بدأت سلطة الدولة بشكل عام بالتكوين والتشكّل في مرحلة مبكرة من تطور المجتمع البشري . ففي مرحلة العشيرة كانت تتمثل السلطة بزعامة شيخ العشيرة أو القبيلة ؛ ومنذ ذلك الوقت أخذت فكرة الديمقراطية تتشكل وتنمو ؛ وكانت تجد تعبيرها في عدم الرضى عن تركز السلطة والنفوذ في يد رجل واحد .
وفي عصور لاحقة ونتيجة لانقسام المجتمع الى طبقات متفاوتة أصبحت الديمقراطية تفصح عن نفسها في تلك التحركات الاجتماعية العفوية الإحتجاجية ضد تركز السلطة والثروة معا بيد الفئآت العليا في المجتمع التي لجأت إلى خلق الوسائل الكفيلة بحماية مصالحها فظهرت مؤسسات جديدة لسلطة الدولة اُنيط بها ممارسة القمع والبطش ضد الشعب ولمصلحة الحكام وأنظمة دكتاتورية استبدادية شعارها القمع ومصادرة الحريات ، وبعض أنظمة الإقليم مثال واضح على هذه الأنظمة .
وأصبح للدولة مؤسساتها المختلفة من حيث تكوينها ووظائفها وآلية عملها كالجيش والشرطة وأجهزة الأمن المختلفة والقضاء والسجون وغير ذلك . ومع ذلك وبما أن الدولة كانت تمثل على الدوام أداة قسر وقمع ووسيلة لا بد منها لفرض النظام العام فقد استنتج بعض المفكرين الذين بحثوا في مشكلتي الدولة والحرية والديمقراطية ؛ ووضعوا الدولة والديمقراطية على طرفي نقيض . لكن الدولة تحولت مع الزمن إلى مؤسسة عملاقة متعددة المهام والوظائف وأبرزها القمع لكبت الحريات غير المشروع .
ففي عصر الجاهلية اتسم المجتمع العربي بوجود العلاقات العبودية إلى جانب العلاقات القبلية ؛ وكان المجتمع آنذاك ينقسم إلى سادة وعبيد وأحرار ؛ وكان الأحرار يمثّلون الطبقة الوسطى ؛ وعندما جاء الرسول الكريم بالدعوة الإسلامية كان أول من ناصره والتف حوله المضطهدون من العبيد والأحرار الذين آزروه ونصروه .
وفي المراحل الأولى من الإسلام ُوجدت الديمقراطية بشكلها الجنيني في فكرة الشورى ؛ وفي مرحلة الخلافة الراشدية كانت الديمقراطية تعني عدم الإنفراد بالرأي واتخاذ القرار بالتشاور مع الآخرين بصدد قضايا الحكم وادارة شؤون الرعية والبلاد.
إن مصطلح المساواة وسلطة الشعب موجود تراثيا منذ ظهور الإسلام على الأقل . أمّا لفظة الديمقراطية فلم تدخل لغتنا العربية الاّ من خلال الغرب في أواخر القرن التاسع عشر ؛ وكل منا يتذكر بأن مناخ ممارسة الديمقراطية قد نشأ زمن الخليفة عمر بن الخطاب فهو القائل ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ) وهو القائل ( إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوّموه بسيوفكم ) .
ولقد شكلت الرعية القاعدة الأساسية للثورة العباسية ضد الأمويين ؛ وثورة القرامطة والحركات الاجتماعية الاخرى ضد النظام العباسي .
ويعتبر ابن خلدون وفق نظريته التاريخية أن الممالك والدول تمر بنفس المراحل التي يمر بها الكائن الحي (( ولادة - طفولة - شباب - كهولة - موت )) ونظرية ابن خلدون تتسم بطابع تطوري وليست جدلية . لأن الظاهرة عنده تنتهي بالموت وليس النشوء من جديد .
