"إن العالم العربي سوف يصبح أقل ثراءً وأكثر فقراً. بعد هجرة المسيحيين"
*محمد حسنين هيكل
تكاد شعوب الشرق الأوسط، لاتعرف تاريخها معرفة علمية، دون الرجوع الى ماتراكم عنها في الدراسات الغربية. والشعوب التي تصنع حاضر العالم، تسيطر على تاريخه. وإن الجهل بتاريخنا الحقيقي، يبقى جرحاً مفتوحاً. لكن الحق والحقيقة يتجاوزان كل مظر.
وتاريخ المسيحيين في الشرق الأوسط، هو تاريخ جماعة عاشت جيلاً بعد جيل، ومازالت تعيش في هذه المنطقة، التي قبلت بشارة الرسل. والمسيحيون هنا هم أصل سكانها، وبناة حضارتها.
إن الدراسات حول المسيحيين في الشرق الأوسط على مستوى المعرفة قليلة جداً ، خاصة على الوعي العام بها، وإن كانت هذه الدراسات بهذا الخصوص ناشطة في لبنان، وأن ثمة نقص وفراغ في الدراسات الأكاديمية، التي تحاول إسقاط الضوء على هذا الواقع، واستشراف آفاق المستقبل.
الوجود المسيحي في المشرق العربي
انطلقت المسيحية الى العالم من سوريا، التي ولد فيها المسيح وبلغتها الآرامية تكلم، وقد كانت سوريا مركز الثقل في الدعوة الى المسيحية وانتشارها في العالم. وكانت عاصمتها (أنطاكيا) وعاصمة الشرق لمدة تقارب (900) عام، قد لعبت دوراً حاسماً، فكانت ملتقى الرسل (تلامذة السيد المسيح) ومنطلقهم الى سائر البلدان من أجل نشر رسالة المسيح (راجع سفر الأعمال في الأنجيل).
وبعد أن أصبحت المسيحية، الديانة الرسمية للأمبراطورية الرومانية، مطلع القرن الرابع للميلاد، بدا الشرق الأوسط، وكأنه بلاد مسيحية بالكامل.
ويذكر المؤرخ (د.فيليب حتي) في كتابه (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين جـ1 ص 403):
"لقد كانت الكنائس وأماكن الصلاة والأديرة منتشرة في البلاد". ثم يضيف قائلاً:
"وتعتبر الآثار المعمارية، والآثار الدينية البيزنطية الموجودة الآن، أكثر عدداً من آثار جميع العصور مجتمعة".
تقلص الوجود المسيحى في البلدان العربية
الوجود المسيحى في البلدان العربية اليوم آخذ في التقلص يوماً بعد يوم. وقد كان لبنان آخر وأهم معقل للمسيحية في الشرق الأوسط. وإذا غادره المسيحيون –كما هو حاصل اليوم- سيكون في ذلك خسارة كبيرة، ليس للمسيحيين فحسب، وإنما للحضارة الإنسانية والتعايش السلمي بين الآديان. والوجود المسيحي في عدد كبير من المدن والقرى العربية يكاد يندثر. وقد أصبح عددهم في الوطن الأم اقل بكثير مما هو عليه في بلدان المهجر.
أسباب هجرة المسيحيين ودوافعها
هجرة المسيحيين من البلدان العربية، ليست وليدة اليوم. وكانت قد بدأت في آواخر القرن التاسع عشر نتيجة الاستبداد العثماني والظلم والقهر وحدوث المجاعات، والتطلع إلى حياة كريمة، لكنها باتت اليوم تشكل هاجساً كبيراً وخوفاً وقلقاً على الوجود والمصير، ومن أهم أسباب هذه الهجرة:
أولاً: الخوف من تصاعد وهيمنة الأصولية الدينية السلفية الاسلامية، التي تنوعت، وأصبحت (أصوليات) متعددة المشارب والاتجاهات، لكنها تتشابه في عدائها الشديد لغير المسلمين، والانغلاق على الذات، ورفض النقد والحوار، والايمان بالعنف، وكأن الطريق الى الله يجب أن تكون معبدة بالدم. وقد خاضت هذه الأصوليات صراعات دامية ضد بعضها، وضد السلطات الحاكمة في عدد من البلدان في الشرق الأوسط، وقتلت آلاف الأبرياء وسببت هجرة آلاف آخرى.
ثانياً: انحياز الدولة وأجهزة السلطة في عدد من البلدان، إلى تصور ديني ومذهبي معين، ضد الأديان والمذاهب الآخرى.
ثالثاً: الاستبداد السياسي وفقدان الحريات العامة، وسبل العيش الكريم والقلق على الحاضر والمستقبل.
رابعاً: التنشئة الاجتماعية ومناهج التدريس، التي تحض على التعصب الديني والمذهبي تجاه الآخر المختلف، وبث الحقد والكراهية التي تصل الى حد القتل، وغياب مفهوم المواطنة.
