جاكلين جرجس تكتب : ليت العالم يسمع آنين الاطفال !!

جاكلين جرجس تكتب : ليت العالم يسمع آنين الاطفال !!
جاكلين جرجس تكتب : ليت العالم يسمع آنين الاطفال !!
تحت إحدى الكبارى فى أشد أيام طوبة ضراوة و برودة يفترش الأرض طفل صغير لا يجد غير غيوم السماء يلتحف بها ، صانعا من الرصيف و حذاؤه وسادة قاسية يسند رأسه عليها ، بات لا يهاب الموت أو ظلام الليل فالقساوة تغلغت إلى قلبه و افترسته افتراسًا ، حتى أصوات الحشرات المزعجة اصبحت كموسيقى تألفها أذنيه ، فى كل ليلة يناجى ربه فى حسرة و ألم هل أنا من أخطأ أم والداى لماذا اختارنى الشارع ليكون مأوى لى ؟، أم أنا الذى اخترت الهرب لحضن المجهول لعله يكون أحن عليًّ من اهلى و يمر شريط ذكرياته القصير أمامه ؛ فعمره كله لا يتجاوز إحدى عشر سنة و لسان حاله يردد بحسرة نعم نعم أنا من أخذت القرار بنفسى أنا الجانى على روحى و المجنى عليه فى آن واحد ، أنا من اخترت البقاء خارج المنزل لأعيش بين الكلاب و القطط الضالة اشاركهم الأرصفة و بواقى  الطعام الفاسد فى سلة القمامة و بالرغم من ذلك أجدهم يحيطون بى بحب ليدفئوا جسدى النحيل فلم يقم أحد منهم بأذيتى أو ضربى أو سحلى و الاعتداءعلىًّ، و فى الصباح أجد نفسي بين من يطلقون عليهم بشر  و هم أكثر قسوة و وحشية من الوحوش الضارية ، لكن الفرق بينهم و بين أهلى أن هؤلاء الناس لا اعرفهم أو يعرفونى لذلك فهم يرفضونى بينما اسرتى تعرفنى و اعرفها لكنهم يكرهونى كأنى أتيت إلى الدنيا كنبت شيطانى فقد نشأت فى أسرة مفككة ، كان أبى يضرب أمى كثيرا ودون سبب وبعد أن توفيت تزوج والدى من أخرى كانت تتعدى علىّ بالضرب بمناسبة و بغير مناسبة فقررت الهروب من المنزل إلى الشارع ظنًا منى أنه أحن ، تعرضت للعنف و الاعتداء تعلمت شرب السجائر و كل مرة أنوى الرجوع لوالدى تنهال زوجته علي بابشع الالفاظ و السباب بجانب أخذ حصتى كاملة من الضرب و الشماتة و التعيير ... و صوته يختنق من الدموع يردد قائلاً فعلا الشارع هو مصيرى الأبدى فأنا و من مثلى أخر من ينامون بعد سكون الليل و أول من يستيقظون نهارًا من حرقة الشمس و ازدحام الطريق !.
   و فى إحدى الليالى الباردة أثناء تسكعه فى شوارع منطقة كفر السيسى بالهرم لم يكن يعلم أن الحظ سيبتسم و أن هناك معجزة ألهية بانتظاره ، حيث كان فقد الأمل تمامًا فى أن يعيش حياة أدمية مثل باقى الأطفال ؛ لكنه وجد مبنى بابه مفتوحا على مصرعيه دون قفلا أو جنازيل حديدية و تعتليه يافطة كبيرة حاول الصبى فك طلاسم اليافطة بصعوبة شديدة فقد اخرجه والده من مدرسته ليوفر تكاليف نفقتها و يعطى المبلغ لزوجته الجديدة ؛ اخيرا نجح فى قراءة بعض الحروف و تجميعها لكلمة أو اثنين كل ما استطاع قراءته كلمة " مأوى " لم يفهمها و ظن أنهم يقصدون كلمة ماء فقال لا بأس على الأقل سأجد ما أشرب أو احتمى بهذا المبنى من صقيع و برد الشتاء ؛ بينما كان مكتوبا عليها " مركز أطفال بلا مأوى " التابع لجمعية كاريتاس مصر .  
