عمرو الزيات يكتب : بين يدي الديوان الثاني لمحمد ناجي

عمرو الزيات يكتب : بين يدي الديوان الثاني لمحمد ناجي
عمرو الزيات يكتب :  بين يدي الديوان الثاني لمحمد ناجي
 
ربما كانت (صلوات في عينيها) أيقونة الديوان وبها سمَّى شاعرنا هذا العمل؛ بيد أن صاحبه لم يفعل كما فعل بعض الشعراء فيتخذون من التسمية ما يدل على محتوى دواوينهم، صنع ذلك العقاد في (عابر سبيل) و(أعاصير مغرب)، ومحمود حسن إسماعيل في (أغاني الكوخ)، وإذا كان الشاعر قد اختار هذا العنوان – وله مطلق الحرية – فإن لهذا الاختيار تحديدا دافعه المحرك وهو ذلك الخط الشعوري الذي يربط بين القصائد والمقطوعات، ونعني بهذا الخط الشعوري أن الديوان يسيطر عليه إحساس واحد هو الإحساس بقيمة (الحبِّ)؛ " فالحب عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق. ولسنا نعني الصلة الجسدية التي نقضي بانقضاء دوافع الفطرة؛ فإن هذه لا تسمى حبا، ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة.
 ولكننا نعني الصلة النفسية التي تجمع الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة. وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة، وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوربا وأفريقيا، ثم يعودان من تلك الرحلة إلى حيث كانا"( ).
توزعت تلك العاطفة بين: حب المحبوبة، جاء ذلك في عشر قصائد: (سَلِي قلبي)، و(مِنْ وَحْي طَيْفِها)، و(غانِيةٌ وشاعرٌ) و(نام الحبيب)، و(صُنْ عَهْدي)، و(اسْمُ ليلىٰ)، وأيضا(وتَزدادُ بيننا المسَافاتُ)، و(صَلَواتٌ في عَيْنَيها)، و(مِنْ وَحْي عَيْنَيْها)، و(أيُّها النايُ)، وفي مقطوعة واحدة هي: (ما هذهِ بَشَرا).
والحب في ديوان ( صلوات في عينيها) ولدى شاعرنا كما أسلفنا هو تلك العاطفة الإنسانية الطاهرة المحبة للخير بكل صورة تقدِّس جميل العلاقات، يقول في قصيدة (صن عهدي):
يا مَنْ لا تَبْرَحُ أحْداقي اِرحَمْ حالًا للمُشتاقِ
أضْنَىٰ حُبِّي منِّي كَبِدي هلْ ذا دائي أمْ تِرياقي؟!
ولَظَاهُ تَبَدَّىٰ في سَقَمي والوَصْلُ دَوائي والسَّاقي
ومنها محبة التلميذ أستاذه وظهر ذلك الرثاء وهو – في رأينا - قمة الحب للراحلين والحزن عليهم، نرى ذلك في بكائه شيوخه كما في قصيدتي: (لمْ تُضْنِكَ التُّسعونَ) في الطاهر مكي، وفي وقصيدة (هل نالَكَ التَّعَبُ؟) أما مرثيته للإمام الحسين (مَرْثيَّةُ الإمامِ الحُسَين) فهي ذروة المحبة لعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هذا الحب – أيضا - حب الوطن كما في قصيدته (إنها مصر) والحب الذي يربط بينه وبينه أهله: الأم والجد، حتى الهجاء يظهر فيه الحب، وقد يظن ظانٌّ أن (الهجاء) لا يتفق مع ما ذهبنا إليه من أن الشعور المسيطر على الديوان كله هو تقدير قيمة الحب، ونزيد الأمر جلاء ووضوحا فنقول: أليس في هجاء الحاقد الذي امتلأ صدره بالقيح كرها للشر؟! وما كره الشر إلا تأكيد لعاطفة تقدير قيمة الحب؛ والضد – كما يُقال - يظهر حسنه الضدُ، يقول ناجي هاجيا:
ومَغِيظٍ بلَّعتُهُ الغيظَ غَصَّـــًا فاستنامَ الغَوِىُّ للتُرَّهاتِ
هُوَ منِّي في سُهْدِ ضَغْنٍ طويلٍ وأنا عنهُ ــــ سادِرًا ــــ في سُبَاتِ
أنتَ إسفنجةٌ ببَحري فلا تُر (م) وَىٰ ولا البحرُ غِيضَ مِنْ حَسَواتِ
دُمْ ضَغينًا فقَيْحُ صَدرِكَ بادٍ هاتِ يا غِرُّ تُرَّهاتِكَ هاتِ
 
إن شاعرنا في (صلواته) يريد أن يبعث رسالة للقراء، بل لكل إنسان على وجه الأرض مؤداها" الحب سبيل السعادة في تلك الحياة" هو يقدم المواثيق والعهود يتمنى أن يتمسك الناس جميعا بهذا الحب؛ فهو يخاطبهم في صورة محبوبه، يقول من قصيدة ( صن عهدي):
مِيثاقي مَرهُونٌ بِدَمِي ألَهَوْتَ تُرَىٰ عنْ مِيثاقي؟!
