في البداية يجب ذكِر أن الجميع - وحين اقول الجميع أقصد بالفعل الجميع من كل الأجناس والديانات والمعارف على مر التاريخ وحتى في وقتنا المعاصر -، أتفق الجميع على أن الوعي ليس هو الروح وليس هو النفس وإنما هو الحالة العقلية التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه، واحتكاكه به ممّا يسهم في خلق حالة من الحس لديه بكلّ الأمور التي تجري وتحدث من حوله، ممّا يجعله أكثر قدرة على إجراء المقاربات والمقارنات من منظوره هو وبالتالي سيصبح أكثر قدرةً على اتّخاذ القرارات التي تخص المجالات والقضايا المختلفة التي تطرأ له. ويخلص الجميع إلى أنه يمكن تعريف الوعي باختصار على أنه " كل ما يمتلكه الإنسان من أفكار ووجهات نظر تتعلق بالحياة ومفاهيمها وما يحيط به من بيئة "
والوعي عند الفلاسفة يثبت بما لا يدع مجالاً لشك أن الوعي ليس هو الروح وليس هو النفس وإن ارتبط بهما كمجموعة متحدة تعبر عن الذات الإنسانية التي يحتويها جميعاً الجسد الواحد، وتعبر الفلسفة عن الوعي بتعبير أنه:
" جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحيّة الأخرى، إذ إنّ الوعي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه"
ويقول محي الدين بن عربي في تعريفه للوعي أو الإنسان التام:
"أن يكون متفقِّدًا لجميع أخلاقه، متيقظًا لجميع معايبه، متحرزًا من دخول كل نقص عليه، مستعملًا لكل فضيلة، مجتهدًا في بلوغ الغاية، عاشقًا لصورة الكمال، ملتذًّا بمحاسن الأخلاق، متيقظًا لمذموم العادات، معتنيًا بتهذيب نفسه، و أن يجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة، وكشف عللها وأسبابها وتفقُّد غاياتها، ولا يقف عند غايةٍ من علمه إلا ورَنَا بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية، واختصر محيي الدين بن عربي حديثه بالقول أن الوعي هو ادراك الاعتدال في الشهوات والرغبات، والمأكل والملبس، والصلة بالناس والإحاطة بماهيات الأمور الموجودة ".
وربما أميل لتعريف الفيلسوف البريطاني "جون لوك" الذي كان من أوائل فلاسفة القرن السابع عشر اللذين قدموا دراسات خاصة بمفهوم الوعي، فالوعي عند "لوك" مرتبط بالهوية، وغير مرتبط بالجسد، وهو ما يصل عبر عقل الإنسان وذكرياته، ويؤكد "لوك" على أن الوعي يظل موجودًا حتى بعد الموت!
ويؤكد الفيلسوف "راسل" على أنّ الوعي وخاصة الوعي بالعالم الخارجي يرتبط بشكل أساسي بالإدراك الحسي، فالوعي بالنسبة له يمثل ردود الفعل التي يكونها الأفراد اتجاه البيئة، وما يميز راسل عن غيره من العلماء اعتقاده أنّ الوعي مراحل متقطعة غير مستمرة، فالإنسان يبقى في حالة الوعي طالما هو مستيقظ، لينقطع هذا الوعي بمجرد دخوله في حالة النوم. استخدم راسل مفهوم الوعي الذاتي للتعبير عن إدراك الفرد لذاته من خلال تكوين صورته عن ذاته وأفكاره وعلاقاته بالعالم الخارجي من حوله، حيث يكون الإنسان هذا الوعي من خلال التجربة، والإدراك الحسي.
وقد ركز الدين على يد كل من جاء بعد آدم من الرسل والأنبياء والحكماء على الروح والنفس وأن الروح تصعد للسماء بعد الموت والنفس أيضاً وربما حدث خلط دائم بين الروح والنفس في تفسيرات المفسرين حتى أننا نتعثر حين نبحث عن الفرق بينهما في كتب المفسرين اليهود والمسيحيين والمسلمين .. وهل الروح هي النفس والنفس هي الروح أم أن كلاً منهماً مستقلاً عن الآخر، وإن كان كلاً منهما مستقلاً عن الآخر من الذي سيقع عليه الثواب أو العقاب في الآخرة ؟ .. الروح أم النفس أم كلاهما معاً ؟!