   لم يستطيع الطفل فهم معنى المكتوب و ما هى جمعية كاريتاس ؛ لكن خوف ما كان يعتريه أن يدخل المكان ربما يكون فخ منصوب له سيسقط فيه و يأخذ نصيب جديد من القسوة و العنف بداخله ،فبدأ يقدم رجل و يأخر الأخرى فى النهاية استجمع شجاعته و قرر الدخول قائلا فى نفسه على الأقل سأجد مكان أنام فيه اليوم واهرب غدا ، أنا بارع فى الهروب و اعتدت عليه و الليلة شديدة البرودة فلما لا سأجرب حظى اليوم !!
 و لما دخل وجد مشرفين المركز الذين رحبوا به و قدموا له المحبة و الطعام والملابس بالإضافة إلى شنطة تحتوى على كل ما يحتاجه الطفل لنظافته الشخصية و جهزوا له سرير الطوارىء ،كل هذا تم و نظرات الخوف و التعجب و الرهبة الممزوجة بالاندهاش تعتلى وجه الطفل ، و دون أن يتفوه بكلمة تسول أو عبارات الاستجداء وجد ترحيب و احتواء لم يعهدهم فى أى مكان ، ولأول مرة منذ خروجه إلى الشارع يشعر بالأمان فيخلد إلى النوم فى ثبات عميق .
   فى صباح اليوم التالى بدأ المشرفين و معهم مديرة المركز بالتقصى عن الطفل و حالته الاجتماعية و عنوان والده و بعد التأكد من المعلومات التى تم جمعها قرروا أن يستضيفوا الطفل كل ذلك و الطفل لم يشعر بأى شىء مهين أو مُذل أو حتى خادش لكرامته فكل الأمور تتم هناك بسرية و بمحبة و احترام و تحت إشراف اخصائيين اجتماعيين و نفسيين ،كان هذا اليوم الأول فى حياته  يتعامل فيه الطفل باحترام بعد أن كان فقد معنى الهوية و الكرامة و التقدير و الثقة فى النفس أو فى أى شخص ، ظل يتجول فى المكان يتعرف على زملاؤه وجد البعض يدرس فى صفوف دراسية مختلفة و البعض الآخر فى انتظار أن يتم إلحاقه بالمدرسة فشعر أنه أخيرًا وجد ضالته و طلب من المشرفين أن يقيدوا اسمه فى إحدى المدارس و أن يتعلم العزف و الرسم فهو يحب جدا الاستماع إلى الموسيقى مثلما علمته والدته قبل وفاتها ، هذا اليوم كان نقطة تحول و ميلاد جديد لهذا الطفل المسكين بعد أن كان يسهر ليلته كل يوم يشكوه ربه ظلم الناس ظل ليلته تلك يشكر ربه أنه وجد هذا المأوى الأمن فى" مركز اطفال بلا مأوى" ، لم يفكر هو أو أحد من زملاؤه فى الهرب من المركز بالرغم من أن أبوابه مفتوحة على مصرعيها لأنهم أخيرا وجدوا الحب و الاحترام .
   قصة هذا الطفل و أسواء منها حدثت و تحدث باستمرار أملنا أن نقضى على ظاهرة تشرد الأطفال و استثمار طاقتهم و إدماجهم فى المجتمع بشكل إيجابى ، شكرا لكل مسؤول يأخذ على عاتقه هذه القضية لتنتهى من حياتنا ظاهرة تشرد الأطفال ، شكرا لكل من يدعم هذه المؤسسات التى تأوى الاطفال بكل الرعاية و الاهتمام .
 شكرا لجمعية كاريتاس مصر حيث أن كلمة كاريتاس تعنى المحبة ،تأسست الجمعية في جمهورية مصر العربية منذ عام 1967وهي إحدى مؤسسات المجتمع المدني وهدفها التنمية الشاملة لكل إنسان دون التمييز بسبب اللون أو الأصل أو الجنس أو الدين وتعمل طبقاً للقانون المصري، ورسالة كاريتاس- مصر هي مكافحة الفقر ونبذ التعصب والتمييز العنصري وتمكين الفئات المهمشة من المشاركة الكاملة لتنمية حياتهم.
كل الشكر والعرفان لمسؤولى مركز أطفال بلا مأوى ؛ ليت العالم يلملم براءة الاطفال المشردين قبل أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة فهناك العديد من القلوب البريئة المشردة فى العالم بها طاقة لا تقدر بثمن .