خامساً: الارث التاريخي، حيث مازالت صورة الجماعات الدينية المتعددة في البلدان العربية غير واضحة، نتيجة ما تراكم عليها من سلبيات، خاصةً في عصر الانحطاط والعهد العثماني. وقد وضع مبدأ (الذمة) الجماعات المسيحية في البلدان العربية على الهامش طيلة أربعة عشر قرناً -إذا استثنينا العهد الأموي- لم يتمتع المسيحيون خلالها بالمساواة وحقوق المواطنة. وكان ينظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. حيث لم يسمح لهم بالمشاركة في الحكم والادارة، وهذا الأمر مازال معمولاً به الى اليوم في عدد من البلدان العربية. وماكان ينظر إليهم الا بكونهم دافعين للجزية والخراج (ضريبة الأرض).
الوجود المسيحي في البلدان العربية اليوم
يقدر عدد المسيحيين في البلدان العربية اليوم بنحو (35) مليون نسمة. وفي مصر وحدها نحو (15) مليوناً. والباقون يعيشون في عدد من البلدان العربية. والسؤال: ماهو عدد الوزراء والمحافظين منهم في مصر مثلاً، وماهو عدد الضباط القادة في الجيش، بل حتى في فرق كرة القدم. ثم ماهو عدد مدراء المدارس وأساتذة الجامعات وماهو عدد أعضاء السلك السياسي والدبلوماسي!..
وإلى ماقبل بضع سنوات فقط، لم يكن في مصر كلها محافظ مسيحي واحد. ألم يحرم الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ –حامل جائزة نوبل للآداب- من فرصة ارساله في بعثة دراسية الى فرنسا بعد تخرجه في الجامعة عام (1934) لأن مدير البعثات في وزارة المعارف المصرية آنذاك (ابراهيم فوزي) ظن أن نجيب محفوظ من الطائفة القبطية (جريدة الأهرام 31 يناير 2000 ص24).
ويبدو التأثير السلبي اليوم ضد المسيحيين في مصر، في اقوال وتصريحات العديد من رجال الدين المتعصبين، ودعاة التطرف والإرهاب.
هجرة المسيحين من البلدان العربية .
يكمن خطر هجره المسيحيين وتهجيرهم ، عندما تتحدت لغة الارقام في عدد من البلدان العربية وذلك على سبيل المثال :
*في سوريا:
لقد كانت سوريا دائماً مثالاً حقيقياً للتعايش المشترك بين الديانات والطوائف والأعراق . وقد كانت نسبة المسيحين فيها في عام (1914) تقدر بـ (25%) وهي اليوم تقل عن (8%). وقد هاجر مؤخراً عدد كبير من سكان منطقة الجزيرة السورية الى السويد وكندا والولايات المتحدة واستراليا ، وانخفضت نسبتهم من (80% ) في التصف القرن الماضي إلى نحو (10%) في الوقت الحاضر. وقد حلت محلهم جماعات من الاكراد القادمين من تركيا والساعين الى ضم هذه المنطقة الخصبة والغنية إلى اقلیم کردستان العراق.
*في لبنان:
كانت نسبة المسيحيين في لبنان في أواخر القرن التاسع عشر، تزيد عن (80%) لكنها اليوم بحدود (30%) فقط ، وتشير بعض الاحصائيات إلى أن قسماً كبيراً من اللبنانيين يقدر بنحو مليون لبناني قد هاجروا من لبنان منذ عام (1990) ولا زال المسيحيون في لبنان يغادرون بمعدلات مرتفعة لا كل عام ، بل كل شهر!.. وكثير من هؤلاء من جيل الشباب ومن حملة الشهادات العالية ، ومن المعروف أن هذه الهجرة لا تقتصر على المسيحيين فقط ولكن نسبة هؤلاء تتجاوز (75% ) بين المهاجرين، وتعمل الأحزاب والجماعات . و الميلشيات الدينية المسلحة على دفع هؤلاء الى الهجرة، بدافع الخوف ،وعدم ضمان للحاضر والمستقبل.
*في فلسطين
تشجع اسرائيل الفلسطينين المسيحيين على الهجرة ، كما تدفعهم إلى الهجرة الجماعات والاحزاب والميليشيات الدينية المسلحة المعروفة. حتى أن عدداً كبيراً من المدن والقرى الفلسطينية ، قد باتت خالية من المسيحيين تماماً، ولم يبق فيها من يشهد للمسيح علي أرض المسيح.
*في العراق
تم تهجير عدد كبير من الآشوريين في ثلاثيلات القرن الماضي ، بعد المذابح التي تعرضوا لها اثر مطالبتهم بالاستقلال، كما كانوا عرضة على الدوام لاعتداءات مجاوريهم من الكرد ، اضافة إلى ما تعرض له المسيحيون عامة في الموصل وسهل نينوى من مذابح ونهب وسلب وسبي على ايدي تنظيم (داعش) الارهابي منذ عام (2013). وقد تناقص عدد المسيحيين في العراق من (2,6) مليون نسمة إلى أقل من (600) ألف.