وبالنظر لمسألة الوعي في أقدم المخطوطات الإنسانية لانجد إلا ماكتبه "تحوت" أو هرمس" المصري والتي انتشرت تعاليمه في كل زوايا الأرض وتداخل بعضها واندمج في كل ماعرفه الإنسان من دين
إذ أعتبر "هرمس" أن الوعي هو عقل الكون الذي خلقه " آتوم" وحيث آتوم هنا هو مجرد إسم اجتهد به "هرمس" ليدلل به فقط على الإله الخفي لعجزه عن تسمية أفضل، وحيث خلق الإله عقل الكون، وهو الوعي الأول الظاهر، وهو الوعي المحيط الذي خلق الكون وهو الوعي الثاني المتفرع من الوعي الأول والذي خلق الزمن وهو الوعي الثالث المتفرع من الوعي الثاني وحفيد الوعي الأول ثم خلق الزمن التغيير وهو الوعي الرابع المتفرع من الوعي الثالث ومن ثم لو بحثنا في الجوهر فنجد أن الجوهر عند "هرمس" يبدأ بالجوهر الكلي وهو الإله الواحد الذي لا يقبله تعدد ولا تقبله تجزئة إذ أنه الإحسان المطلق لا تحده بداية ولا تعتريه نهاية، وليس فوقه شئ ولا تحته شئ لأنه ظاهر فوق كل ظاهر وباطن أدنى كل باطن، ثم يليه عند "هرمس" جوهر عقل الكون الذي هو الثبات الكلي للظاهر الكلي ثم يلي ذلك جوهر الكون الذي هو الزمن ثم جوهر الزمن الذي هو التغيير ثم جوهر التغيير الذي هو الحياة، ويعمل الإله الذي يسميه "هرمس" للدلالة باسم "آتوم" وذلك للتعريف به فقط، يعمل الإله بكل شي وليس في عمله كمثله شئ، أما عقل الكون فيعمل بالخلود ويعمل الكون بدائرة البدء والعودة ويعمل الزمن بالزيادة والنقصان ويعمل التغيير بالكم والكيف، وعليه فإن عقل الكون أو الوعي الأول المحيط بالظاهر الكلي المخلوق مرتبط أبداً بالخالق الإله، والكون وهو الوعي الثاني مكون من أفكار عقل الكون بحيث يرتبط خلود الكون بخلود عقل الكون ويرتبط خلود عقل الكون بمشيئة الإله نفسه في أن يبقى من عدمه.
ولم يتطرق "هرمس" في كل ماوردنا منه للوعي الإنساني وإنما تحدث فقط عن خلق الإنسان وأعتبره روح خالدة أودعت في جسد فاني حيث يقول:
في البداية كان الإنسان مجرد روح خالدة خلقها الإله ولكنها كانت غير قادرة على تحقيق ارادة الله في الأرض فأوجد لها الإله جسد مادي فاني كمنزل لها وكان خلقه للإنسان مترعاً بالأحسان وعليه اعتبر هرمس أن الإنسان بهذا الخلق الذي دمج الخالد وهو الروح بالفاني وهو الجسد خلقاً يستحق العجب ومن ثم الإجلال والتشريف، ثم وضع تعريفاً أو مصنفاً أجده في غاية الغرابة وهو أن الإله هو الأول والكون هو الثاني والإنسان هو الثالث، فأما الإله فواحد لاينقسم ولا يتعدد، وأما الكون فواحد من أجزاء، وأما الإنسان وهو إبن الكون فهو ثلاثة أجزاء في واحد، فهو مخلوق على صورة الإله وإبن الكون وجسد فاني وهذه الأجزاء الثلاثة تجعله يختلف عن غيره من جميع المخلوقات الحية إذ أن هذه الأجزاء الثلاثة تمثل العقل الكلي أو العقل الخالص الذي من خلاله يمكن أن يتوحد مع الكون وهو الوعي الثاني فينتج من خلال هذا التوحد الفكر الذي يتمكن به العقل الخالص من معرفة "آتوم" أو معرفة الإله الواحد، وعندئذ يصبح الإنسان بتوحده مع الكون ومعرفة الإله الواحد في ظاهر الخلق هو كل شئ وفي كل مكان، ثم يحدد هرمس طبيعة الروح في حال ميلاد الجسد أو موت الجسد فميلاد الجسد لا يعني بداية الروح وموت الجسد لا يعني فنائها .. وإنما تحاكم الروح بعد تركها الجسد أمام رئيس الكائنات الإلهية الذي يكشف عن طهارتها وشرفها من عدمه، فتقاد الأرواح الطاهرة إلى مكانها في السماء كطيف من نور وكائناً ربانياً، أما الأرواح الجاهلة التي فقدت في الجسد شرفها وطهارتها فتسقط مرة أخرى إلى عالم الفناء حيث يعاد تركيبها في جسد آخر وهو الأمر الذي اتخذته كثير من الديانات عقيدة لها وهي عقيدة تناسخ الأرواح، ثم ينتهي هرمس في حديثة بالعجيبة الكبرى التي لمح بها للوعي وإن لم يذكره صراحة إذ قال في دقة:
" وعندما تترك الروح الجسد وتهجره تتعرض لمحاكمة واستجواب أما العقل الخالص فيتحرر من كل متعلقاته التي علقت به في الجسد الفاني ويتخذ له طريقاً من ضياء يتردد بذبذبات خاصة به في كل الكون تاركا الروح تحاكم وحدها لتثاب أو تعاقب حسب أعمالها وهو تعريف ودلاله من "هرمس" تدعو إلى جانب الاعجاب بها كل تقدير واجلال لهذا الحكيم المستنير حتى وإن اختلفنا معه في بعض أو كثير مما قال".
وللحديث بقية بإذن الله ...