محيي الدين إبراهيم يكتب : ثورة الفلاحين ولدت صلاح جاهين وقتله حب الوطن! ( الجزء الأول )

محيي الدين إبراهيم يكتب : ثورة الفلاحين ولدت صلاح جاهين وقتله حب الوطن! ( الجزء الأول )
محيي الدين إبراهيم يكتب : ثورة الفلاحين ولدت صلاح جاهين وقتله حب الوطن!   ( الجزء الأول )

 

 

ولد محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي جاهين يوم 25 ديسمبر عام 1930، في بيت جده في حي شبرا، في البيت الكبير بشارع «جميل باشا» بمنزل جده لأبيه الكاتب الصحافي أحمد حلمي، الذي بدأ عمله بجريدة اللواء حتى اصبح محل ثقة مصطفى كامل، فاتفق معه على التفرغ التام للعمل في الجريدة وعقب رحيل مصطفى كامل. في أبريل 1908، أصدر المجلة الأسبوعية القطر المصري، هاجم من خلالها الخديوي والإنكليز، فتقرر تقديمه إلى المحاكمة بحجة تعديه حدود الأدب والواجبات الصحافية، أمام محكمة «السيدة زينب» في 5 أبريل 1909، بتهمة التطاول على مسند الخديوية المصرية، والطعن في حقوق الحضرة الخديوية، فحكمت المحكمة بسجنه عشرة أشهر وتعطيل جريدته وبعد انقضاء مدة الحبس وتعطيل الجريدة أصدر صحيفة «الشرق» عام 1914 ثم جريدة «الزراعة» عام 1919 وظل يواصل مسيرته متمرداً على الظلم والاستبداد، كاتباً وشاعراً، وعاشقا لوطنه. واستطاع أن يغرس كراهية المحتل والصفات الوطنية في نجله بهجت حلمي، الذي اتجه إلى سلك القضاء بعد دراسة القانون، وتزوج من السيدة أمينة حسن، التي تخرجت في مدرسة السنية، ثم عملت مدرسة للغة الإنكليزية، ليعيش الجميع معاً في ذلك البيت الكبير بشارع جميل باشا في شبرا.

ولأن الأب يعمل بسلك القضاء، كان استقراره في مدينة واحدة يكاد يكون مستحيلاً فانتقل بعائلته الصغيرة إلى أسيوط وألحق أبنه الصغير صلاح جاهين بروضة الكلية الأميركية في أسيوط، ثم بعد عامين في أسيوط، نُقل الأب ليعود مجدداً إلى القاهرة، والتحق صلاح بمدرسة الناصرية الابتدائية، غير أن استقرار الأب في القاهرة لم يدم سوى عام، انتقل بعدها إلى محكمة شبين الكوم بمحافظة المنوفية ليلتحق صلاح بمدرسة شبين الكوم وما إن مرّ العام حتى نُقل الأب، وبصحبته الأسرة، إلى أسيوط مجدداً.

ظل صلاح مغترباً مع أبيه طيلة فترة الطفولة والمراهقة حتى وصل سن دخول الجامعة ولم يكن يؤنس غربته إلا عشقه للرسم الذي ورثه عن والدته والقراءة وكتابة الشعر الذي ورثه عن جده إذ لم يتمتع بوجود اصدقاء من عمره بسبب ترحاله المتواصل مع اسرته من مدينة لمديرية لمحافظة.

 

كوبري عباس يفجر عبقرية صلاح جاهين:

