“تعتبر البقايا المعمارية والآثار الدينية البيزنطية، الموجودة اليوم في سوريا، أكثر عدداً من آثار كل العصور مجتمعة ".
د. فيليب حتي
كلمة (دير) سريانية الأصل، يقصد بها المنزل الذي تسكنه. جماعة من النساك المتعبدين لله.
ويشترط في كل دير أن تكون فيه كنيسة يُصلّي فيها الديرانيون. كما يشترط أن يحتوي على عدد من الغرف تستوعب مافيه من رهبان ، إضافة الى عدد من الغرف الأخرى كالمخازن وبيوت الطعام وغيرها من الأجنحة تتضمن مكتبة وبيوت ضيافة ينزل بها زوار الدير وضيوفه. كما كان للعديد من الأديرة أملاك خاصة بها كالبساتين وغيرها.
وقد تحدث العديد من الكتاب والمؤرخين والجغرافيين عن الأديرة قديماً ، ووضعوا عنها مؤلفات هامة منها كتاب (مسالك الأبصار) لابن فضل الله العمري، وكتاب (الديارات) للشابشتي.
سوريا في العهد البيزنطي
تبدو سوريا في العهد البيزنطي، بمظهر يختلف عن مظهرها فى العصر الرومانى. وقد أصبحت اليوم بلاداً مسيحية بوجه عام. والواقع أن هذه الفترة، هي الفترة الوحيدة التي كانت فيها سوريا بلاداً مسيحية تماماً ونظراً لوقوع العصر البيزنطي بين العصر الروماني الوثني ، والعصر الاسلامي العربي، فإنه كان فريداً في تاريخ سوريا، ولم تكن البلاد مسيحية فحسب بل كان العصر تسيطر عليه الصفة الدينية . فقد كانت الكنيسة أعظم مؤسساته ، وكان القديسون ينالون أكبر جانب من الاحترام. وقد وجد بين القرنين المرابع والسادس ، عدد من الرهبان والأساقفة والراهبات والنساك بشكل لم يعرفن من قبل ولا من بعد...
انتشار الكنائس والأديرة
كانت الكنائس والأديرة تنتشر في البلاد جميعها، وتتبع أسلوباً جديداً في الهندسة المعمارية ، يظهر فيها الباب وأبراج الأجراس والصلبان البارزة . وكانت الكنائس تتجه نحو الشرق. وقد نشطت زيارة الأماكن المقدسة ، وقدمت النذور والصلوات عند قبور القديسين، وقد حضر مجمع نيقية Necaea الذي انعقد في عام(425 م) أكثر من خمسين أسقفاً من سوريا.
الرهبنة
كانت الرهبنة طريقية محببة في الحياة . وقد انبثقت الرهبنة كنظام، من عادة الزهد المسيحية ، وكان مؤسسها مصرياً ، يدعى ( القديس أنطونيوس (ت 360م) وسرعان ما انتقل هذا الأسلوب الجديد من الحياة المسيحية من مصر إلى سوريا الجنوبية ، وفي أواخر القرن الرابع ظهرت جماعة من الرهبان النساك حول انطاکيا وكان القديسين أفرام (373م) أحد مؤسسي الرهبنة السورية.
دير مارجرجس
يقع هذا الدير المهيب في النهاية الجنوبية لسلسلة الجبال الساحلية في غرب سوريا، وهو يطل على سهل البقيعة الخصيب، الذي يفصل بين هذه الجبال وسلسلة جبال لبنان الغربية. في منطقة خصبة معروفة بجمالها الطبيعي، وبسبب غالبية سكانها المسيحيين أطلق عليها اسم (وادي النصارى) الذي تم استبدال اسمه مؤخراً بـ (وادي النضارة), وهو يبعد عن مدينة حمص (60) كيلو متراً باتجاه الغرب. وعن مدينة طرطوس الساحلية (32) كيلومترا شرقاً، وعلى بعد سبعة كيلومترات من هذا الدير تقع قلعة الحصن الشهيرة إلى جنوبه الشرقي.
اسست هذا الدير جماعة من النساك المجهولين الذين كانوا يتعبدون في كهوف هذه المنطقة وغاباتها. في وقت ما من القرن الخامس للميلاد، حيث كانت سوريا جزءاً من الإمبراطورية البيزنطية ، ويعتبر هذا الدير واحداً من منجزات العمارة البيزنطية في سوريا.
والوصول الى هذا الدير عن طريق مفرق (العريضة ) على طريق حمص- طرابلس، على بعد نحو سبعة كيلو مترات باتجاه الشمال. كما يمكن الوصول إليه عن طريق بلدة مرمريتا المجاورة.
