د.محمد فتحي عبد العال يكتب : رواق الحكايات .. حي المنيرة وأفراح الأنجال

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : رواق الحكايات .. حي المنيرة وأفراح الأنجال
د.محمد فتحي عبد العال يكتب : رواق الحكايات .. حي المنيرة وأفراح الأنجال
خلف كل  شبر من بلادنا  ألف حكاية وحكاية ..حواديت وقصص لا تنتهي تنبض بتاريخ حي ومتصل وإن تباينت يؤرخ لما مضي بكبرياء  ويرسم الطريق لما هو آت بمداد لا ينتهي من دروس وعبر .. 
حينا في حلقة اليوم كان  يسمى في بداياته بالإنشاء وكان في هذا الزمان المبكر  وجهة لصفوة المجتمع  والطبقات الارستقراطية  الراقية حيث احتضن ثلاثة من القصور الفخمة التي شيدها الخديو اسماعيل لبناته وهن:الأميرة توحيدة عند زواجها من منصور باشا من أعضاء المجلس الخصوصي وكان من نصيبها أول هذه القصور والذي شغلته وزارة الحربية بعد ذلك لفترة  والأميرة فائقة (ابنته بالتبني) عند زواجها من مصطفى باشا بن اسماعيل باشا المفتش ناظر المالية وقد استخدمته وزارة المعارف بعد ذلك  والأميرة جميلة عند زواجها محرم باشا بن كينج شاهين باشا ناظر الجهادية  وقد استخدمت  هذا القصر  المدرسة السعيدية ثم ديوان المعارف ثم مدرسة محمد علي للبنات التابعة للخاصة الملكية..
وحول السبب في تسمية هذا الحي باسمه الحالي (المنيرة) عدة روايات منها أن ذلك نسبة  للأميرة منيرة سلطان  ابنة السلطان العثماني عبد المجيد الأول  والتى تزوجت من الأمير إبراهيم إلهامي باشا ابن والي مصر عباس الأول عام 1857م وشيدت قصرا بهذه المنطقة ومن الجدير بالذكر أن ابنتها هي أمينة إلهامي زوجة الخديو توفيق والتي سنأتي على ذكرها لاحقا .
وعلى الرغم من اقتراب هذه الرواية من المنطق إلا أن الرواية الأشهر أن القدر هو الذي حمل هذا الحي ليطلق عليه هذا الاسم حيث  استضافت شوارعه واحدا من المناسبات  شديدة الفخامة في التاريخ المصري المعاصر ألا وهو أفراح الأنجال ففي عام 1873 قرر الخديو إسماعيل أن يزوج أربعة من أنجاله دفعة واحدة وفي توقيت متزامن عبر حفلات بهيجة  هم :توفيق وحسن وحسين وفاطمة  فتزوج الأمير محمد توفيق من الأميرة أمينة بنت الأمير إلهامى ابن عباس حلمى باشا الاول  ( أم المحسنين) و تزوج الأمير حسين كامل من الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت ابن إبراهيم باشا و تزوج الأمير حسن باشا  من الأميرة خديجة بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا الكبير ويقال أن الخديو إسماعيل قد وعد خديجة بهذه الزيجة إن أظهرت تفوقا في دراستها وبينما يمر الخديو بمدرسة الأميرات ومن بينهن خديجة سألها عما حفظت من القرآن فتلت قوله تعالى في سورة مريم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ) فسر منها وفهم مغزاها وأوفي بوعده.
فيما تزوجت الأميرة فاطمة  من الأمير طوسون بن الوالى محمد سعيد باشا بن محمد على باشا الكبير.
وأقيمت  حفلات صاخبة ومهرجانات  أسطورية بحق بداية من يوم  15 يناير 1873  أنفق عليها ببذخ شديد واستمرت أربعين يوما متتالية بمعدل عشرة أيام لكل عرس أضىء فيه الحي بالكامل  ويقال أنه لهذا السبب تحول اسمه إلى حي المنيرة .
