حسني حنا يكتب : التترابوليس السوري.. أنطاكية وأخواتها الثلاث " عندما نكون في سوريا نجدنا نمتزج مع التاريخ، فكل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد"

حسني حنا يكتب : التترابوليس السوري.. أنطاكية وأخواتها الثلاث " عندما نكون في سوريا نجدنا نمتزج مع التاريخ، فكل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد"
حسني حنا يكتب : التترابوليس السوري.. أنطاكية وأخواتها الثلاث " عندما نكون في سوريا نجدنا نمتزج مع التاريخ، فكل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد"
 
*Georgio Buccellati
 
التترابوليس السوري Syrian Tetrapolis هو حلف لأربع مدن في سوريا الهللينية، أقامه الملك سلوقس الأول نيكاتور (358- 281 ق.م) بعد انتصاره على خصومه في معركة إبسوس Ipsus (301 ق.م) وحصوله على سوريا، حيث جعل من هذا الحلف مركزاً لامبراطوريته التي أسسها، وكانت واحدة من أعظم الامبراطوريات في العالم، كان مركزها سوريا وعاصمتها مدينة أنطاكية.
واستجلب سلوقس المستوطنين من اليونان ليقيموا في هذه المدن، التي أعيد بناؤها في زمنه، وتحولت من مواقع صغيرة إلى مدن هامة في تاريخ المنطقة وهي:
 
1/أنطاكية على العاصي Antioch ad Orentem
أنطاكية هي عاصمة سوريا التاريخية والثقافية. وهي تقع في شمال غرب البلاد في لواء اسكندرون السوري السليب.
بناها الملك سلوقس الأول أحد قواد الغسكندر المكدوني نحو عام (300 ق.م) على اسم والده أنطيوخس Antiochus تخليداً لذكراه. وقد ازدهرت هذه المدينة في العصر الهلنستي ازدهاراً عظيماً، حتى جاوز عدد سكانها (500) ألف. مما جعلها ثالث أكبر وأهم مدينة في العالم. بعد روما والاسكندرية. كما كانت إحدى أرقى مدن العالم.
وتعتبر أنطاكية مهد الديانة المسيحية خارج فلسطين، حيث أن أهلها، كانوا أول من أعتنق المسيحية من غير اليهود. وقد ظلت أنطاكية عاصمة لسوريا طوال العصر الهلنستي والعصر الروماني والعصر البيزنطي أي نحو (900 عام) حتى دخول العرب إليها في عام (637م).
شيدت أنطاكية على أرض فسيحة، على الضفة اليسرى لنهر العاصي Orontes قرب مصبه فى البحر المتوسط، على بعد نحو (15) ميلاً من البحر، حسب نمط المدن اليونانية. وقد أحيطت بسور حصين، وشيدت فيها المعابد، وزينت بالتماثيل الرائعة. والى جانبها من جهة الجنوب موقع (دفنه Daphne) وهو من أجمل المنتزهات في العالم، وحديقة مسرات تكثر فيها الأشجار ومنها أشجار الغار والسرو إضافة الى وجود الينابيع والشلالات الجميلة.
ولمدينة أنطاكية أهمية كبرى لدى المسيحيين في الشرق فهي إحدى الكراسي الرسولية. وفيها بشر القديسان بطرس وبولس، ودعي أتباع المسيح (مسيحيين) لأول مرة (أعمال الرسل 11: 26) كما كانت منطلقاً رئيسياً في الرحلات التبشيرية، التي قام بها القديسان بولس وبرنابا بين عامي (47- 55م) كما قدمت أنطاكية العديد من الشهداء المسيحيين الأوائل.
ولكنيسة أنطاكية امتياز وتفوق، لأنها تأسست من قبل الرسولين بطرس وبولس، وكان القديس بطرس أول بطاركتها.
وعرفت كنيسة أنطاكية بأنها (كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى). ولاتزال كنيسة القديس بطرس الأولى قائمة في سفح جبل سلبيوس Selbius المطل على مدينة أنطاكية من جهتها الشرقية.
وفي القرنين الخامس والسادس للميلاد، تعرضت المدينة للزلازل المدمرة، ولغزوات الفرس قبل سقوطها بيد العرب في عام (637م) بعد أن نالت نصيبها من الدمار، تم فرض الجزية على أهلها.
ووقعت أنطاكية بيد الأتراك السلاجقة في أواخر القرن الحادي عشر، ثم حكمها الفرنج بين عامي (1099- 1268م) ثم استولى عليها المماليك الى أن وقعت تحت الحكم العثماني عام (1516) حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ثم أستولت عليها تركيا وضمتها إليها في عام (1939).
لم يبق في أنطاكية حالياً، بعد الكوارث التي ألمت بها، إلا القليل، الذي يشهد على عظمتها في العصور السالفة. وقد أطلق عليها المؤرخون اسم (ملكة الشرق) و (حمامة الشرق الرائعة). ومازال سورها الضخم ولوحات الفسيفساء Mosuic الرائعة والمعروضة في متحف المدينة، تشهد على عظمتها، وهي تحف فنية غنية، تقدم لنا ملامح عن الحياة اليومية لسكان أنطاكية.
 