وتبعاً لهذه النظرية فإن العصر العباسي يمثّل مرحلة الكهولة بالنسبة للدولة العربية التي اتسمت في نهاياتها بمظاهر الدعة والإسترخاء والترف . وترافق ذلك بانتشار مظاهر الفساد والظلم والإستعباد وقيام الحركات الاجتماعية والثورات الطبقية الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الدولة المركزية وتفككها وبالتالي انهيارها وليس موتها . لأن الأمة العربية ستولد من جديد بقوتها وفكرها القومي الواحد ؛ ذلك هو منطق التطوّر الجدلي التاريخي .
وفي العصور الحديثة تغيّرت الأوضاع الإجتماعية لا في الوطن العربي وحسب وإنما في جميع البلدان والقارات ؛ وبالرغم من أن أشكال الاضطهاد وكبت الحريات قد تغيّرت من عصر إلى عصر ومن مجتمع الى مجتمع الاّ أن جوهرها لم يتغيّر ؛ ومع ذلك نعترف بأن العالم الاوروبي بوجه خاص قد حقق خطوات واسعة منذ قيام الثورة الفرنسية وحتى الآن في مجال خلق تقاليد ومؤسسات ونظم ديمقراطية فاعلة بحيث أصبح للديمقراطية هناك جذور وتجربة غنية قابلة للتطور .
الاّ أن جذور الديمقراطية في الوطن العربي انقطعت منذ انهيار الدولة العربية ؛ وتحوّلت تلك اللمحات المضيئة والتوجهات والتطلعات لحل اشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم الى تراث نعتز به .
و الآن مهمة كل المفكرين والفاعلين في المجتمع والنشطاء في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني هي احياء ذلك التراث واغنائه بما نكتسب من التجربة المعاصرة للشعوب التي تمكنت من بناء تجاربها الديمقراطية الخاصة بها عبر الكفاح المرير. وجسدتها في نظم ودساتير واطر ومؤسسات ومجتمعات مدنية تتميّز بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية . وحتى عندما يحدث خرق أو تجاوز أو استغلال للقوانين من قبل الدولة أو الطبقات أو الأفراد فثمة توازن تخلقه المنظمات الاجتماعية والأحزاب والنقابات والصحافة والاعلام الحر ونشطاء حقوق الانسان من أجل استمرار النهج الديمقراطي ولكي يكون الرأي الحر حائلا دون استمرار أي خروقات على المجتمع.
ولا بُدّ لنا ونحن في هذا الحديث إلاّ أن نثمّن عالياً بعض محاولات إحياء مشروع النهضة القومية نحو الديمقراطية ، والجهود الإعلامية والسياسيّة الكبيرة التي يبذلها البعض ، حيث أنّ كل هذه الجهود تنصّب حول فضح الممارسات القمعية أمام المجتمع العربي والدولي بهدف تغييرها بشكل سلمي ونشر لواء الديمقراطية النزيهة في البلاد في ظل قيم العدل والسلام والحرية .
إن انطلاق السياسة من قواعد وطنية وديمقراطية وعودة الأحزاب والانتخابات ليست تمنيات ورؤى خيالية لمستقبل العمل السياسي والديمقراطية ؛ بل امكانية سهلة تحتاج الى تكاتف وإرادة والإتفاق على تحقيقها ؛ وبذلك تتحقق المصالحة الوطنية ويتحرر العمل السياسي من المنافقين والمتسلقين ومن رواسب القمع والقهر والفساد والشعارات الزائفة والمزايدات الوطنية ، وبكل تأكيد هذا ما يهدف إليه أي مواطن عربي حر .
إن المشروع العربي الديمقراطي لا يستورد من الخارج وهو ليس زياً نرتديه ؛ بل قوةٌ تنبع من أعماقنا ؛ وهو ليس هندسةً وراثية ، بل جملةُ مواقف نبيلة وتضحيات تتشكل في خضم حياتنا اليومية .