أنور ساطع يكتب : إحباطات الاقتصاديين بجناية رجالات مراكز القرار

أنور ساطع يكتب : إحباطات الاقتصاديين بجناية رجالات مراكز القرار
أنور ساطع يكتب : إحباطات الاقتصاديين بجناية رجالات مراكز القرار
 
كل من يتابع التاريخ على اختلاف مراحله يتأكد لديه أن عصرنا الذي نعيش هو عصر الإقتصاد ، فالاقتصاد من حيث المبدأ يقوم في حياة الشعوب بما قامت به الأساطير والأديان في العصور الأولى . وعلى سبيل المثال ، أعلن كارل ماركس لأتباعه قبل قرن ونيف : * إن التطور الاقتصادي هو الأساس في تطور المجتمع وأنه يمكن رد معظم المتغيرات إلى أسباب إقتصادية . ومن جهة أخرى أكّد الفريد مارشال أحد مؤسسي علم الاقتصاد الحديث في مقدمة كتابه ( أصول الإقتصاد ) في نهاية القرن الماضي : * أن لا شيء يعادل الشعور الديني في تحديد سلوكية البشر والجماعات سوى المصلحة الاقتصادية . ويكفي أن نتابع المعارك والمنازعات الدولية لنتأكد إنها تدور حول قضايا اقتصادية وتستخدم فيها الحجج والبيانات الإحصائية والتبريرات المصلحية غالبا ، مما جعل الاقتصاد والاقتصاديين في مركز الأحداث . فمنذ فترة ليست ببعيدة نتذكر جميعا عندما أعلن بوش (( أن لأمريكا مصالح في الشرق الأوسط نسعى للحصول عليها)). كما لم يعد غريبا أن تصبح بعض أسماء علماء الإقتصاد المعاصرين أو القدامى من الأسماء الجارية في كل مناقشة \ وليس غريبا أيضا أن تصبح بعض الكتب الاقتصادية تنافس روايات الإثارة والجاسوسية في قائمة اهتمامات المتلقي . رغم الأزمات والنكبات التي يتعرض لها كل من الاقتصاد والاقتصاديين على أيدي رموز أنظمة الإقليم . ولعل أقرب الأشياء إلى تصوير أهمية الاقتصاد المتزايدة هو ما نراه من بروز القضايا الاقتصادية في المعارك الانتخابية الدولية ، فمنذ سنوات طوال ومن عاصر معركة كارتر وريغان الانتخابية لا بد له أن يسترعي انتباهه إلى دور الحجج الاقتصادية . ولقد كانت معركة فاليري جيسكار ديستان و فرانسوا ميتران الانتخابية شبيهة بتلك ، حيث إحتلت المناقشات الاقتصادية حيزاً كبيراً من المناظرة فيما بينهما سواءً عند تركيز جيسكار ديستان على أهمية نظام النقد الأوروبي أو الدفاع عن سياسة رئيس وزرائه \ بار \ للتقشف أو عند معارضة ميتران له والدفاع عن سياسات كينزيه للقضاء على البطالة وضرورة التأميم . كما اكتسبت في بريطانيا حكومة المحافظين لقبا من لغة الاقتصاديين وهو ( النقديين ) ، كما أضاف برنامج ريغان الإقتصادي كلمة جديدة في قاموس السياسات الاقتصادية هو \ الريجانو إقتصادية \ . وفي نفس الوقت الذي بلغ فيه الاقتصاد هذه الأهمية المحورية فإننا نجد أن حرفة الاقتصاد لم تكن أكثر ترددا وضياعا مما هي عليه الآن . ويصعب القول بكل تأكيد بأن هناك فريق عمل اقتصادي متفق . ولكن بوجهة نظري أن العيب أو عدم إتفاق فريق إقتصادي ما يعود إلى سياسات الأنظمة . فقد كثرت الآراء والسياسات الاقتصادية بعدد الاقتصاديين أنفسهم . وفقدت في عصرنا الحالي النظرية الاقتصادية الأكاديمية الكثير من الاحترام والرهبة الذي عرفته في الماضي ، بسبب تدخل الأنظمة والسياسيين ومراكز القرار في هذه السياسات الاقتصادية أو تعارضهم معها . فعندما وجّه أكثر من أربعة وستين من أساتذة الاقتصاد في الجامعات البريطانية كتاب إنتقاد لتاتشر فيما يتعلق بسياستها الاقتصادية النقدية ، كان تعليق جريدة الفانينشال تايمز المالية اللندية بالغ القسوة والدلالة السياسية في نفس الوقت ، حيث رأت في هذا الإجماع الأكاديمي على معارضة سياسة تاتشر خير دليل على صحة