمثل والمحاكاة متوخيًا الدقة حتى لا يستحيل ما يقدمه إلى لون من ازدراء الجمال..
دعونا نتأمل ونرقب كل جميل فى كل الموجودات من حولنا، فبتأملها تنتعش الروح وتبتهج النفوس، والبهجة المدركة هنا من تأمل كل ما هو جميل ينبغى أن تدفع المبتهج لرفض التدنى بقبول أى وجود لمنتج قبيح صادم للمشاعر ومنفر للنفوس ومزدر للحواس الإنسانية..
إن الإحساس بالجمال يدفع كل النفس الإنسانية بمشاعرها ورغباتها وفكرها نحو العالم الجميل، ونحو الموجود الذى حكمت على جماله من أجل تمثله، والتوحد معه، من أجل البهجة والسعادة التى يتضمنها الحصول على كل جميل..
وعليه، فالمعنى الذى قصد إليه الفيلسوف (إيمانويل كانط) حين قال إن الجمال غاية لا وسيلة، هو أن مختلف التبعات التى يحدثها التأمل فى اللون أو الشكل أو الحركة، أو التى تتولد عن الاستماع إلى الأصوات إنما تصل إلى المخ عن طريق البصر والسمع فنشعر معها باللذة أو الضيق. ونحن ندعو المتعة التى يولدها فى ذواتنا النظر إلى الجميل أو التأمل فى محاسنه، متعة الجمال (التى ترفع بالمعنويات الإنسانية).
وقد تحملها باستخدام لغة الكلام للتعبير عن الأحاسيس وما يدور فى الوجدان، فيكون (الإنتاج الأدبى) أو بغمس الفرشاة فى قوارير الألوان، أو الإمساك بإزميل الحفر والتشكيل، فيكون (فن الرسم وإبداع النحت) أو اللعب على أوتار أو أصابع النغم، فتكون (فنون الشدو والطرب والموسيقى).
ويؤكد « أفلاطون « على أثر الفن على السلوك الاجتماعى. وهو يرى أن يستبعد الفن الذى يؤدى إلى سلوك مرفوض فى المجتمع، وأهمية أن يستخدم الفن الداعم لفعل سلوكيات محمودة فى خدمة المجتمعات.
ويؤيد هذا الرأى المفكر الروسى « ليو توليستوى «، فالفن من وجهة نظره هو قوة يجب أن تنتج أعلى مستويات التعامل الأخلاقى. ولعل أهم ما يميز الفنون عبر التاريخ من وجهة نظر أهل علوم الاجتماع هو دورها الاجتماعى الذى أثرت من خلاله على شكل وأنماط حياة الأفراد والجماعات.
وهنا يبرز دور النقد الفنى فى التعريف وتحليل وقراءة الأعمال الفنية لترقية الذوق العام لدى المتلقى، ومن هنا تبرز أهمية وجود حركة نقدية موضوعية واعية لتنمية الحس الجمالى لدى عموم الجماهير، ولترقى تلك الفنون وتزدهر الحركة التشكيلية...
ولكن، لا ينبغى أن يُفهم من سياق ما سبق الحديث عنه حول الدور القيمى للفنون، أنه بمثابة دعوة لالتحاق الفنان، وقبل ممارسته العمل الفنى بمدرسة (تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس) لتعليم أهل الإبداع إخراج ما يطلقون عليه « الفن النظيف أو المتشطف» بعد تلقى مناهج تلك المدرسة للإرشاد والتوجيه وسماع العظة الروحية والعبرة التراثية، إنما المقصود ألا تنحدر الفنون إلى الدرك المنحط والإسفاف الكريه بانتهازية جبانة لوسائط تلك الفنون الجذابة والمبهرة لبث مفاهيم وقيم سلبية خطيرة ورذيلة لنشر القبح..
إن الفنان التشكيلى والمبدع الحقيقى عندما يقوم بشد التوال على إطار اللوحة ويُمسك بفرشاته ليغزو تلك المساحة البيضاء الفارغة ليحتل مناطق سكونها وفراغ مستطيلها، لا ينبغى ولن يكون عليه أن يسأل عن محددات ما ومراعاة الأوامر والنواهى، فهو يعيش حالة علاقة خاصة جدًا مع وسائل وأدوات إبداعه، وتعال عزيزى القارئ لنقترب من ملامح تلك الحالة مع جانب من رسالة كتبها الفنان العظيم العالمى « فإن جوخ « صاحب أهم إبداعات «المدرسة التأثيرية» وأروع من أسسوا ملامحها الخالدة.. كتب فإن جوخ: «إننى أتعفن مللا لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟.. أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم، كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبى. هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عينى مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها، الفكرة تلح علىّ كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامن فى زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا، أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج، أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقنى عيناي، «.. إنها لحظات معاناة المخاض التى يعانيها المبدع فى رحلة وصوله للحظات ضوضاء وجلبة صراخ المولود وبهجة الميلاد التى تصل بكل ملامحها لوجدان المتلقى عندما تكون صادقة..
