مع بداية 2023 يبـدو الوضـع العالمـي مقلقـا، ليـس فقـط بسـبب التوتـرات الناجمـة عـن األازمـة الروسـية األاوكرانيـة التـي بـدأت فـي فبرايـر ،وانعكاسـاتها الاقتصاديـة علـى شـعوب ألارض كافـة، والتـي كانـت تترنح أصلا , من جراء أزمة كوفيد 19, ولكـن أيضـا التوترات صبت في بؤرة استراتيجية متصاعدة تمس بنيان النظام الدولي ذاته ، مـا يعنـي أن الوضع المعقد الذي أربك العالم في 2022 قد يزداد تعقيدا هذا العام
ومـن خلال متابعـة المواقـف والتقديرات الرسـمية، فضلا عن تقارير الأكاديميين ومراكز البحث وتوجهات المعلقين اإلعالميين، نلاحظ أن خطوطا عريضة جديدة للأمـن القومـي الأمريكـي أخذت تتبلور بشـكل مطرد فـي إدارتي (أوباما وترامب ) ، ًثـم تبلورت بشـكل أكثـر وضوحا فـي إدارة بايدن ، وبالتالي فهـي تعبـر عـن رؤيـة المؤسسـة الحاكمـة، ولا تقتصـر علـى موقـف مؤقـت لادارة قـد لا تمتد آليتها أكثر من عامين قادمين. وفـي هـذا السياق نلاحظ أن استراتيجية الأمـن القومـي الأمريكيـة التي صدرت في أكتوبر ,2022 تُ ِّعبر عن إدراك للتحولات العميقة التي حدثت للنظام الدولي واإلقليمي، وتُِقـر بنهايـة نظـام مـا بعـد الحـرب البـاردة الـذي اتسـم باألحاديـة القطبيـة ، وتؤكـد أن ً ـا عالمي ً ـا جديـدا سيتشكل خلال السنوات القليلة القادمـة، وتضع تصورا لكيفية ً نظام ّ إدارة التحول وهندسة نظام دولي يحقق مصالحها في ظل التحديات المتنوعة، وذلك مـن خلال سياسـة احتـواء وحصار جديـدة للصين، واستنزاف ممنهج لروسـيا، و اعتبارهما مع اختلاف أشكال التعامل مع كل منهما كتلة اسـتراتيجية معادية، وتصوير هذا الصراع علـى أنـه اقليمـي ووجـودي مـا بين الأنظمة الديمقراطية وتلك السـلطوية. ً وتتضمن الرؤيـة الأمريكيـة الجديـدة بعدا ا قتصاديا اساسيا فهي تتصور شكلا جديـدا للعلاقـات الاقتصاديـة الدوليه , او شكلا جديدا للعولمه وهو ما اطلق عليه المحللون حركة العولمه العكسيه او المضادة
لكـن اسـتراتيجية المنافسـة مـع الصيـن لا تقتصـرعلـى تخفيـض الاعتمــاد عليهـا وتقليــص دورهــا المركــزي فــي سالســل الإنتــاج العالميــة فحســب، وإنما تتضمــن ْ فــرض حصــار متزايــد فــي إحكامــه عليهــا، خاصــة فــي المجــال االقتصادي ً والتكنولوجــي، ســواء بالحــد مــن اســتحواذ شــركاتها علــى مرافــق البنيــة التحتيــة االسـتراتيجية، كالموانـي فـي بلـدان مختلفـة، أو بمنْـع الـدول مـن اسـتخدام أنظمـة هـذه الشـركات فـي شـبكات اتصالاتهـا مـن الجيـل الخامـس وصولا ُ الى الحظر العملي لتصدير الشرائح الحديثــة للصيــن، والــذي أعلن في أكتوبر 2022 مما سـيكون لـه تأثيـر عميـق علـى قـدرات األخيـرة الصناعيـة والبحثيـة المتطـورة علـي تشـديد المراقبـة بطبيعة الحـال علـى نقـل التكنولوجيـا المـدى القريـب، فضـل ً إليهــا، ســواء بالوسائل المشروعة وغير المشروعة
:على الصعيد العسـكري *