أقسام الدير
لدير مار جرجس اقسام متعددة منها :
1 - مدخل الدير القديم، الذي يعود إنشاؤه الى القرن الخامس للميلاد ، وهو يتألف من قطعة واحدة من الحجر الأسود الصلب.
2- غرف الطابق الأرضي، ومدخل فتح فيما بعد على الطابق الأول.
3- مقام القديس جاورجيوس ، الذي بني في القرن الخامس للميلاد، وتم تجديده في أوقات لاحقة . وهذا المقام يضم الايقونسطاس (حامل الايقونات) وهو من الخشب وقد بني في القرن الثالث عشر. وهو رائع النقوش . كما ان هناك منبر وكرسي خشبي ، تزينهما نقوش بديعة.
4- الكنيسة الكبرى فى الطابق الثاني، وهي كنيسة جميلة الهندسة وفيها أيقونسطاس خشبي أنيق وكرسيان لرؤساء الكهنة .
5- منبر الوعظ الذي أهدي إلى الدير عام (1840) ويشاهد على جزئه العلوي نسر، كما انه يتزين بأيقونات للسيد المسيح والإنجيليين الأربعة.
6 - القاعات الكبرى التي كانت تستخدم للزوار والضيوف والمسافرين، أو كمستودعات للغلال الزراعية ، والمنتوجات المختلفة.
نفائس الدير
يضم هذا الدير عدداً من النفائس الرائعة، تشمل قطعاً عديدة، وردت إليه عن طريق الإهداء، أو أنها عناصر ارتبط وجودها بعمارة الدير، وهي تشكل بذاتها تاريخاً حياً للفن المسيحي، في تاريخ سوريا وبيزنطة والعالم.
أيقونات الكنيسة القديمة
تتجلى في (أيقونسطاس) هذه الكنيسة ، قمة الابداع في فن الحفرعلى الخشب ، وهوعمل فني لا يقدر بثمن، جرى الانتهاء من صنعه وترتيبه في عام (1843) وهو يضم عدداً من الأيقونات مع أطرها الخشبية إضافة إلى زخارف نباتية وحيوانية وأشكال هندسية.
وتنسب ايقونات الكنيسة القديمة إلى مدرسة حلب للأيقونات وهي من اقدم الأيقونات الحلبية ، إذ يعود تاريخها الى عام (1795) وهذه الأيقونات القديمة تعطي فكرة عن تطور الفن الديني بشكل خاص. والمدرسة الحلبية في رسم الأيفونات، ما هي إلا استمرار لوجود الفن البيزنطي في سوريا، التي تمثل بنفس الوقت مرحلة هامة في تطوره، وهي متأثرة بالبيئة والتقاليد السورية.
وكان (يوسف المصور) وابنه (نعمة) الحلبيان من أهم المصورين، الذي وضعوا اساس اسلوب محلي أصيل، منذ بداية القرن الثامن عشر والايقونات على التوالي هي :
أيقونة السيدة مريم العذراء مع السيد المسيح، تم الانتهاء من رسمها عام (1800) وأيقونة السيد المسيح التي تعود الى نفس العام، وصورة السيدة مريم مع ابنها وقد رسمت عام (1795) تم صورة القديس جرجس، وهي تمثل القديس في صراعه مع التنين وعليها كتابات باليونانية، ويشير ذلك إلى أنها رسمت في المدارس اليونانية، وقد تعرضت هذه الأيقونة للسطو في عام (1968 ) لكنها أعيدت إلى الدير في عام (1970).
وأيقونات القسم العلوي من هذا الايقونسطاس ، تنتمي جميعها الى المدرسة الحلبية وعددها (13) أيقونة تتوسطها ايقونة تمثل السيد المسيح ، والاثني عشر تلميذاً. وتعبر هذه الأيقونات عن مهارة فنية فريدة، امتازت بها المدرسة الحليبية. وهي تمثل المرحلة التي رعت فيها الكنيسة الفنون . وخاصة فن التصوير الزيتي ، وإن ظهرت متأخرة في بلادنا عن العالم المسيحي في إيطاليا مثلاً...