بدأت الحفلات بالقرآن الكريم وإجراء  العقود عبر دخول الشهود إلى باب كل  عروس  مسدل عليها الستار لإتمام الزواج   وتضمنت الحفلات فقرات من الطرب لأساطين الغناء آنذاك مثل عبده الحامولي والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب ومحمد عثمان وعثمان المنيلاوي وغيرهم وقد أوكل الخديو إسماعيل التأليف الموسيقي للتركي محمد ذاتي بك أما الأشعار فكانت من نظم محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري باشا وغيرهم وتضمنت  الحفلات كذلك فقرات للرقص أمام الهوانم أحيتها عائشة الطويلة التي رقصت عشر ساعات متصلة وصفية المنصورية فضلا عن فقرة بهلوانية مبهرة  أدتها” أم الشعور ” وهي إمرأة عجوز تتسلق على الحبل وتذبح كبش صغير وهي لاتزال على الحبل وتلقي بقطع من لحمه على الحضور  كما عرض على الحضور جهاز كل عروس من حلي مرصعة بالألماظ والأحجار الكريمة ومفروشات غالية وثمينة ويحسب للخديو إسماعيل أن انتصر للتجارة المصرية الوطنية في هذه المناسبة التي كانت محط أنظار العالم آنذاك فجلب مستلزمات العرس من محل (مدكور) المصري بدلا من محل (باسكال) الفرنسي غير مكترث بفرق الأسعار  والذي كان بطبيعة الحال في كفة الأجنبي..
حتى نتخيل حجم الحضور الضخم والصاخب لهذه الحفلات فقد شهدت سراي الجزيرة وحدها حضور مالا يقل عن خمسة آلاف شخص  وهي السراي التي أقامها الخديو إسماعيل للاحتفاء بالامبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث امبراطور فرنسا إبان احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 فلك أن تتصور عزيزي القارىء باقي الحضور في قصور القبة والنزهة والجيزة خاصة وأن الخديو سمح لطلاب المدارس بالمشاركة .
على الصعيد الإعلامي ولأن الصحافة كانت مرآة ذلك الزمان فقد أفردت الوقائع المصرية والتي كان يشرف عليها الشيخ رفاعة الطهطاوي عدة أعداد لتغطية هذا الحدث الهام شعرا وتبارى الشعراء في كيل المديح للخديو وأنجاله ومن أبرزهم على الليثي وعبد الرحمن الإبياري وعبد الله فكري والشيخ رفاعة وابنه علي فهمي رفاعة وقد زاد الشيخ رفاعة على ذلك بأن خلد هذه المناسبة بكتيب يحمل عنوان "الكواكب النيرة في ليالي أفراح العزيز المقمرة" بلغت صفحاته عشرين صفحة ..
ومن ألطف أبيات الشعر التي زامنت المناسبة ما قاله محمد عثمان جلال والذي أرخ في أبياته للخديو وابنته وصهره ووالد الصهر أيضا وتاريخ فرح الأنجال على نحو بديع يبرز قوة الشعر في هذا الزمان إذ يقول : " أجل الخديو (يقصد إسماعيل) شأنها لكريمة ...تمد صفاح الهند من حولها خدرا .
إلى طوسون (يقصد العريس) نجل السعيد( يقصد الوالي سعيد والد العريس) زفافها...فأحسن به نجلا وانعم به صدرا .
لقد خطب العليا فقلت مؤرخا...إلى طوسون قد زفت الحرم الزهرا ( يقصد العروس فاطمة الزهراء)" .
بحساب الجمل في الشطر الأخير من البيت يكون الرقم 1289 وهو التاريخ الهجري المقابل لعام 1873 تاريخ زواج الأنجال ميلاديا.
كان من المدعويين للحفل كبار النظار والأعيان يتقدمهم خليل أغا اللالا البشكرجي أو كبير المشرفين على الأمور الخاصة للخديو وكان موضع رهبة إجلال الجميع للحد الذي كان العلماء والنظار وكبار الأعيان يقبلون يده عند مقابلته خوفا وطمعا!!  
