تسرد الكاتبة قصة عاشقين جمعهما الحب، من غير أن تحدّد اسميهما بوضوح، تترك الاسمين لخيال القارئ، فهي قصة قد يعيشها أي عاشقين محبين .. المكان الذي تواعدا فيه هو مقهى على البحر، أما الزمان فهو ليلاً ” لم يكن القمر يراقبهما ويضيء المكان ” ..
مشاعر البرودة تبدو منذ البداية بين الاثنين، على الرغم من أنّ القاصة متفائلة، وعبارتها تدل على ذلك ” جلس كلّ واحد منهما على كرسيه، وأخذ يحدّق بالكأس الزجاجية المملوءة بالماء فوق الطاولة “، فالكأس مملوءة، وهذا تفاؤل كبير، والقمر يضيء المكان، ورياح خفيفة تلهو بشعرها الليليّ .
ثم تلجُ الساردة القاصة إلى عمق القلب، وكما تقول بطريقة عبثية، الشاب يفكر بها .. ، وتستخدم ضمير ” هو” ، والشابة ” هي” تفكر بالرحيل عنه …
لماذا استخدمت الكاتبة ضمائر منفصلة ؟ هل لتظهر ذلك البعد وذلك الغياب في المشاعر بين الاثنين ؟؟ ربما ..
إنها تعزف باللغة، تختار ضمائرالرفع المنفصلة ” هو ، هي ” لتوحي بالغياب الكبير، لتذكّر بالضمير الكامن والنائم ربما ..؟؟ ثم تعود بالذاكرة خلفا، إلى الماضي، فالعاشق تذكّرَ أنّ محبوبته التقت به هنا في هذا المكان لأول مرة، ونمت براعم الحب بينهما، فما الذي حدث ؟؟ الآن اختفت تلك البراعم، وربما وئدت وماتت، فهي ” تحدّق”، تتخيّر الكاتبة اللفظة بدقة، فلم تقل ” تنظر” بل قالت ” تحدّق ” دلالةً على الإمعان في النظر نحو البعيد، وبصمتٍ غارقٍ في بحور الألم ، هكذا تتخيّر الكاتبة المكان في القصة ” مقهى على البحر” ليزيد هذا البحر في أمواجه بأوجاع الشابة، فيجعلها تغرق في بحور الألم .. ” الألم ، بحور الألم ” كلمات منتقاة بدقة للتعبير عن مدى الحزن الشفيف . على حين يقوم الشاب بإشغال تبغه ودخانه، إنه يحرق قلبه، يدّخن ظاناً أنّه سيهدّئ خوالج نفسه .
إذا؛ الفتاة تحدّق بألم، والشاب يحرق قلبه بسجائره.. الموقف متوتر بين الاثنين، ورغم ذلك هو لم يستطع الانتظار، وهي لم تتركه يكمل عتابه .. خيط اللغة منقطع بين العاشقين، ” تهرب منهما اللغة واللوم “، تقدّمُ الكاتبة بطريقة غير مباشرة، أسباباً لتلك القطيعة، ولذاك الجفاء العاطفي بين الاثنين .. ألا وهو اللغة، فلا لغة جميلة بينهما، ” اللغة تهرب”، لا يستطيع كلٌ منهما التعبير عما في داخله، حتى العتاب ينقطع حبله بسرعة …
وتنوّعُ الكاتبة بين السرد والحوار، بين الشاب وعقله، ” كيف تقرر البعد عنه ؟ كيف يصدٌق أنها لم تبادله الحبٌ يوماً ؟ ” .. اللغة هاربةٌ، والصمت حاضرٌ، وقد يكون الصمت سكيناً جارحة أكثر من الكلام لو حضر .!! ” لقد خدشت مشاعرهما الكلمات الصامتة”، حتى بدت تلك الكلمات الصامتة شلالات من الدموع، أطفأت نيران الخلجات والكلمات .. إذا مرادفات الحزن حاضرة؛ كهروب اللغة، صمت، دموع، حزن، .. هذه الحالة جعلت الفتاة تتخذ موقفاً سريعاً وتغادر المقهى مسرعةً، لكنها ارتبكت وسقطت، ثم استجمعت قواها ولملمت نفسها ..في حين سدّد الشاب فاتورة الحساب وآخر لقاء بينهما محاولاً اللحاق بالفتاة .