*في مصر :
يتعرض الاقباط في مصر اليوم الى حملات اضطهاد غير مسبوقة من قبل الجماعات الدينية المتطرفة، التي انتجها عصر أنور السادات والمد الديني الأصولي السلفي، ، وقيام عدد كبير من رجال الدين المتطرفين بتنمية مشاعر الحقد والكراهية ضد الأقباط ،من أجل التضيق عليهم ودفعهم إلى الهجرة .
وفي عهد حكم الاخوان القصير الأمد، ثم حرق وتدمير نحو (84) كنيسة ، والاعتداء على حياة العديد من الأقباط، و تعرض قراهم ومزارعهم للأذى.
الهجرة تغذي نفسها بنفسها .
يسعى المهاجرون إلى جلب اقاربهم الى بلدان الاغتراب ، وكانت مدارس الارساليات الأجنبية قد ساهمت في رفع سوية التعليم في سوريا ولبنان خاصة، مما ساعد المسيحين على مجابهة ظروف الحياة وسهل عليهم اتخاذ قرار الهجرة ( محمد كرد علي : خطط الشام جـ6 . وسمير عبده : المسيحيون في سوريا ص ( 64 ).
اهمية الجامعة الوطنية
توصل الكاتب (طارق البشري) في دراسته للعلاقات بين المسيحيين والمسلمين في مصر، إلى أن أخطر ما يتهدد المجتمع هو النيل من تماسك جماعاته ، وأنه يستطيع الدفاع عن نفسه فقط في إطار نمو (الجامعة الوطنية ) وليس الجامعة الدينية أو الطائفية . وقد علمنا التاريخ أن قيام الأحزاب الدينية والطائفية ، وامتلاكها للسلاح، لن يحصل منها للجماعات الأخرى إلا الانزعاجات، وفيضاً من المتاعب والمضايقات.
هل تزول المسيحية في البلدان العربية.
ان عمر المسيحية في الشرق يزيد على ألفي عام، فهل يكون القرن الحادي والعشرون شاهداً على زوال المسيحية من هذا الجزء من العالم، بعد كان هذا المشرق كله مسيحياً تقريباً !...
في بلدان المغرب موطن القديس (أوغسطين) تلاشت المسيحية منذ القرن الثالث عشر للميلاد... وقد كانت نسبة المسيحيين في بلاد الشام والعراق ومصر سنة (1914) تقارب (25%) والآن هي أقل من ذلك بكثير بسبب المد الديني والخوف والتهميش والهجرة وتحديد النسل.
وفي الاعلام يتم تصوير الشرق الاوسط ، كأنه لا يوجد فيه مسيحيون و تبقى (الهجرة) هاجس الكثير من المسيحيين في الشرق الاوسط ، ويذكر الكاتب (كلود لورييه) ان حوالي ثلث المسيحيين في الشرق ، وتقديرات آخرى تقول أن النصف ، قد غادروا أوطانهم خلال المائة والخمسين عاماً الماضية..
إن الهجره المسيحية تزيد بدون شك من ضعف الأقليات الأخرى ومعاناتها ، ومن صعوبة جهودها للحفاظ على مواقعها ووجودها.
وهي وان لم تواجه بالضرورة (مجتمعاً معادياً) فهي تقيم في مجتمعات يحاول كل فريق فيها الدفاع عن مصالحه الخاصة ، لاعن مصالح الوطن والمواطنين . وإذا استمرت الأمور على هذا النحو الذي أشرنا اليه فإن الوجود المسيحي في البلدان العربية سوف يرول قبل نهاية هذا القرن ، ويصبح المسيحيون فيه (مادة) للدراسات التاريخية والبحث الأثري، وقد آن للجميع أن يفهموا أن التنوع في المجتمعات البشرية مطلوب ومرغوب فيه ، فهو یزید الثقافة خصوبه و اتساعاً ، ويفتح الآفاق أمام التقدم ودخول العصر.
وفي الختام نقول :
لقد صمد المسيحيون في الشرق الاوسط الى اليوم ، بقيم القدوة والمثال ، التي جسدوها إيماناً وتعليماً ومجتمعاً وثقافة، وبالانفتاح على الآخر، وترسيخ قيم المواطنة الحقيقية للجميع . والدفاع عن مصالح الوطن، وهم اليوم بحاجة الى (انصاف) وليس الى (تصنيف).
وعلى الرغم من الرياح الهوج التي عصفت بهم، قد اعتصروا الحكمة من تجارب التاريخ، وصمدوا خلال القرون ، وكأنهم شهود على حركة الايام وتقلباتها ، وقيام الدول والحضارات وسقوطها. ولكثرة ما خاضوا من التجارب، التي هددت وجودهم، فقد وقفوا امام التحديات وباتوا على علم بما تكنه الأيام ، وما تحمله الليالي....