تهتم الاستراتيجية الأمريكية بتقوية تحالفاتها العسـكرية، ًفضلاعـن قدراتها الذاتيـة؛ لتوزيـع عـبئء الدفـاع بقـدر المـكان . وقـد شـاهدنا أن فضـل العمليـة العسـكرية الروسـية فـي أوكرانيا أسهمت في تعزيز وحـدة حلـف شـمال األاطلسـي ( الناتـو) فـي أوروبـا، وقيـام الحلفـاء األوروبييـن بتحسـين قدراتهـم العسـكرية، وعلـى ألاخـص ألمانيـا مـع إلابقـاء علـى اعتمادهـم الاسـتراتيجي علـى ًالولايات المتحده فضلا عـن تحـول السـويد وفنلندا عـن مواقفهما الحيادية التقليديـة بطلب الانضمام للحلف
فقـد اهتمـت بإنشـاء وتنشيط سلسـلة مـن التجمعـات السياسـية والاقتصاديـة والعسـكرية فـي آسـيا: ( الكـواد ) بيـن الولايـات المتحـدة األامريكيـة، والمملكة المتحدة، والهند، واليابان( أوكوس ) بين الولايات المتحدة ألامريكية، و المملكـة المتحـدة، وأسـتراليا، والـذي قامـت األخيـرة فـي إطـاره بشـراء غواصـات نوويـة أمريكيـة، ولم تغفل النظرة المستقبلية الأمريكية المخاطر الجديدة العابرة للحدود، مثل آثار التغيـر المناخـي، وسـرعة انتشـار األوبئـة، علـى سـبيل المثـال ال الحصـر، وتفتـرض أن التعـاون الدولـي بشأنها مطلـوب وممكن رغـم توتر مناخ العلاقات الدولية بصفة ً عامـة، وهـو أمـر مشـكوك فـي فعاليتـه، ويعنـي عمليـا أن الواليـات المتحـدة انتهجـت ّ خيـار العـودة لصراعات القـوى التقليديـة، علـى حسـاب التعـاون الدولي فـي مواجهة المخاطـر الجديدة.
: علـى الصعيـد اإلاقليمـي
، يذهـب التوجـه األامريكـي إلـى اعتبـار كل مـن إيـران وكوريا الشماليه دولتين معاديتن تهـددان الاسـتقرار فـي إقليميهمـا، فـي حيـن تنظـر إلـى ً إفريقيـا بوصفها مسـرح ً ا للمنافسـة مـع النفوذ الصيني المتصاعـد، وموقعا لاحتواء النشـاط الإرهابي المتعاظـم فـي القا رة.
أمـا فـي الشـرق األوسـط -فبخلاف الاهتمـام باحتواء الـدور الإيراني- فـإن التركيز الأمريكـي ينصـب علـى تحقيـق مزيـد مـن الاندمـاج إلاسـرائيلي فـي المنطقـة، والحفـاظ علـى المصالـح األامريكيـة بقـدر أقـل مـن التكلفـة والتـورط العسـكري، مـع عـدم السـماح بفـراغ اسـتراتيجي تملـؤه روسـيا أوالصيـن أو إيـران، والعمـل علـى ً تهدئـة الازمـات واحتوائهـا بعيـدا عـن الخطـوات الجـادة لتحقيـق تسويات كبري
مصر واثار التطورات الأخيرة للنظام الدولي :
وقد عانت مصر -كما عانت الغالبية العظمى من البلدان- من آثار التطورات األخيرة ً التـي شـهدها النظـام الدولـي، ونظـرا إلـى أن الولايـات المتحـدة الأمريكيـة ستظل المحرك الرئيـسي لهـذا النظـام فـي المسـتقبل المنظـور، فإن إدارة مصـر للعلا قـات معهـا سـتمثل عنصـرا ً حاسـما فـي قدرتنا علـى التعامل مع تحولاته السـلبية، واللجوء عند الحاجة إلى مؤسساته المالية، والاستفادة من الفرص االقتصادية التي ُّ يتيحها أي تحـول، والتأثير علـى شـكله وهندسـته بمـا يخدم مصالحنا.
اولا : مـع أهميـة هـذه العلاقـات للمصالـح المصريـة فإنهـا لـم تعد كافية بسبب الانشغال الأمريكـي بالصـراع السياسـي الداخلـي، والـذي يـزداد حـدة مـع تعاظـم الاسـتقطاب ً األايديولوجـي فـي المجتمـع األامريكـي.
ثانيا : لانخفاض الاهتمام الأمريكي بالشرق الاوسـط بصفة عامـة لصالـح مناطق أخـرى مـن العالـم . وثالثا : ـ لتغيير شكل وطبيعة التهديدات التي يواجهها الأمن القومي المصري ومن ثم ، ليـس أمـام السياسة الخارجية المصرية خيار سـوى التمسك بتعميق اسـتقلالها الاسـتراتيجي بالحفاظ علـى علاقاتهـا مـع القـوى الدوليـة الفاعلـة وتعميقهـا، والسـعي فـي الوقـت ذاتـه إلـى تأكيـد نقـاط التلاقـي فـي المصالـح المصريـة وألامريكيـة علـى األاصعـدة الثنائيـة وإلاقليميـة والدوليـة، والبحـث عـن مجالات جديدة للتعاون المشترك. ومن الواضح ًان الثقل المصري دوليا وإقليميا يصـب بشـكل مباشـر فـي دعـم العلاقـات المصريـة الأمريكيـة.
مصر علـى الصعيـد الدولـي،:
مـن المهـم لمصـر الحفـاظ علـى فاعلية التنظيمـات الدولية ً وإلاقليميـة التـي تخـدم مصالحهـا فـي مواجهـة محـاولات تهميشـها، سـواء بشـكل ٍ مقصـود أو كنتيجة لعملية الاستقطاب الدولي المتزايـد، والتحـرك بشـكل متـواز لتشكيل تكتلات جديـدة مـن الـدول متشـابهة الفكـر فـي الموضوعات المختلفـ ة، ًاستغلالا لمـا بـدا فـي الفتـرة األخيـرة مـن توجـه واضـح لـدى دول الجنـوب لعـدم استغلال الانسياق فـي حـرب بـاردة جديـدة.
ومـن المهـم فـي هـذا السـياق أن يكـون لـدى مصـر القـدرة علـى تطويـر السياسات والمواقف بشـكل مسـتمر بمـا يتيـح لهـا التفاعـل مـع الموضوعـات الجديـدة علـى الصعيـد الدولـي، مثـل البيئـة و الطاقـة والصحـة والهجرة والتعليـم وحوكمة الإنترنت وشبكات التواصل االجتماعي، بما يخدم المصالح المصرية، ويعزز الدور المصري كفاعـل إيجابـي فـي النظـام الدولـي، وقـد لاحظنـا النجـاح الكبير الـذي حققته مصر فـي استضافتها لمؤتمر قمـة المنـاخ (كـوب 27 ) ُ الـذي عِقـد فـي شـرم الشـيخ، فـي نوفمبـر 2022 ، ِ ومـن المهـم التحـرك النشـط فـي هـذا المجـال خلال عـام 2023 ، والاسـتفادة مـن الفـرص الاقتصاديـة التـي تتيحهـا التقنيـات الصديقـة للبيئـة .
وبمتابعة التهديدات المتزايدة باللجوء للسلاح النووي في إطار الأزمة ألاوكرانية، تبرز أهمية تكثيف الـدور المصـري التقليـدي فـي مجال نزع السلاح النووي، سواء على المستوى متعدد الأطراف أو في إطار تيسـير( المفاوضات الامريكية الروسـية )علـى النحـو الـذي أوردتـه ـبعـض التقاريـر العالمية حـول احتمال استضافة مصر لجولة المفاوضات القادمـة بينهمـا ( والتفكير في مبادرات جديدة ) في هذا الشأن خاصـة مـع تزايد ً مخاوف العديد من الدول من احتمال استخدام أسلحة نووية بما يمثل خطرا حقيقيا على مستقبل البشري
وسيكون من ضمن مجالات التنسيق المصري الأمريكي خالل 2023 سبل الحفاظ علـى التهدئـة علـى الصعيـد الإسـرائيلي الفلسـطيني إثـر تسـلم حكومـة »نتنياهـو« اليمينيـة المتطرفـة السـلطة فـي إسـرائيل، والحـد مـن ألضـرار البالغـة التـي يمكـن أن تحدثها القضيـة الفلسـطينية والاستقرار في المنطقة ._ ورغـم اختلاف الـرؤى المصريـة والأمريكية بشأن الوضـع فـي ليبيـا، تشـترك الدولتان ـ فـي دعـم التسـوية السياسـية، والعمـل علـى تجنب تحول ليبيا الي ساحة لمواجهة أمريكيـة روسـية مباشرة
فـي الوقـت الـذي لا يمكـن فيـه أن نتوقـع أن يتطابـق الموقفـان المصـري والأمريكي بشأن أزمة سد النهضـة، التـي يجـب أن تعتمـد مصر فيها باألسـاس علـى قدراتها الذاتيـة، فـإن اسـتمرار النشـاط المصـري مـع الجانب الأمريكـي الرسـمي وعلـى صعيـد الجماعـات الأمريكيـة المهتمـة بالقضايـا اإلفريقيـة، مـن شـأنه أن يسـاعد مصـر فـي الحفـاظ علـى مصالحهـا المشـروعة
الموقف الأمريكي الإيجابي :_
ويمكـن ملاحظـة الموقـف الأمريكـي الإيجابي تجـاه الجهـود المصريـة للتحـول َّ إلـى مركـز إقليمـي للطاقـة ، وهـو الموقـف الـذي تعـزز مـع أزمـة الطاقـة العالميـة. إلا أن السـبب الرئيسـي للنجاح المصـري يعـود إلـى رؤيـة مصـر الاستراتيجية التي سبقت أزمـة الطاقـة بسـنوات، وللخطـوات المنهجيـة التـي اتخذتهـا مصـر فـي هـذا الشـأن قبـل نشـوبها، وهـي الرؤيـة التـي تستحق كل الاشادة وتذكرنا بـأن وجـود رؤيـة مماثلـة فـي مجـال الاستثمار وخطة ممنهجة لتطبيقها قد تلقى دعما أمريكيا وأوروبيا ايضا . مـن ثم فان المبادرات ّ التـي تبنَتهـا مصـر فـي مجال حقوق الإنسـان -استنادا إلى اعتبارات داخلية محضة - ووضعها موضع التطبيق بشـكل ممنهـج، مـن شـأنهما أن يزيل ً عنصرا منغصا للعلاقات بين الدواتين ، بـل قـد يفتحـان البـاب أمـام تطويرهـا بشـكل إيجابـي.
التعاون العسكري :
-وسيظل التعـاون العسـكري حجـر الزاويـة للعلاقـات المصريـة الامريكيـة، ومـن المهـم الحفاظ عليـه رغـم احتياج مصـر المؤكـد إلـى التعـاون مـع شـركاء آخريـن؛ وذلـك لضمـان متطلبـات أمنهـا القومـي مـن ناحيـة، والتوجـه الأمريكي المتزايد للربط بين برنامـج المسـاعدات العسـكرية وممارسات السياسـة الداخليـة المصريـة من ناحية أخـرى. سـيكون مـن الضـروري أن تتخـذ مصـر خطـوات محسوبة لتذكـرة الجانـب ألامريكـي بـأن المسـاعدات جـزء مـن صفقـة أكبـر تخدم مصالح الطرفين.
ومن هنا يمكننا القول بأن تفاعل الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة مع أهداف ومصالح القـوى الكبـرى الأخـرى( الصين وروسيا) يخلـق مناخ ّ لمصالـح الـدول النامية بصفة عامـة، والمصالح المصريـة بصفـة خاصـة، وذلـك فـي الوقـت الـذي يتعاظـم فيـه تأثيـر التحديـات الجديـدة، مثل: الاحتبـاس الحراري، وسـرعة انتشـار ألاوبئـة، والهجرات البشـرية الكبـرى. ومـن ثم لا يمكن استبعاد ان تتسـم عمليـة التحـول إلـى نظـام دولـي أكثـر استقرارا بسلسـلة من الأزمات العالمية ُالمتلاحقه وغير المتوقعة وهو ما يبرز أهميـة حــرص مصـر علـى دعـم العلاقات المصريه الامريكيه مع الاحتفاظ بعلاقات متوازنه مع القوي الدوليه الاخري ، وتنشـيط الـدور المصـري علـى الصعيدين إلاقليمي والدولـي، خاصـة زيـادة فعاليـات تجمعـات دول الجنـوب، وتوظيف أدوات القوى الناعمـة فـي زمـن تتعاظـم فيـه السـرديات والاعتبـارات المعنويـة فـي السياسـة الخارجيـة، وذلـك مـن أجـل اجتيـاز هـذه التحديـات التـي لا يستهان بها بل والاستفاده من الفرص التي توفرها مراحـل التحـول الكبـرى بالضرورة.