ذكريات مستعملة قصة: كرم الصباغ

ذكريات مستعملة قصة: كرم الصباغ
ذكريات مستعملة قصة: كرم الصباغ
في جو صيفي خانق،  أواصل سيري عبر الشوارع ذهابا، و عودة، متفحصا وجوه المارة، و ما طبع عليها من علامات الأسى و العبوس.  لا أحد يضحك في تلك المدينة؛ لقد دفعتني كثرة ما رأيت من الوجوه المكتسية بحزنها المستدام إلى إصدار هذا الحكم القاطع، حتى السيارات، التي تمرق على يساري لآلات تنبيهها من الحزن نصيب؛ إذ تشبه النغمات المعدنية التي تطلقها  الأبواق من وقت إلى آخر نحيب طفل هده التعب. 
   أستطيع أن أميزهم بسهولة بمجرد أن تقع عيني على أحدهم؛   فهم في الغالب يسيرون مطرقين، تتلون   جلودهم بالصفرة و الشحوب، تفوح من جلودهم رائحة يود نفاذة، أعينهم   مشبعة  بالانكسار، يلفهم الصمت، و  لا يتفوهون بأية كلمة، تطبق على شفاههم الشرائط اللاصقة، و  يحملون فوق أكتافهم رءوسا كبيرة، تشبه الحقائب المنتفخة، عادة ما أجد داخلها ضالتي؛ فأنا عازف ناي، اعتدت أن أشتري من أولئك المارة  المتعبين ذكرياتهم القديمة المستعملة، و التي  بدورها   تمنحني الرهافة، و الألحان الجديدة المشبعة بالشجن، أعزف؛ فتخرج ذكريات المارة، و تأخذ طريقها إلى سلتي، و في غمرة العزف و المبادلة؛  يكسو الريش جسدي شيئا، فشيئا. و ما إن تمتلئ سلتي عن آخرها، حتى  تطبق الشوارع علي صدري بشكل مفاجئ؛ و تتحول إلى تابوت،  لا ينفذ إليه الهواء، عندئذ  أضرب بجناحي  الهواء كعصفور هارب،  و أظل طليقا أجوب  السماء إلى أن أستهلك  ذكرياتي المشتراة؛  فتخبو   ألحاني رويدا رويدا، و ما إن   تمسي سلتي  فارغة، حتى تجذبني   الشوارع بأياديها  الخشنة؛  فأعود مرغما  إلى قلب الشرك و التابوت برفقة نايي الصامت، و عصفور في قلبي  جريح. 
(٢)
    في الآونة الأخيرة راجت الأحزان، و ضجت  الشوارع  بأصحاب الشرائط اللاصقة، و الرءوس المنتفخة؛ و وفق قانون العرض و الطلب، بت غير مضطر إلى عزف اللحن إلى آخره، يكفيني فقط أن أعزف مطلعه؛ فتخرج الذكريات السجينة بعد لحظات من تلك  الرءوس، و تنداح على وجوه أصحابها، و تأخذ طريقها إلى سلتي الفارغة. و بعد أن تتم المبادلة أراهم يمضون إلى حال سبيلهم، و قد ارتسمت ابتسامات شاحبة  على شفاههم التي تحررت من شرائطها للتو. و من وقت إلى آخر أراهم يلتفتون إلى الوراء برءوس عادت مرة أخرى إلى   حجمها الطبيعي؛ فأبصر  في   أعينهم  نظرات الامتنان، تمتد إلى  نايي، الذي  خلصهم- و لو  مؤقتا- من عذاب اجترار الذكريات. 
(٣)
    في يوم غير بعيد   قابلني رجل مسن، لا تقوى قدماه على حمله، و لا يقوى أيضا على حمل رأسه المثقل بالهموم. كان الرجل قد بلغ سن التقاعد منذ زمن؛ فأودعه أبناؤه دارا للعجزة و المسنين، و توقفوا عن زيارته.  كانت ذكرياته شبه فاسدة، قد تآكلت، لكنه رغم ذلك لم  ينعم بالنسيان قط؛ إذ كان يبصر يوميا في البناية المقابلة لدار المسنين رجلا آخر  في مثل عمره، يخرج إلى الشرفة، و يسند ظهره إلى مقعد هزاز. كانت  الموسيقى  تنداح من جهاز "كاسيت"  وضعه إلى جواره، بينما كانت تحين من عينيه نظرات مطمئنة نحو أصائص الورد، التي زرعها أبناؤه خصيصا من أجله. و في الجهة المقابلة كان الرجل المسن  القابع في دار المسنين، يرى هذا المشهد اليومي؛ فينهار من البكاء، و لما لم يستطع التحمل، غافل الحراس، و فر من الدار إلى الشوارع. أذكر أنني  بعدما أفرغت رأسه من ذكرياته الموجعة، أقنعته بشق الأنفس أن يعود برفقتي إلى دار المسنين، و منذ ذلك اليوم واظبت على زيارته إلى أن فارق الحياة، برأس خال من الأوجاع، و قلب طالما ابتهج بباقات الورد، التي داومت على إهدائها إياه.
(٤)
    في الآونة الأخيرة التقيت بكثير من النساء، اللائي ابتعت منهن ذكرياتهن،  و لكنني لا أنسى تلك المرأة بالذات؛ فقد انخرطت في نوبة بكاء حارة، بمجرد أن  بدأ العزف، و سرعان ما خرجت  الصور   من رأسها بنسق متتابع مثل شريط  سينمائي؛ رأيتها منكبة على جثمان طفلة، دهستها عجلات إحدى السيارات.  رأيت المارة محتشدين حول المرأة المحترقة، و الجثة المخضبة بالدم،  سمعتهم يوبخون المرأة بشدة، و يتهمونها بالتقصير، و سرعان ما  أبصرت في سلتي  رجلا معلقا في الهواء فوق سقالته، رأيته  يلتقط الطوب الأحمر بخفة و مهارة  من أحد الأوناش الصاعدة إليه من الأرض، رأيته  يرص الطوب في سطور متساوية إلى جواره فوق السقالة، ثم   يستدير كبهلوان إلى الجدار، الذي كان قد  بدأ في بنائه منذ الصباح.  كانت العمارة قيد التشييد، و كان الارتفاع شاهقا، و  كان العرق يتصبب من جبين عامل البناء بغزارة،  و كانت أشعة   الشمس المسددة إليه حارقة. و بعد مرور  لحظات سمعت صرخة مدوية، تنعي العامل الذي اختل توازنه؛  فسقط من فوق سقالته، تاركا خلفه  أربعة بنات، و أرملة، سقطن بموته  بين  ماضغي الجوع و أضراسه الحامية.
    ذكريات المرأة تتلاحق،  و  سلتي تكاد تمتلئ عن آخرها؛  فأبصر الطفلة الكبرى ذات السنوات العشر،  تمد يدها إلى المارة في الشارع   ببضاعتها  الرخيصة: علب المناديل و اللبان؛  فيرمقونها بتأفف و استعلاء، و يصدون يدها بغلظة،  بينما  كانت  أمها على الرصيف المقابل تفعل مثلها،
   و تتلقى الإهانات ذاتها،  في حين كان هناك ثلاث بنات، يكسو الزغب جلودهن، يتعلقن   بذيل جلبابها الأسود. 
     لا أحد يضحك في تلك المدينة، و لا أحد يشعر  بآلام الأم  و بناتها.  أبصر  الأم، و  طفلتها  غارقتين في الحيرة و العجز، أبصر  الأم و طفلتها مثل طائرين نحيلين يلتقطان رزقهما الشحيح من بين فكي تمساح، يوشك   جوفه الأسود السحيق أن يبتلعهما. أرى  سيارة  يقودها شاب أرعن بسرعة جنونية، و أرى  الطفلة تدهس تحت العجلات،  و أرى   ثيابها المتسخة و علب مناديلها تتلون  بالدم و التراب.   سلتي تنتحب، و نايي ينوح، و المرأة  تروي الأسفلت بدموعها الغزيرة، و تنهض بعد حين بذات الرأس المنتفخ، الذي يضج بعدد لانهائي من المرارات المتراكمة على جدران الذاكرة.   
(٥)
  رأسي يؤلمني بشدة،  يكاد الصداع يمزقه، أشعر بأنني أحمل فوق كتفي بالونا منتفخا، يشتهي الانفجار.  كم أرغب في  الصراخ، و لكنني أشعر بأن  ثمة شريطا لاصقا يطبق على شفتي، لا أستطيع انتزاعه، و لا أستطيع كذلك عزف نايي، الذي أصيب، فجأة بالخرس.   يبدو أنني في حاجة ماسة إلى  العثور   بشكل فوري على  عازف ناي آخر، يوافق على شراء ما يختزنه  رأسي من ذكريات حزينة مستعملة مقابل مزيج  من الشجن و الرهافة و الألحان  الطازجة، التي  ستمنحنه- و لو بشكل كاذب- الشعور بالقدرة على الغناء والتحليق.