مع نهاية شهر مارس وبداية إبريل فى عام ١٨٨٥ بدأ فان جوخ برسم الخطوط الأولى للوحة ليرسلها إلى أخيه ثيو فى باريس.. وكان فإن جوخ قد بدأ برسم وتلوين اللوحة من ١٣ إبريل لينهى أغلبها مع بداية مايو باستثناء تغييرات بسيطة قام بها بفرشاة صغيرة فى وقت لاحق من نفس العام. وكان قد صرح بأنه يريد تصوير الفلاحين كما هم. فاختار عينة خشنة من الفقراء عن قصد، معتقدًا بأنه بذلك سيحصل على لوحة أكثر طبيعة قائلا: «كما ترون، فقد أردت وبشدة تخليد تلك اللحظة. لحظة هؤلاء الناس وهم يأكلون البطاطس على ضوء مصابيحهم الصغيرة بأيديهم الخشنة التى يزرعون الأرض بها. مطمئنين على أنهم حصلوا على طعامهم بأمانة. أن هذه اللوحة تخلد نمط عيش مختلفا كليا عن النمط الحضارى. لذلك فأنا لا أريد أى أحد أن يعجب باللوحة بدون أن يعرف لماذا قمت برسمها..» وكتب فان جوخ إلى أخته ويليمينا بعد عامين فى باريس، بأنة يعتبر أن لوحة « أكلوا البطاطا» هى أنجح لوحة رسمها قائلا: «عندما أتذكر أعمالى لا أجد لوحة قمت برسمها أنجح من لوحة أكلوا البطاطس التى قمت برسمها.. «
وفى رؤية أخرى هامة للجمال كان العمل الفنى الخالد « الموناليزا « وهى لوحةٌ فنيةٌ نصفيةٌ تعود للقرن السادس عشر لسيدةٍ يُعتقدُ بِأنها» ليزا جوكوندو «، بِريشةِ الفنان، والمهندس، والمُهندِس المعماري، والنحّات الإيطالى «ليوناردو دا فينشي «، حيث رسمها خلال عصر النهضة الإيطالية. استخدم دا فينشى فى إنهائها طلاء زيتيا ولوحا خشبيا، وتعد هذه اللوحة ملكاً للحكومة الفرنسية حيث تعلق هناك على جدار متحف اللوفر خلف لوح زجاجى مقاوم للرصاص وفى بيئة يتم التحكم بمناخها. لقد وُصِفت هذهِ اللوحة بِأنها «أكثر الأعمال الفنية شهرة فى تاريخِ الفن، وأكثر عمل فنى يتم الكتابة عنه، والتغنى به، وزيارته من بينهم»، كما وُصفت أيضًا بِأنها «أكثر الأعمال الفنيّة التى تمت محاكاتها بشكلٍ ساخر فى العالَم».
ويعود سبب شهرتها كما تؤكد المراجع التاريخية الفنية تلك إلى عدة أسباب مختلفة من أهمها ابتسامتها التى وُصفت بِأنها غامضة ومبهمة؛ حيثُ حيرت العديد مِن أهل القراءة والتحليل مِثل العالم النفسى « سيجموند فرويد « وأساتذة «جامعة هارفارد « وأعداد لا تحصى مِن المشاهدين، إلى جانب ذلك؛ استخدامه لطريقة الرسم بمنظور من نقطة واحدة فى الخلفية، وهنالك أمر يتعلق بجل التكوين الفنى لهذه اللوحة، والطريقة التى استخدمها فى رسم المنظور الخاص، والإيحاء بإلغاء المسافة بين العمل والمشاهد..
ومع الفنان الكبير الراحل محمود سعيد، وبرؤية مصرية وعالم فنان سكندرى رائد حاشد بنماذج رائعة للجمال للمرأة المصرية اختارها بعناية، وقام ببعض الإضافات التى شملت الروح والبدن والحركة بخصوصية رائعة وجمال مذهل، كانت له إبداعات شهيرة وخالدة..
تقول الأستاذة الدكتورة أمل نصر إنه لا يقدم نموذجاً للجمال الإغريقى أو الأوروبى، بل ينتمى لمقاييس إفريقية الملامح، ونسب أجسادهن تقترب من نسب المرأة فى منحوتات تل العمارنة, وتذكرنا بفتيات كهوف أجانتا الهندية وبتماثيل الحوريات فى النحت الهندى (نماذج) تلك التماثيل..
وكان الفنان التشكيلى الكبير الراحل حسين بيكار قد قال فى وصفه لأعمال محمود سعيد: إن الينبوع الذى ارتوى منه محمود سعيد فى مراحله الأولى هو الفن الفلامنكى، والفن الإيطالى قبل عصر النهضة، حيث تأثر بقوة الفورم والشكل عند مامساشيو وجيوفانى وجنتلى وبلينى فى الضوء وتدرجه وسرعان ما تأثر بالمدرسة الفلورنسية التى لم يكن ميالًا لها فى البداية.. تأثر بها فى بعث الألوان القوية الدنيوية، وانتقل بعد ذلك إلى التأثير بقوة التشريح فى عصر النهضة وهندسة التكوين عند عباقرته المعروفين مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشى ورافاييل، غير أن تطور سعيد لم يتوقف عند فهم وهضم مدارس الفن الحديثة فى لمسات الفرشاة العريضة عنده أصداء التأثيرية، وتميز بخصوصية فى التناول، وأطلق سراح الألوان القوية، فاقتربت كثيرًا من المدرسة الوحشية بألوانها الساخنة وخلطها بألوان الطينة المصرية، وسمرة الوجوه، وعبّر أيضا من باب المدرسة التركيبية فى تجميع العناصر المختلفة تجميعا مسرحيًا جميلًا مستخدما عناصر من الحيوان والنبات والطبيعة. كما توقف عند رصانة المدرسة التكعيبية فى التظليل المساعد على إبراز الشكل، وفى توزيع امتدادات التحليل الخطى والمساحى.