أيقونات الكنيسة المحدثة
تنتسب أيقونات هذه الكنيسة ، إلى مدرسة القدس في رسم الأيقونات والمواضيع الانجيلية . وقد رسمت أقدم ايقونات هذه الكنيسة في عام (1868) إلا أن معظمها تم الانتهاء من رسمه في عام (1870). وتمثل هذه الايقونات السيد المسيح، والسيدة العذراء والرسل والقديسين، وخاصة القديس (مارجرجس). أما ايقونات القسم العلوي من الأيقونسطاس ، فتتوسطها أيقونة السيد المسيح . وتحيط بها أيقوننا السيدة العذراء، ويوحنا الحبيب وتحيط بالأيقونات الثلاث من كل جانب ستة ايقونات تمثل الرسل الاثني عشر، وتجاور أيقونات الرسل عند كل جانب من الأيقونسطاس ثمانية مواضيع دينية مختلفة لأعياد السيدة بالتجلي والبشارة والميلاد والقيامة والصعود.
نفائس جيورجيا
لقد كانت لهذا الدير علاقة وطيدة ، مع مطرانية وكنائس جيورجيا عبر التاريخ ، بدأت في القرن الحادي عشر الميلاد . وتمثلت في اهتمام المؤسسات الدينية الجيورجية، بتزويد الدير بما يحتاج إليه من نفائس.
ومن النفائس الجورجية مروحة سجل عليها تاريخ صناعتها، وهو عام (1154م) وإنجيل مكتوب باللغة الجيورجية، ومنها أيضاً مباخر وصوان قديمة ، بديعة في زخارفها ونقوشها . بالاضافة إلى نفائس أخرى عديدة، هناك عدد لا بأس به من الكتب الثراثية التي تعود إلى القرون (14) و (17) منها كتاب ( أخبار القديسين، الذي كتب في عام (1672م) ومخطوطات الانجيل المقدس والذي خط في عام (1700م).
جرن المعمودية
وهو أيضاً من نفائس الدير، وهو منحوت من حجر رخامي ، ونظراً لقدمه، فهو يُعتبر من القطع الأثرية التي يعتز بها الدير.
النبع الفوار أو فوار الدير
هو نبع عجيب يقع قرب الدير إلى الجهة الغربية منه. تتدفق مياهه مرة كل أسبوع ثم تنقطع وهكذا. حيث يسقي المزارع والبساتين المجاورة. وقد نزل عليه فرعون مصر (رمسيس الثاني) وجيشه قبل معركة قادش الشهيرة بين المصريين والحثيين وذلك في شهر أيار من عام (1274 ق.م) كما نزل عليه القائد الروماني تيطس عام (70) بعد حملته على فلسطين. وقد ذكره المؤرخ (يوسيفوس) الذي كان واحداً من الذين رافقوا تلك الحملة.
أعياد الدير
يتمتع دير مار جرجس بمركز هام بين الأديرة والكنائس، التي تتبع طائفة الروم الأرثوذكس. وخاصة من حيث اهميته الدينية، وأعداد الزوار التي تقصده على مدار العام. وهناك مناسبتان هامتان يجري الاحتفال بهما في هذا الدير، الأولى هي (عيد القديس جرجس ) الذي يصادف السادس من شهر أيار كل عام. والثانية هي (عيد الصليب ) الذي يقع في (14 ايلول /سبتمبر) من كل عام. وفي عيد الصليب يحتفل الآلاف بهذا العيد، حيث تقام الصلوات والتراتيل والافراح من رقص وغناء ... كما يزور الدير أعداد من السائحين من شتى بلدان العالم.
خاتمة
لقد لعبت الأديره دوراً كبيراً في الحياة الدينية والاجتماعية في العهد البيزنطي من تاريخ سوريا ، حيث كانت تتواجد فى المدن وقمم الجبال وضفاف الانهار، وبعضها كان يحوي مكتبات لنشر المعرفة والإيمان والقيم الأخلاقية والأنسانية، وقد أحصى بعض الجغرافيين والكتاب عدد هذه الأديرة ، فكان يقارب المائة دير، لم يبقى منها إلا القليل مثل دير صيدنايا ودير معلولا ودير مار موسى وغيرها، إلى جانب العديد من الأديرة الحديثة العهد.
إن وجود دير مارجرجس في أكثر الأماكن الطبيعية في سوريا جمالاً وسحراً ، زداه روعة حيث الغابات الخضراء الطبيعية والأشجار المثمرة وأشجار الزيتون، وينابيع المياة، يجعل هذه المنطقة شبيهة بالمناطق الجنوبية من بلاد اليونان بطبيعتها وأديرتها. كما تشبه أيضاً المناطق الجنوبية من أوروبا، المطلة على البحر المتوسط.
لقد ضاع من تلك الأديرة ماضاع، وأنتهى إلينا منها ما أنتهى. ومابقي منها اليوم هو دليل على ما نقول.