صُنْ عَهْدي لا تسألْ بَدَلًا إيَّاكَ وظُلْمَ الأشواقِ
ولعل باعث تلك العاطفة الجارفة في الديوان هو رقة شعور مبدعه وبعض صفاته التي يعرفها المقربون منه، ويشي بها إبداعه، كما كان للغربة عن الوطن والأهل أثر كبير في إزكاء هذا الشعور من حب وتقدير الخير والجمال واحترام الآخرين؛ فالشعور بالغربة سمة أصيلة في الأدب عموما، وفي هؤلاء الرومانسيين خصوصا منهم" والشعور بالغربة أثر طبيعي لانعزال الفرد عن مجتمعه وعلاقته الاجتماعية التي تعود عليها"( ).
وثمة تقنية درامية تستخدم في السينما تسمى القطع المتوازي؛ حيث يعمد (المخرج) إلى التداخل بين حدثين دراميين متوازيين يحدثان في الوقت نفسه، وتوحي بعلاقة بينهما، أو مفارقة من نوع ما، وربما تستخدم هذه التقنية لإظهار التناقض بين الفعلين، ويُعتمد في هذه التقنية على جذب انتباه المتلقي؛ حيث يشاهد – من خلالها – الفعلين في وقت واحد.
نجح الشاعر محمد ناجي في توظيف تلك التقنية في قصيدته (نام الحبيب) فأوحي إلينا بالقطع المتوازي في مطلع النص، وخصوصا الشطر الأول؛ فقد رسم صديقنا ناجي معالم المشهدين الدراميين المختلفين، الأول: حالة من الهدوء والسكينة ( حالة المحبوبة ) التي ملكت قلبه وعقله معا، وفي ذكاء شديد يشير لما تعيشه المحبوبة من الطمأنينة، وكيف لا وهي تعلم أن شاعرنا متيم بها ؟ قد استطاعت أسر فؤاده؛ فلا يستطيع من حبالها فكاكا، والثاني: حالة السهد والأرق وعذاب الحب ( حالة الشاعر)، إنها البراعة الفنية والموهبة الطاغية في بناء المشهد الدرامي.
وكان شاعرنا يمضي ليله - شأن كل العشاق - في أرق يكابد آلام الحب؛ وهو مشغول القلب بمحبوبته( أضناه) بُعدها، فيسأل مستنكرا (كيفَ الرُّقادُ بِشَوقٍ فيَّ مُضطرَمِ؟!) لكنه اعتاد ذلك من محبوبته، وكعادة العاشقين يشارك شاعرنا غيره ممن عذبهم الحب وأقض مضاجعهم، ولمَ لا وهو أكثر الناس إحساسا بهؤلاء المعذَبين؟
لا لستَ وحدَكَ إنِّي هاهُنا أَرِقٌ
والدمعُ ثالثُنا هيَّا لِنقتسِمِ
يبلغ الأرق قمته حين تتداخل تلك الأفكار، وتتصارع بعقله، فيوجه تلك الرسالة التي تحمل معاني التحدي والزجر (كف) لكل من يلومه في حبه، ثم يأتي التعليل للأمر ( كف عني ) فلا جدال في حقيقة الحقائق (فالهوىٰ قَدَرٌ): 
 يا لائمي كُفَّ عنِّي فالهوىٰ قَدَرٌ
لو كنتَ ذُقتَ الهوىٰ أَعذَرتَ لَمْ تَلُمِ
بعد المشهد السابق (القطع المتوازي) نحن - الآن - أمام الشاعر الذي يفدي محبوبته بكل غال؛ لترضى، وما أعظم رضاها نعمة! 
أَفديكِ يا حُلْوَتي إنْ تَرتضي وَصَبي
عَدَدتُ منكِ الرِّضا مِن آثَرِ النِّعَمِ
لكنه يعود فيسألها الرحمة به؛ فهو المحب الذي اختار الحب شرعته، وهو صادق كل الصدق في حبه إن أقسم أبر؛ لكن مازال اللائمون يلحُّون عليه محاولين إبعاده عن محبوبته، وهو عنهم معرض غير مكترث :
إنْ قِيلَ لي: تُبْ عنِ المحبوبِ قُلْتُ لهُمْ:
لا والذي خَلَقَ الإنسانَ من عَدَمِ
إن بناء الفعل ( قيل) للمجهول فيه دلالة على بُغض الشاعر للقائلين، كما يوحي بكثرة اللائمين واستهجان الشاعر ذكرهم؛ فليس لهم قلوب مثل قلبه العاشق الذي يتمنى الوصل، بينما هم يفرقون بين الأحبة، فما أقبح هؤلاء البشر! حيث يطلبون منه أن يتوب عن حبه، ويترك محبوبته؛ لكن هيهات كيف يتوب؟! ( لا والذي خَلَقَ الإنسانَ من عَدَمِ).
ومن آيات البراعة لدى شاعرنا – في تلك القصيدة - حسن اختيار البحر الشعري (البسيط) ذلك البحر الأثير لدى محمد ناجي، وهو البحر الذي يقوم إيقاعه على التجاوب الناتج من ترديد تفعيلتين( مستفعلن/ فاعلن) ذلك التجاوب جاء – عمدا - ليرشح ما ذكرناه من تقنية (القطع المتوازي) حالة المحبوبة، وحالة الشاعر، ثم تأتي قافية (الميم المكسورة) لتؤكد حزن الشاعر وأرقه، ومعلوم أن (الميم) من القوافي الموحية بالتعظيم والاستعصام... واختيارها مكسورة تحديدا برهان شاعرية محمد ناجي في إثبات معاني الحزن والأرق التي يعيشها.
أتقن الشاعر بناء قصيدته لغة، وموسيقى، وتقنيات فنية، وخيالا مبتكرا مميزا؛ فالخيال وليد عاطفة الشاعر، وكأنه قُدَّ لها قدًّا، ومن تلك الصور:
أعدَدتُ للسُّهْدِ منِّي مَدمَعًا سَجِمًا
قِرًى لهُ وطَعامُ السُّهدِ من سَقَمي
فعاشقنا الأرق يقري السهد من دموعه شرابا، وسقم بدنه طعاما، تآلفت المكونات السابقة، فكوّنت جميعا لوحة فنية فريدة تفرد صاحبها.
إن نصوص الديوان التي بين يدي حضرات السادة القراء تشهد بعبقرية ناجي، وهي برهان على موهبته الطاغية؛ فتسمع أيها القارئ – من خلال كلماته – نبض قلبه الذي يفيض بالحب ولعل ذلك يعود لطبيعة ناجي المحبة للناس كما نعرفها، وهو عائد أيضا لمداومة القراءة وامتلاء النفس بالشعر؛ فشاعرنا عاشق لفن العربية الأول قراءة وإبداعا، والأدلة على ذلك كثيرة في ثنايا الديوان.