تلك السياسة ! أي سياستها التي تقيّد عمل الفريق الاقتصادي . وبهذا يتضح لنا أن النظرية الاقتصادية (( شمّاعة بوجهين )) تصلح لدعم أو هدم أي هيكل سياسي أو بمعنى آخر السلطة . وليست أحوال المنظمات الدولية بأفضل حالاً بالتأكيد ،  ونرى أن صندوق النقد الدولي يكاد يصبح متخصصا في تقديم نصائح مدمّرة . حيث أن شروطه للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي تؤدي إلى قيام مظاهرات واضطرابات نتيجة لرفع أسعار المواد الغذائية والوقود طبقاً لنصائحه أو برنامجه الاصلاحي الاقتصادي الذي يقترحه الصندوق للدول المستدينة ، وذلك ضمانا للحصول على موارده وأمواله ، وعلى سبيل المثال تماما كما حصل في كل من مصر والبيرو وتركيا ، حتّى باتت أجهزة الاعلام والصحافة تطلق إسم شغب واضطرابات صندوق النقد الدولي على نوع جديد من مظاهر الفوضى الناشئة عن تطبيق اقتراحات الإصلاح الاقتصادي لخبراء صندوق النقد الدولي ، وهو نمط معروف وثابت يبدأ برفع أسعار المواد الغذائية والوقود وينتهي بنزول رجال الأمن إلى الشوارع . في الربع الأخير من القرن الثامن عشر أخرج آدم سميث كتابه في \\ ثروة الأمم \\ سنة 1776 مفنداً آراء التجار ومدافعا عن أهمية الحرية الاقتصادية وخطورة تدخّل الحكومة بها ، مؤكدا فكرة أساسية لازمته وهي أن المصلحة الخاصة وحدها كفيلة بتحقيق المصلحة العامة ، وأنه ليس أخطر وأضر على المصلحة العامة من هؤلاء الذين يدّعون حماية هذه المصلحة العامة . وأكّد بأن سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة يدفعهم بيد خفيّة إلى تحقيق المصلحة العامة . وجاء الاقتصادي كينز ليقدم الأساس النظري اللازم لضرورة تدخل الدولة لدعم النشاط الاقتصادي في أحوال الركود . وأوضح كينز أنّه مع جمود الأسعار وعدم فاعلية الإجراءات النقدية فإن تدخل الدولة عن طريق السياسات العالمية المالية لدعم الطلب أمر لازم للقضاء على البطالة . وقابل هذا التغيير في التفكير النظري تغيير في طبيعة المشكلة ، فعندما واجه كينز مشكلة البطالة كان هناك ركود عام مع انخفاض في الأسعار ، ولذلك أمكن لأتباع كينز أن يضعوا نوعا من المعادلة بحيث تناقض البطالة والتضخم .فالنظام إمّا أن يواجه مشكلة بطالة ترجع إلى نقص الطلب أو أن يواجه مشكلة تضخم تعود إلى زيادة الطلب . والسياسة الاقتصادية المقترحة هي التأثير على الطلب لتحقيق التوازن المطلوب . واكتسب الأمر مايشبه الحقيقة العلمية مع ما يعرف بمنحنيات فيليبس . الحقيقة التى لا مراء فيها هي أن علم الاقتصاد قد حقق تقدما وتطورا كبيرا وهو يمثّل بالنسبة لكافة العلوم الاجتماعية قفزة هامة إلى الأمام .وقد طوّر علم الاقتصاد إطارا نظريا صلبا يعتمد على منهج علمي راق ويستند إلى تراث ضخم من التجربة الاقتصادية . وقد سخّر علم الاقتصاد في هذا الصدد نماذج رياضية وأساليب إحصائية لإثراء تجربته . ومع ذلك يواجه الاقتصاد مجموعة من الصعوبات التي تجعل السياسة الاقتصادية قاصرة أو حتّى فاشلة في تحقيق النتائج الملموسة . ولعل أول الصعوبات التي تواجهها السياسة الاقتصادية عدم وضوح الرؤية الاقتصادية لدى رجال السياسة أو النظام الحاكم . فالاقتصادي ليس من شأنه أن يضع الأهداف وترتيب الأولويات ، فهذه قضية سياسية تخص السلطة . ولكن رجال السياسة لا يعرفون بالضبط ماذا يريدون ، أو بالأصح فهم يريدون تحقيق هدف أو أهداف اقتصادية معيّنة في الوقت الذي تسير فيه ماكينة الحكومة لتحقيق أهداف اخرى مناقضة لها تماما . كذلك فإن عدم وضوح الرؤية لا يقتصر فقط على عدم تحديد الأهداف بل إنه يمتد لعدم معرفة من هو صاحب القرار الحقيقي ؟ ، هل هي الحكومة ؟ ، أم البرلمان ؟ ، أم رجال الإعلام ؟ ، أم الشارع السياسي ؟،  أم فلان الفلاني ؟،  أو رجال الأمن النافذين في مجال اتخاذ القرار ؟ . إن رجل الاقتصاد يجد نفسه في حيرة من نفسه ليس فقط فيما يطلب منه من أهداف غير محددة وأحيانا متناقضة ، بل أيضا في التوجيهات المتعارضة التي تصل اليه من كل صوب وجانب !! . أمّا السياسي فإنّه يعمل وعيناه على السلطة مثل الانتخابات القادمة ، قد تكون برلمانية أو بلدية أو انتخابات محلية اخرى ، أو شواغر في مراكز معينة يجب تعبئتها من المقربين ، ويصعب أن تمر فترة ما دون أن تكون فيها مناسبات يمكن الحصد فيها . ومن هنا فإن السياسي عجول لا يتحمل انتظار نتائج سياسة الاقتصادي ، فهذا الأخير يتعامل مع هيكل الإنتاج وتغيير الاذواق واكتساب خبرة جديدة وفتح أسواق بعيدة ، وكل هذه الامور تتطلب وقتا لا يستطيع النظام أن يتحمله . لذلك فإنه في أغلب الأحيان ما إن توضع سياسة اقتصادية قيد التنفيذ حتى يبدأ في نفس الوقت بتطبيق سياسات اخرى كفيلة بتخريب هذه السياسات الاقتصادية لأسباب سلطوية . إن المنطقة العربية احتضنت العديد من رجال الاقتصاد المعروفين اقليميا ودوليا ، فهل فعلاً فشلوا في إصلاح السياسة الاقتصادية ؟ ، بالتأكيد لا ، لكنهم اصطدموا بجدران إسمنتية مسلّحة لرموز هذا النظام أو ذاك لا يمكن إختراقها ، وتمنع سياستهم الاقتصادية من الاستمرار في نهجها لأنها تؤثر على مكاسب هذه الرموز ، ومنذ الأيام الاولى لتولي أي رئيس مهامه سرعان ما يطرح هو نفسه مشروع مكافحة الفساد ، ولكن بعد ذلك لم يستطيع أحد أن يتقدم خطوة واضحة واحدة الى الامام في هذا المشروع الذي يغتال منذ اللحظة الاولى لولادته ، إن لم نقل الذي يتم إجهاضه قبل ولادته . لأن تفشي الفساد في الدولة يعتبر غطاءً يحمي رموز أي نظام في صفقاته المشبوهة التي تنهش مال الشعب والدولة .فالتعارض بين حقائق الترابط الاقتصادي الفعّال والانفصال السياسي يضع رجال الاقتصاد في محنة حقيقية عندما يطلب منهم تنفيذ سياسة تتحد عناصرها الأساسية خارج الحدود التي يعمل في إطارها حكومات الإقليم ،حيث تكون رموزها في نهاية المطاف وفي بداية المطاف هي من يحدد لرجال الاقتصاد دورهم ومكانهم والخطوط الحمراء أمامهم!. ونحن نعلم أن هناك رجال اقتصاد معروفين قد احترقوا في هذه العاصمة أو تلك ، كلهم اصطدموا بهذا الواقع الذي نتحدث عنه وأصيبت سياستهم الاقتصادية بإحباطات متكررة نتيجة تعارضها مع توجهات بعض السياسيين أو أصحاب مراكز القرار . الآن بعض رجال الاقتصاد أو رجال الأعمال بل العديد منهم فضّل توقيف مؤسساته واستهلاك قسم من رأسماله للمعيشة نظرا للظروف المهيمنة في الشارع العربي التي لا تخفى على أحد . ولكن وباختصار أنا اقولها بكلمة واضحة ومفهومة للجميع * إنّه الفساد المتفشي في البلاد ** . وفي مثل هذه الظروف ليس من الغريب أن يفشل الاقتصادي في تقديم سياسة ناجحة ، فهو يعمل في ظل ظروف بطبيعتها لا تسمح له بأي نجاح . ولكي ينجح هذا الاقتصادي يجب قبل كل شيء تطهير كل الخلايا التي سيعمل من خلالها الاقتصاد ، وهذا يعني أن التطهير يستهدف أول مايستهدف الفساد المتفشي ورموزه من جذورهم ، كما يجب بتر تهميش المواطن والقمع ومصادرة الحريات وكبت الشعب ، ليبدأ كل الشعب مرة اخرى يتنفس هواء نقياً حراً وبكل عفوية بعيداً عن القمع أو الفساد أو المصادرة . ولتهنأ الأُمّة بفرحٍ وعطاءٍ ، وبانتعاشٍ اقتصادي من جديد .