2/ سلوقية بيريا Seleucia Pieria
تقع هذه المدينة إلى الشمال الشرقي من مصب نهر العاصي في البحر المتوسط، وقد كانت مرفأ للعاصمة السورية أنطاكية.
وهي تعرف اليوم باسم (السويدية) وبالتركية Shaman Dag أي (جبل التبن) وهي تبعد عن مدينة أنطاكية غرباً بنحو (15) ميلاً. وكانت سلوقية القديمة على منحدر جبل كوسيفيوس وهو جبل موسى اليوم، وقد أسسها الملك سلوقس الأول نحو عام (280 ق.م) وأطلق عليها اسمه. وكانت تعرف باسم (سلوقية بيريا) تمييزاً لها عن باقي المدن التي تحمل نفس الأسم، في بلاد النهرين وكيليكيا المجاورة. ويبدو أن اسم (بيريا Pieria) كان اسماً لميناء فينيقية. لكن لايوجد دليل ثابت على ذلك.
ويقدم المؤرخ بوليبيوس Polibius وصفاً بيلغاً للصراع والحرب التي دارت بين السلوقيين في سوريا، والبطالمة في مصر، حول الاستيلاء على هذه المدينة الهامة ومينائها.
وبعد دخول الرومان الى سوريا عام (64 ق.م) دخل السلام إلى المنطقة التي مزقتها الصراعات والحروب. وبدأت سلوقية عهداً جديداً من الإزدهار والنشاط البحري الذي كان عظيماً. وقد احتفظت سلوقية بوضعها كمدينة حرة في عهد الامبراطور الروماني فاسباسيان (70م) وكانت طوال القرن الاول للميلاد، قاعدة للأسطول الروماني في سوريا، ومدينة ذات جمال رائع وتنظيم.
وفي سلوقية اجتمعت بعض مجامع الكنيسة الأولى. ومنها كان ينطلق القديسان بولس وبرنابا في أعمالهما التبشيرية بحراً (أعمال 13: 4) ولابد أن الرسولين عادا الى سوريا من نفس الطريق (أعمال 14: 26) كما أبحر بولس مع سيلا من سلوقية (أعمال 151: 40 – 41).
وكان لمرفأ سلوقية رصيفان احدهما بأسم القديس بولس، والآخر باسم القديس برنابا. وقد غطاهما الطمي الآن، ويتحدث عن هذين الرصيفين، وبقاياهما من الحجارة، عالم الاثار الفرنسي (أرنست رينان A.Renan) في كتابه (بعثة فينيقيا) كما رآهما في عام (1860).
وقد كشفت أعمال التنقيب الأثري عن الكثير من آثار هذه المدينة وسورها ومسرحها وغير ذلك..
 
3/ اللاذقية على البحر Laodicea ad mare
بنى الملك سلوقس الأول مدينة اللاذقية، على أنقاض مدينة كنعانية كانت تسمى (راميتا) كانت تتبع مملكة أوغاريت Ougarit. وذلك على اسم أمه Lao dicea. وقد سميت باسم (اللاذقية على البحر) تمييزاً لها عن سبع مدن آخرى بناها سلوقس تحمل اسم اللاذقية، في سوريا وبلاد النهرين والأناضول.
وكانت من أشهرها مدينة اللاذقية في مقاطعة فريجيا في بلاد الأناضول على نهر ليكوس إلى الشمال الغربي من مدينة قونية اليوم. وهي مذكورة في الإنجيل في رسالة بولس إلى أهل كولوسي (4: 16).
وقد ازدهرت لاذقية البحر ازدهاراً كبيراً في عهد الملوك السلوقيين. منذ بنائها في حوالي عام (290 ق.م) وذلك على نمط المدن اليونانية. من حيث الشوارع المستقيمة والمتوازية والمتصالبة بزوايا قائمة، وقد تحدث عن ازدهارها المؤرخ البيزنطي (إستيفانوس).
وعندما سادت الفوضى في مملكة السلوقيين في القرن الأول قبل الميلاد. دخل الرومان إلى سوريا عام (64 ق.م) واصبحت جزءاً من امبراطوريتهم وفي عهد الامبراطور الروماني يوليوس قيصر، حصل أهل اللاذقية على حقوق المواطنة الرومانية.
وعندما انقسمت الامبراطورية الرومانية (395م) إلى غربية عاصمتها روما، وشرقية عاصمتها (بيزنطية) أو (القسطنطينية) وقد عرفت باسم الامبراطورية البيزنطية، ظلت اللاذقية جزءاً من هذه الامبراطورية حتى دخول العرب إليها في عامه (637م).
دخلت المسيحية الى اللاذقية في فجر تاريخها، على يد المبشرين الأوائل، ويقال أن القديسين بطرس وبوليس، قد مرا بها وهما في الطريق الى أنطاكية. كما يقال أن (لوقيوس اللاذقي) كان أول أسقف عليها. في القرن الأول للميلاد. وفي العصر الروماني كانت اللاذقية تصدر أجود أنواع النبيذ الى الاسكندرية، كما أشتهرت بوجود عازفات الناي السوريات.
وقد اشتهر في اللاذقية عدد من الفلاسفة، كان فيهم الفيلسوف فيلونياس اللاذقي (200 – 120ق.م).
وكانت الحروب بين الفرس والبيزنطيين قد أنهكت الطرفين، مما ساعد العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية على احتلال سوريا، ودخول اللاذقية عام (637م) بقيادة عبادة بن الصامت. لكن تاريخها بقي غامضاً منذ ذلك الحين، حتى عام (863م).
وفي زمن الفرنج (1099- 1192) كانت تتبع إمارة أنطاكية. ثم آلت الى حكم المماليك والأتراك العثمانيين الى نهاية الحرب العالمية الأولى.
تعرضت اللاذقية خلال تاريخها لكثير من الزلازل المدمرة، وعاشت حروب الآخرين على أرضها، فتراجعت أهميتها كثيراً، ولم يبق من سورها وقلعتها ومسرحها شيء يذكر. ماعدا بضعة أعمدة من بقايا معبد باخوس وأعمدة غرانيتية وتماثيل رخامية وقوس مربع بني فى عهد الامبراطور سبتيموس سايروس عام (194ق.م) وبضعة كنائس أما (دير الفاروس) الذي كان أعظم دير في بلاد الشام ومصر فلم يعد له أثر.
 
 
4/ مدينة أفاميا Apamea
تقع مدينة أفاميا إلى الشمال الغربي من مدينة حماه. وهي تعد من أهم المواقع الأثرية في سوريا. ويقع الى شمالها جبل الزاوية، بينما تشرف غرباً على سهل الغاب الخصيب، الذي يجري فيه نهر العاصي.
ولأفاميا تاريخ طويل حيث ذكرت باسم (نيا) في الألف الثالثة قبل الميلاد في النصوص الأكادية والحثية والمصرية القديمة. وقد أعاد الملك سلوقس تأسيس هذه المدينة، بعد انتصاره في معركة إبسوس (301 ق.م) تحت اسم (أفاميا) على اسم زوجته الفارسية. وأصبحت زمن سلوقس مدينة قوية بأسوراها وجيشها مع وجود نحو (500) فيل مع جيشه. وقد بلغ عدد سكانها نحواً من نصف مليون نسمة.
سقطت أفاميا بيد الرومان عام (64 ق.م) وزادت في هذا العصر اهميتها السياسة والعسكرية. وقد تم جلب الماء إليها من السلمية بقناة محفورة في الصخر بطول نحو (120) كيلو متر، وقد أحاطها الرومان بسور بلغ طوله نحو سبعة كيلومترات.
ويخترق أفاميا من الشمال إلى الجنوب شارع عظيم مستقيم بطول (1850) مترا. وعلى جانبيه رواقان محمولان على أعمدة ضخمة، تمتاز بتنوعها. وجميعها تعلوها تيجان كورنثية، تحمل أفاريز ذوات زخارف رائعة الجمال.
تعرضت أفاميا لسبع هزات أرضية بين عامي (447 – 599م) دمرت أجزاء واسعة منها، إضافة الى ما دمره البشر. وفي العهد البيزنطي زاد ازدهارها، حتى صارت عاصمة سوريا الثانية بعد أنطاكية. وكانت تضم أعداداً كبيرة من المباني، أشهرها الكاتدرائية ومعظمها كان ذو أرضيات مصنوعة من الفسيفساء (Mosaic) غاية في الأبداع الفني.
عمد الفرس الى تدمير هذه المدينة بسبب سلسلة من الغزوات المتلاحقة، خاصة غزوات الملك كسرى عام (573م) التي تم فيها سلب ونهب هذه المدينة، وإشعال النار فيها. لكن سرعان ما كانت تبنى وتنهض من جديد ،وقد كان أهلها لشدة غناهم يشربون الخمور الممزوجة بالعسل!..
ويدخل العرب المسلمون أفاميا صلحاً في عام (538م) لكنها عادت إلى سيطرة البيزنطيين عام (975م) حتى عام (993م).
ودخلها الفرنج عام (1106م) حتى عام (1149م) وفي القرن (12م) تعرضت لسلسلة أخرى من الزلازل التي أحدثت فيها خراباً كبيراً. وأفقدتها الكثير من أهميتها.
كانت مدينة أفاميا ملتقى طرق الشرق، حطت في أرجائها شخصيات تاريخية عظيمة منها (كليوباترا) التي كانت في رحلة الى نهر الفرات لتصحب مارك أنطونيوس في أعماله الحربية (37م) وسبتيموس سفيروس في عام (179م) وكان قائداً للفرقة الرومانية الرابعة في سوريا. والامبراطور (كاراكلا) في عام (215م) وكان عائداً من مصر. كما اشتهر من أبنائها عدد من الفلاسفة والمؤرخين.