بالرجوع لتاريخ صلاح جاهين وجدنا أن أهم حدث استفزه وأخرج "جني" الابداع من قلبه كان حدث غرق طلبة جامعة القاهرة حين فتح عليهم " الإنجليز" كوبري عباس يوم 9 فبراير 1946م في عهد وزارة محمود النقراشي باشا وفي عهد الملك فاروق بعدما اصرت بريطانيا في بقاء بمصر لتأمين قناة السويس، لتصدر اللجنة التنفيذية العليا للطلبة قرارًا بدعوة الطلاب لعقد مؤتمر عام يوم 9 فبراير لمناقشة حالة البلاد في ظل الاحتلال وهاجمت مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا الذي يحمل معنى الحماية الاستعمارية وانعقد المؤتمر العام الأول في يوم 9 فبراير 1946 في جامعة فؤاد الأول وشارك فيه طلبة المعاهد والمدارس، وأعلن المؤتمر أن المفاوضات مع انجلترا عملاً من أعمال الخيانة يجب وقفه، وطالب بإلغاء معاهدة 1936 وضرورة جلاء القوات البريطانية فورًا، وبعد انتهاء المؤتمر خرجت من الجامعة أضخم مظاهرة عرفت منذ قيام الحرب العالمية الثانية فعبرت شارع الجامعة ثم ميدان الجيزة إلى كوبري عباس وما إن توسطته حتى حاصرها البوليس من الجانبين وفتح الكوبري عليها وبدأ الاعتداء على الطلبة فسقط البعض منهم في النيل وقتل وجرح أكثر من مائتي فرد، وقتها كان صلاح جاهين عمره 16 عاماً فقط وطالباً بمدرسة المنصورة الثانوية فثار وتزعم مظاهرة لطلبة المدارس الثانوية بالمنصورة ثم تولدت لديه قريحة الشعر الثوري الذي ورثه عن جده فكتب قصيدة عبر فيها عن سخطه للأنجليز وحزنه على من مات من الثوار فكانت هذه القصيدة حديث المنصورة وكانت ثوريته فيها  وغيرته الوطنية محط احترام الجميع وهو الأمر الذي اشتعل في روحه وقرر أن يبقى مشتعلاً حتى جلاء الإنجليز.

 

ثورة الفلاحين اعلنت عن ميلاده الثوري والوطني الحقيقي: 

أما الحدث الأهم الذي صنع صلاح جاهين كمبدع له قيمته وقامته وأطلقه للنور ليصبح رمزاً وطنياً في عالم الإبداع هو ثورة الفلاحين في قرية "بهوت" مركز نبروه بمحافظة الدقهلية ضدّ أسرة الإقطاعي "البدراوي عاشور" عام 1951، لتكون نقطة فارقة في حياته، ليس كشاعر فحسب، وإنما كثائر مهموم بقضايا وطنه وقضايا البسطاء والمعدمين من الشعب.

كانت عائلة «البدراوي باشا عاشور»، تملك أكثر من ‏36‏ ألف فدان موزعة على‏ مراكز المديرية مثل: نبروه وشربين وبلقاس،‏ إلى جانب «بهوت». في ذلك اليوم من سبتمبر 1951، أمر الباشا بتوريد كميات محددة من القمح إلى مخازنه، لكن الإنتاج لم يكن كافياً لتغطية المطلوب، فغضب الباشا وطلب تأديب الفلاحين، فهاجم رجاله بيوت الفلاحين، واستولوا على كل شيء لديهم، وقبضوا على أكثر من 50 فلاحاً وحبسوا في قصر الباشا، فانتفضت القرية للمرة الأولى.

اتجه جمع من الفلاحين إلى قصر الباشا وحاصروه وأشعلوا النيران من حوله، محتجزين في داخله نازلي سراج الدين، زوجة محيي الدين البدراوي عاشور، فاتصلت نازلي بوالدها وزير الداخلية آنذاك فؤاد باشا سراج الدين، فأمر الهجانة والعسكر بالتوجه إلى القرية، لمحاصرتها.

بقيت القرية محاصرة 45 يوماً، ووقف عبد المجيد بك البدراوي عاشور، بجبروته وسط العسكر مصوباً بندقيته تجاه أحد أبنائها، ليسقط شهيد بهوت الأول، محمد أبو الريش، ثم حذا عبد العزيز بك البدراوي عاشور حذو أخيه، وقتل ببندقيته الشهيد الثاني لقرية بهوت الشيخ غازي العجمي، ووقف محيي الدين البدراوي عاشور، عضو البرلمان محتجاً داخل البرلمان على العدد الهزيل من القتلى قائلاً قوله الشهير: “لو كنت حاضراً أثناء الحوادث لقتلت جميع الفلاحين، فهؤلاء فلاحون كلاب”.

وأصر صلاح جاهين على حضور محاكمة هؤلاء الفلاحين، وكتب متأثراً بحوادث «بهوت» قصيدة لاقت صدى كبيراً في أوساط الشعراء والمثقفين، ومن أهمهم الشاعر فؤاد حداد الذي عرض عليه الانضمام لمكتب الأدباء والفنانين الثوريين اليساري وبالفعل انضم صلاح ليجد معه عدد كبير من الفنانين والأدباء والمخرجين، من بينهم: أحمد كامل مرسي، وصلاح أبو سيف، وحسن فؤاد، وصلاح حافظ، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وفؤاد حداد، ويوسف إدريس.

 

بيرم التونسيي تنبأ بميلاد شاعر عامية شديد الإبداع:

كان صلاح جاهين يعمل في مجلة "بنت النيل" ومجلة "التحرير" كرسام للإعلانات ووقتها طلبوا منه أن يرسم إعلانا لشركة السماد المصرية لصاحبها عبود باشا الذي اشترط أن يكون معها كلمات مغناه يمكن قراءتها في إعلان الشركة بالجريدة الناطقة التي كانت تعرض بكل سنيما في مصر قبل عرض الأفلام، لكن المدهش أن الملحن المصري الكبير أحمد صدقي قام بتلحين كلمات الإعلان التي كتبها صلاح جاهين، وكانت مفاجأة بالنسبة للكاتب المبدع "بيرم التونسي" الذي استمع إليها وتنبأ بميلاد شاعر عامية شديد الإبداع وظل يبحث عنه حتى وجده وصارت صداقة بينهما وجلسات تلميذ مع أستاذ بمقهى "لوكس" بميدان المواردي في السيدة زينب استمرت حتى وفاة بيرم التونسي الذي رثاه "صلاح جاهين" بقصيدة أبكت مصر كلها وحيث كان "جاهين" يعتبر "بيرم التونسي" أباه الروحي الذي أقتفى أثره وليس ( تقليده ).

 

فشله بالجامعة:

التحق بكلية الحقوق لتحقيق رغبة والديه، ورغم ذلك لم يحضر محاضرة واحدة بها بل تفرغ لإبداعاته، فلم ينقطع عن كتابة الشعر أو الرسم، فتعثّره في دراسته، حتى رسب عامين متتاليين في السنة الأولى في الكلية، فقرّر من دون علم والديه الدراسة في كلية الفنون الجميلة، وشعر للمرة الأولى بأنه سار في الطريق الصحيح. غير أنه ما إن انتظم في الدراسة، حتى اكتشف أنها لم تضف إليه الكثير، فرفض الجامعة تماماً مقرراً أن يعمل في الصحافة «رساماً» مما أثار غضب والده وثورته.

 

صعلكة وسفر في إثر تلك المشادة العنيفة بينه وبين والده:

غادر صلاح جاهين منزل اسرته دون علم والده وسافر إلى عمه في غزة، ثم قرأ إعلاناً عن وظيفة مصمم «مجلات» في المملكة العربية السعودية، فتقدَّم إليها ثم سافر ولكن استطاع والده أن يعرف مكان عمله في المملكة العربية السعودية، ولم يجد أمامه سوى أن يرسل خطابا إلى نجله الوحيد، يحثّه فيه على العودة إلى القاهرة، ويختار الطريق الذي يريد المضي فيه، وتحديد مستقبله بنفسه من دون تدخل أحد. عندئذ، عاد صلاح جاهين إلى مصر، والتحق بالعمل في جريدة «بنت النيل» 

 

زواج على طريقة دار الهلال:

ترك جاهين صحيفة بنت النيل وانتقل لصحيفة التحرير التي دأب على أن يرافق صفحاتها إلى المطبعة، حيث كانت تطبع في مؤسسة «دار الهلال»، وهناك تعرف فيها على سوسن زكي الفنانة التشكيلية، التي تعمل رسامة بمؤسسة «دار الهلال»، ليعجب صلاح بسوسن وتعددت اللقاءات التي انتهت بالزواج.

 

ثورة 52 وبزوغ نجومية جاهين كأحد أبناء الثورة:

بقيام ثورة 52 انفجر بركان الأبداع عند جاهين وبسبب اتجاهه اليساري بانضمامه لجمعية الفنانين والأدباء وجد ضالته في مجلة روز اليوسف التي انتقل اليها سكرتيراً للتحرير، وينشر بها رسوماته الكاريكاتيرية التي تمدح الثورة وتمدح قادتها من الضباط الأحرار ويصبح من أشهر رسامي الكاريكاتير.

 

العدوان الثلاثي 56 شرارة اللقاء بين جاهين – مكاوي :

ولأن الأحداث لا تولد صدفة، وإنما لكل حدث جذور تظهره للنور، فإن لقاء "جاهين" وصديق كفاحه الفنان المبدع "سيد مكاوي" لها جذور قد تبدو مدهشة، يقول "سيد مكاوي":

في عام 1955م سمعت الصورة الغنائية "سوق بلدنا"، الذي كتبها "جاهين" وأخرجها "صلاح أبوسيف" وقام بتلحينها "أحمد صدقي" وكنت لم أعرف "صلاح" حتى ذلك الوقت مجرد كاتب لكلمات صورة غنائية مدهشة كنت أغنيها لأصدقائي بشكل مستمر لشدة إعجابي بها وحبيت أشوف صلاح وأعرفه شخصيا ودورت عليه حتى قابلته يوما في قهوة "النشاط" بالجمالية التي كنت دائم الحضور إليها وبالصدفة كان يجلس بجواري، وعندما عرف أنى "سيد مكاوي" قال لي:

أنا في انتظارك مليت !

وكان وقتها العدوان الثلاثي 1956م، ومن هذه الليلة بدأت الصداقة والعمل المشترك الذي أستمر العمر كله حيث جمعتهما سوياً أغنية كتبها جاهين وعرضها على سيد مكاوي الذي انفعل بها ولحنها في أقل من ساعة زمن وهي أغنية: ﺡ ﻨﺤﺎﺭﺏ ﺡ ﻨﺤﺎﺭﺏ كل ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺡ ﺘﺤﺎﺭﺏ ﻤﺵ ﺨﺎﻴﻔﻴﻥ ﻡ ﺍﻟﺠﺎﻴﻴﻥ ﺡ ﻨﺤﺎﺭﺏ ﺡ ﻨﺤﺎﺭﺏ ، وتم تسجيلها في اليوم التالي وأذيعت في اليوم نفسه، وسرت الأغنية بين جموع الشعب سريان النار في الهشيم، وسمعت أم كلثوم الأغنية، فطلبت من صلاح جاهين كتابة أغنية وطنية لها، فكتب لها «والله زمان يا سلاحي» وحققت الأغنية نجاحاً مدوياً، حتى أنه لم يكن في مصر، كبير أو صغير، لم يحفظ هذه الأغنية، ويحفظ اسم مؤلفها صلاح جاهين الذي صار شاعر الثورة وتم تكريمه بأن اصبح نشيد والله زمان يا سلاحي في عام 1960م، هو السلام الوطني الجديد للجمهورية العربية المتحدة اتحاد مصر وسوريا.

 

بناء السد وسام على صدر جاهين:

في عام 1964م كان قرار مصر بتحويل مجرى النيل وبناء السد العالي حينها كتب جاهين أغنية «ناصر يا حرية»، ألحان كمال الطويل وغناء عبد الحليم وفي عام 1965م كان أسم صلاح جاهين في أول القائمة مع الذين كرّمهم الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم ومنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ومن ثم بعدها ارتبط صلاح جاهين بمشروع جمال عبد الناصر السياسي، وراهن على عبدالناصر لتحقيق أحلام المصريين، لذلك كانت أشعاره الحماسية مبشرة بفجر جديد.

 

 

هزيمة يونيو وتحطم صلاح جاهين:

في 10 مايو صرّح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بأنه إن لم يتوقف النشاط الفدائي الفلسطيني في الجليل، فإن الجيش سيزحف نحو دمشق، الأمر الذي جعل الرئيس جمال عبد الناصر يصرح بإعلان الحكومة المصرية نقل حشود عسكرية وآليات اتجاه الشرق وانعقاد مجلس حرب كبير في القاهرة بمقر القيادة العامة للجيش المصري،  وبدأت القوات المصرية في مضايقة قوات الأمم المتحدة وإخراجها من مواقعها في سيناء وأعلنت مصر وسوريا أن قواتهما المسلحة في حالة استعداد كامل للحرب ضد اسرائيل، كانت كلمات عبد الناصر حافزا لأن يكتب صلاح أغنية «راجعين بقوة السلاح» التي ما إن قرأتها أم كلثوم، حتى طلبت من الموسيقار رياض السنباطي تلحينها على الفور وغنتها أم كلثوم في الرابع من يونيو 1967، ولم يكن أحد يتصور أن صباح الخامس من يونيو يحمل كارثة حقيقية، وتتحطم الأماني العريضة لكل الشعوب العربية على صخرة هزيمة يونيو 1967، ويدخل صلاح جاهين في دوامة الاكتئاب، حتى جاء خبر وفاة عبدالناصر عام 1970م، ليدخل جاهين في أزمة عمره التي استمرت عشرين عاما لم يداويها نصر أكتوبر حتى رحل عنا في 21  أبريل 1986.