ثم تأتي الخاتمة الصادمة في القصة، ” هي لم تخبر حبيبها بموعد الزواج ..” ، أيٌ حبيب ..؟؟!! . وهل هناك حبيبٌ آخر ستتزوجه ولم تخبر حبيبها الأول بموعد زواجها ؟؟ ثم السؤال الأخير، ” كيف لامرأة عاقر أن تخبره أنها ..؟ ” هل كانت متزوجة وتعرف أنها لاتنجب وأخفت عنه كل شيء ؟؟
نهاية مفتوحة خلفّت وراءها كمّاً من التساؤلات حتى أعادتني ذاكرتي إلى العنوان ” هو وهي ” ، وماذا لو كان العنوان : ( هو وهي ومن معها ) ؟؟ هل تطرح الكاتبة ” إلهام عيسى” موضوع الخيانة ؟؟ أم الصدق والكذب ؟؟ أم هروب اللغة ؟؟
ماذا تحتاج العلاقة العاطفية لتقوم بين عاشقين ؟؟ هل تحتاج اللغة الجميلة الواضحة؟؟ أم تحتاج قلباً صادقاً محباً وفيّاً ؟؟ هل تحتاج الوضوح في المشاعر بعيداً عن التقلبات والانزياحات ؟؟
لقد آثرت الفتاة أن تترك الشاب ربما لأنها لاتريد أن تخدعه أكثر، ولكن لماذا لم تخبره بحقيقة أمرها ؟؟
لقد أظهرت الكاتبة الشاب بموقف المحبّ الوفي، فقد لحق بالفتاة في النهاية، ولم يفعل سوى التدخين وحرق سجائر قلبه، فهو لم يعرف السبب الذي جعل الفتاة تجافيه، وتقرر الانفصال عنه وتركه، وكان من حقه أن يعرف .. بينما كان اللوم على الفتاة التي أخفت مافي قلبها، واتخذت موقف الانفصال من غير أن تبرر وتوضح ..
تمعن الكاتبة في تخيّر مفردات اللغة، فتأتي مفرداتها لتوائم معاني النص من مثل : ” تفتّقت براعم الحب ” فعل التفتيق للدلالة على التجديد والتفتح، ثم براعم الحب، تستعير للحب براعم الزهر والشجر، كما تبدو عنايتها بالصور المركبة من مثل :”أورقت شجيرات أظلت روحيهما” فالروح تستظل بفيء الأشجار، وعبارة ” صمتها الغارق في بحور الألم “, ثم استخدامها لمفردات لها وقع موسيقي جميل على الأذن مثل : ” ران على قلبيهما” .. وكلمات لها علاقة قوية باللغة من مثل : ” الانزياح ، هروب اللغة ، حتام ، هو وهي ” ..
نص جميل ترك احتمالات مفتوحة كخاتمته، وهذا ما تتركه العلاقات الإنسانية العاطفية من احتمالات لانهاية لها، فالنفس البشرية الواحدة متفردة ببصمتها وشعورها، وربما لذلك جعلت الكاتبة نصها مفتوحاً في النهاية، ليشاركها القارئ رؤيتها ونظرتها إليه .
بقلم رولا علي سلوم
**************
بمقهى …( هو وهي)
قصة قصيرة
إلهام غانم عيسى
حدث وأن واعدته في ذاك المقهى قرب البحر..
تصافحا ببرودة،جلس كل واحد منهما على كرسيه وأخذ يحدق بالكأس الزجاجية المملوءة بالماء فوق الطاولة..
لم يكن غير القمر يراقبهما ، ويضيء المكان.. وراحت رياح خفيفة تلهو بشعرها الليلي.
بطريقة عبثية.. هو يفكر بها .. وهي تفكر بالرحيل عنه..
تذكر…أنّها التقته هنا اول مرة وتفتقت براعم الحب حتى اورقت شجيرات أظلت روحيهما..
والان تحدق بعيدا بصمتها الغارق في بحور الألم..
هو، سرعان مايشعل تبغه، حتى يكاد يحرق قلبه، يفرط في شرب السجائر، ظنا منه أن دخانها يهدئ خوالج نفسه..
ولم يستطع الانتظار حتام ستظل ترتشف كأس العصير الذي طلبه لها..
هي لم تتركه يكمل كلمات عتابه..
تهرب منهما اللغة واللوم وتنزاح عن عيونهما الاتهامات..
كيف تقرر البعد عنه..؟
لم يستسغ جفاءها..
كيف يصدق أنها لم تبادله الحب يوما..
لقد خدشت مشاعرهما الكلمات الصامتة.. لگأنما انهالت شلالات الدموع من مقلتيها لتطفئ صمت نيرانها الخلجات والكلمات..
ولما عم الصمت وران على قلبيهما..
قفزت..
وسرعان ماغادرت المقهى مسرعة.. ترتبك وأشياؤها.. تسقط تحاول أن تستجمع قواها وتلملمها..
يطلب من النادل الحساب.. يسدد فاتورة اخر لقاء بينهما ويلحق جريا بها..
هي لم تخبر حبيبها بموعد الزواج ..
هي… كيف لامرأة عاقر أن تخبره أنها ..؟