والأغوات وإن جاء ظاهر الكلمة لغويا بمعنى السادة أو القادة إلا أن باطنها يحمل القسوة والعذاب فهم  طائفة من الخصيان ويتم ذلك بحقهم نظرا لطبيعة عملهم الخاصة داخل القصور لضمان عدم شهوتهم تجاه النساء  ويقال أن معاوية بن أبي سفيان أول من استخدمهم لخدمة القصور  وقيل أن يزيد بن معاوية أول من استخدمهم وقيل  أبو جعفر المنصور لكن على كل حال فقد كبرت منزلتهم في عهد الدولة العثمانية وخليل أغا الحبشي الأصل بحسب بعض المصادر  كان كبير أغوات الوالدة باشا خوشيار قادين أم الخديو إسماعيل  قدمه لها لأول مرة محمد أمين أحد كبار موظفى الحكومة بالسودان وأنعم عليه بالباشوية تقديرا لهذه الهدية ولتفاني خليل أغا وإخلاصه عهدت له الوالدة باشا بوظيفة اللالا أي المربي ومنحته سلطات مطلقة في الإشراف على  تربية الأمراء ومنهم ابنها إسماعيل ومن هنا نشأت علاقة احترام بين الخديو ومربيه رفعت الأخير إلى هذه المكانة وجعلته  واسطة الصلح أحيانا بين زوجات الخديو إسماعيل وجواريه إن نشب  بينهن خلاف ..دور خليل أغا داخل القصور الخديوية جعله في مرمي الهجوم من أدباء عصره فأنشد فيه عبد الله النديم قائلا : "شوف الأغا في النغنغا ..زي التيران في المزرعة ...لو كنت أنا صاحب الأغا ..كنت اشتريتله بردعة "وحينما سمع خليل بهذا أمر  بجلد النديم وضربه بالقباقيب حتى أغمى عليه ..  كما أوكل لخليل أغا دور الرقابة على الأميرات وتنشئتهن بشكل أخلاقي قويم   لكنه تجاوز حدوده يوما حينما صفع إحدى الأميرات حينما تغيبت عن القصر مدة أطول من المقدر لها وعلى الرغم من مرور هذا الحادث مرور الكرام   بدعم من الوالدة باشا التي عضدت موقفه وشهدت لصالحه وقالت أنها من أمرته بذلك لكن مع اعتلاء الخديو توفيق أريكة الحكم لم تنس الأميرة الثأر لكرامتها فأوغرت صدر الخديو عليه فبدأ نجمه في الأفول وطلب من خليل أغا أن يغادر الأراضي المصرية فاختار أن يقيم في الحجاز وما أن وصل السويس حتى سبقه قرار ولي النعم لمحافظ  السويس في تنفيذ حكم الإعدام في خليل أغا بضرب عنقه أو تجرع السم فآثر خليل أغا الموت بالسم وعاد جثمانه لقصره بحلوان ودفن في مقابر الإمام الشافعي بمدفن أقامه مزود بسبيل  وبستان نضر . 
كون الأغا ثروة ضخمة فوجه الكثير منها في أوجه الخير فأنشأ مدرسة أهلية لتعليم الأيتام بالقرب من المشهد الحسيني وأوقف عليها أوقافا كثيرة لكن المدرسة هدمت وأقيم محلها مشيخة الأزهر وافتتح مقرا جديدا لها في شارع فاروق (الجيش حاليا ) في عهد الملك فؤاد عام 1930 ثم نقلت تبعيتها من الأوقاف إلى المعارف في عهد الملك فاروق عام 1946 وتحولت من مدرسة ابتدائية إلى ثانوية ..أما أوقاف خليل أغا الضخمة ذات الإيرادات الوفيرة فقد ضمها الملك فؤاد إلى الأوقاف الملكية مما جعل الأغوات المستفيدين منها يتذمرون ويطالبون بعودة الوقف لهم  وحينما رفع الأمر للملك فاروق بعد وفاة أبيه اكتفى بمنحهم أربعة جنيها شهريا وهكذا استمر النزاع والتقاضي على إرثه مدة طويلة ..
الطريف هو أسماء بعض شوارع حي المنيرة  والتي خلدت ذكرى الحفل حتى يومنا هذا مثل شارع أفراح الأنجال المتفرع من شارع القصر العيني  وشارع السكر والليمون وهو المكان الذي كان يعد فيه مشروب (الليمونادة) ليوزع على المدعوين ويذهب البعض إلى أن شارع الماوردي إنما سمي بذلك نسبة لماء الورد الذي كان يوزع بالحفل وليس بالضرورة نسبة إلى الفقيه الحافظ أبو الحسن الماوردي قاضي قضاة البصرة في الدولة العباسية وصاحب الكتاب الشهير الأحكام السلطانية .
 
 
* د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري