عبد المنعم سعيد يكتب : ثورة الذكاء الاصطناعى

عبد المنعم سعيد يكتب : ثورة الذكاء الاصطناعى
عبد المنعم سعيد يكتب : ثورة الذكاء الاصطناعى
 
هل انتهت الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة، وبدأت الرابعة فعلًا؛ وهل صحيح أن الرموز التي عرفناها تحت لافتة تكنولوجيا المعلومات IT قد ذهبت وحل محلها الذكاء الاصطناعى AI؟. الحقيقة هي أنه ليس هكذا تؤتَى الأمور، والحقيقة هي أن الثورات الصناعية لا تنتهى، وإنما تذوب كل واحدة منها فيما سوف يتلوها؛ بل إن بعض آثارها يظل باقيًا حتى بعد قرون، فبعض الحِرف التي ساد الظن أنها ذابت بعد عصر الميكنة، بما فيها إصلاح الأحذية أو تفصيل الملابس، لا تزال قائمة، بل إن ما فيها من عمل يدوى ربما يعطيها قيمة أفضل. الثورات لا تتولد فقط مما كان موجودًا قبلها مباشرة، وإنما ربما تغوص في الزمن إلى أوقات أبعد. وخلال الأسابيع الماضية، كان هناك أمران يهتم بهما عالم الأنباء في السياسة والاقتصاد والمعرفة بوجه عام: أولهما الذكاء الاصطناعى؛ وثانيهما الانتخابات التركية؛ وما بعد كليهما تفاصيل جديدة في الحرب الأوكرانية الروسية، التي وصلت إلى داخل روسيا مؤخرًا، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المناطق الفلسطينية، وانعقاد قمة عربية حضرتها سوريا وأوكرانيا أيضًا. أصبح الحديث في «الذكاء الصناعى» محتدمًا، وحتى تدخل فيه الحكيم الأمريكى «هنرى كيسنجر»، بعد أن بلغ المائة عام، وهو مستشار الأمن القومى، وزير الخارجية الأمريكى، إبان إدارتى «نيكسون» و«فورد»، (١٩٦٨- ١٩٧٦). حذر «الحكيم» مع آخرين من تبعات تكنولوجيات جديدة تُفضى إلى سباق حاد بين أقطاب العالم من ناحية؛ ولها قدرة ذاتية في داخلها تكفى لتدمير العالم وما فيه. الأمر هكذا بات فيه ما عرفه العالم مع كل تطور في قوى الإنتاج من حيث البطالة التي تسببها، ومن حيث القدرة على إيذاء الثقافات، التي تعودت على أنماط بعينها للعيش والتعامل، وما تقود إليه من توترات ما بين القوى القائدة في الكون حتى لا تتفوق إحداها على الأخرى.
بدأ العلماء في التفكير عما إذا كان ممكنًا تعليم الآلات التفكير مثل البشر!. كانت الآلات قد نطقت عندما سجلت الأصوات على أسطوانات، وفيما بعد على شرائط، ثم «سى. دى»، وأخيرًا «فلاش»، وفى هاتين الأخيرتين أخرجت الآلات صورًا. ولكن كل ذلك كان عمليات ميكانيكية لا يوجد بها «تفكير»، ولذلك اعتبارًا من خمسينيات القرن الماضى حلم علماء بالذكاء الاصطناعى، ومعناه البسيط محاكاة الآلة- الكمبيوتر في عصرنا- للذكاء البشرى، بحيث تتم برمجة آلة واحدة أو أكثر للعمل بالطريقة التي تحاكى أو تكرر السلوك البشرى. لاحظ هنا أن المحاكاة تحدث من خلال برنامج «ذكى» يكفى للقيام بمهام معقدة دون تدخل بشرى أو توجيه؛ بينما ما يحدث في العقل الإنسانى هو عملية أشد تعقيدًا من البرمجة، حيث تتفاعل الخلايا العضوية، التي تتمتع بمزايا إرسال الرسائل «الكهربائية»، التي تشكل أنواعًا من الأوامر، التي يُمليها «العقل» تكفى للقيام بعدة مهام في وقت واحد، مع حفظ القدر الذي يكفى إمكانية تكرار العمل أو الأعمال في الذاكرة.
التطور في حالة الذكاء الاصطناعى يولد من القدرة على رصد أنماط متكررة من العمل تشكل «معلومات» من خلال البرمجة؛ وبعدها تأتى المرحلة التالية في تطوير الآلة للإبداع والمبادرة و«التفكير» المعقد، أي متعدد الأبعاد والمتغيرات. الشبكات العصبية التي تحاكى نشاط الدماغ البشرى (المخ) تأتى من خلال ما سُمى «خوارزميات»، نسبة إلى عالِم الرياضيات العربى «الخوارزمى»، أو «Algorithms»، التي من خلالها تكتسب الآلة قدرات اتخاذ القرار.
وهكذا اكتسب «الذكاء الصناعى» أهميته من خلال قدرته- أولًا- على استيعاب كميات هائلة من المعلومات والبيانات، التي تُجمع عن المستهلكين والعملاء، بحيث تشكل أنماطًا من القرار يمكن استخدامها في الحملات التسويقية لدى عملاء ومستهلكين جدد. في المكاتب القانونية، التي عليها في حالات كثيرة استيعاب الكثير من القوانين والسوابق وأحكام المحاكم بدرجاتها، تنتج عنها أنماط تكفى للاستكشاف السريع للحالات الجديدة، وثانيًا: أن البرامج الموضوعة تتضمن القدرة على التعلم، وفيها تكون الذاكرة القادرة على الحفظ والاستعادة السريعة لما تم حفظه، وبعد ذلك تكييف السلوك وفقًا للتجارب السابقة من خلال عمليات «الاستدلال» للوصول إلى أهداف أو نتائج محددة. واستنادًا إلى التعلم والقدرة على الاستنباط، فإن هناك نوعين من الذكاء الاصطناعى، أولهما البسيط، وهو المعلوم بالفعل من خلال أجهزة الكمبيوتر الراهنة، التي يمكنها تصويب نحو اللغة أو عند الرد على الرسائل الإلكترونية واستكمال بعض الجمل للترحيب أو الأسف استنتاجًا من طريقة الكاتب في رسائل سابقة. وثانيهما الراقى والمعقد والقوى، الذي يمكنه كما يأمل العلماء القيام بأى أمر ضرورى. هو لديه قدرات هائلة للاتصال بقواعد كبيرة للمعلومات عن البشر، تم جمعها عن طريق السلطات الرسمية، أو تمت تطوعًا كما هو الحال في تحديد صفات المشترك في شبكات التواصل الاجتماعى.
وهكذا أصبحت الروبوتات التي تتحدث مع الآخرين والتى تعمل بالذكاء الصناعى منتشرة بشكل متزايد في خدمة العملاء، وخلال الأعوام الأخيرة جرى استخدامها لخدمة الحجيج المسلمين في مكة والمدينة لتقديم الخدمات وحتى الإرشاد لأمور متعددة منها الأمور الدينية. في مجال الصناعة فإن تعقيد البرامج يتيح طفرات إنتاجية من عدد أقل من العمال، ومن ثَمَّ يمكن توفير العمالة للقيام بمهام أخرى. باختصار، فإن الذكاء الاصطناعى يمكنه إكمال المهام بأشكال أكثر سرعة، وأكثر كفاءة من البشر، وبمجرد انتهاء البرمجة تقوم الآلة بأداء نفس المهمة باستمرار دون أخطاء ولا إرهاق؛ وفى مراحل أكثر تعقيدًا يمكنها التنبؤ بالنتائج وتقديم اقتراحات. المثال الكلاسيكى على ذلك أن خوارزمية مراقبة آلات المصنع يمكنها التنبيه إلى مواعيد تغيير قطع إنتاجية قبل انتهاء عمرها الافتراضى، والقيام بالاتصال بالجهات أو الشركات التي يمكنها التعويض في الوقت الملائم. ولكن في مقابل كل هذه الفوائد، فإن الشائع فيما يخص الذكاء الصناعى أنه سوف يؤدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وعدم المساواة. وكما حدث مع الكمبيوتر وتسبُّبه في خلق حالة من عدم المساواة بين مَن يستعملونه ويُجيدونه، وهؤلاء الذين لا يعرفونه أو يستخدمونه، فإن مَن يجيدون استخدام الذكاء الاصطناعى سوف يوجدون في مواقع الأكثر تفوقًا من حيث الدخل والمكانة.
المخاوف من الذكاء الاصطناعى لا تدور حول البطالة فقط، أو التمييز، وإنما التأكيد على أن الأمر في الأول والآخر سوف يعتمد على سلامة المعلومات والبيانات المقدمة للآلة، والاستخدام الأخلاقى لها، حيث إنها تزيد من قدرة اختراق الخصوصيات الإنسانية. معضلة هذه التكنولوجيا أن قدراتها أكبر لو استُخدمت في السباق الدولى، وتغيير توازنات القوى العالمية، حيث لا توجد قواعد منظمة للطفرات الضخمة، التي يمكن أن يسببها الذكاء الاصطناعى في أسلحة الدمار الشامل والحروب السيبرانية. صحيح أن مثل هذه المخاوف ترددت أثناء الثورات الصناعية المختلفة، وآخرها الثورة الصناعية الرقمية؛ ولكن تم التفاعل معها من خلال عمليات تنظيمية تحدد على المستوى العالمى التعامل مع هذه الثورة الجديدة، كما حدث عندما جرى إنشاء الوكالة العالمية للطاقة الذرية على سبيل المثال.