الأدبُ في عمومه ليس ملهاةً وتسلية؛ بل إنه خلاصةُ تجارِبِ مبدعِه، وعصارةُ فكرِه وأحاسيسه، ولو تخيلنا أنه ضربٌ من اللهو والتسلية، فإننا بذلك نُفقدِه قيمتَه وجمالَه؛ بل وتَجاهلْنا رسالةَ الأديب وهي من أسمىٰ الرسالات التي يُعنىٰ بها البشرُ وعرفَتها البشريةُ كلُّها، فلن تجدَ أدبًا صادقًا، إنما كلُّ ما تجده هو أدبُ القشورِ لا جوهرَ له ولا جدوىٰ منه، وكما يقول العقاد: " واعتبارُ الأدبِ ملهاةً وتسليةً هو علةُ ما يطرأ على الكتابةِ والشعرِ من التزويقِ والبهرجِ الكاذبِ والولعِ بالمحسِّناتِ اللفظيةِ والمغالطاتِ الوهمية؛ لأن المرءَ يُجيز لنفسه التزويقَ والتمويهَ ومداعبةَ الوقت حين يتلهَّىٰ بشغلِ البطالة، ويُزجي الفراغَ في ما لا خطرَ له عنده، ولكنه لا يُجيز لنفسه ذلك، ولا يميلُ إليه بطبعه حين يجِدُّ الجِد ويأخذُ في شئون الحياة، بل لعله ينفرُ ممن يعرِض عليه هذه الهَنَّات في تلك الساعة، ويزدريه ويخامره الشكُّ في عقله."
فإن الأدبَ والحياةَ نسيجٌ واحد " ما الحياة وما الأدب؟! شيئان كِلا نسيجهما من مادةٍ واحدة، فالحياةُ هي شعورٌ تتملَّاه في نفسك، وتتأملُ آثارَه في الكون وفي نفوسِ غيرك، والأدبُ هو ذلك الشعورُ ممثلًا في القالَب الذي يلائمه من الكلام، وما احتاج الناسُ من قبلُ إلىٰ مَن يثبت لهم أن الأدبَ لا يكون بغير حياة؛ ولكنهم يحسَبون أنهم بحاجةٍ إلىٰ مَن يثبت لهم أن الحاجةَ لا تكون بغير أدب، مع أن الأمرين بمنزلةٍ واحدةٍ من الحقيقة، فإنه لكلِّ حياةٍ أدب، ولكل أدب حياة، والمقياس الذي يُقاس به كلاهما واحدٌ لا يختلف في دلائله، وإن كان يختلف في وسائله."
بين يدَي حضرات القراء مجموعةٌ قصصيةٌ للأديب المغربي إدريس الزياتي المقيم في ألمانيا، رجلٌ – شأنه في ذلك شأن جميع المهجريين – عركته الحياة؛ بيد أنها لم تغلبه، عانىٰ مرارةَ الاغتراب عن وطنه؛ غير أن الغربةَ زادت موهبتَه توقدًا، وفجَّرت ينابيعَ الإبداع الشجي، وصدَق نزارٌ حين يتحدث عن ذلك الصراع والشقاء الذي يعيشه المبدعون:
هل يُولدُ الشّعراءُ من رحِمِ الشقاءْ؟
وهلِ القصيدةُ طعنةٌ
في القلبِ ليس لها شفاءْ؟
أم أنّني وحدي الذي
عَيناهُ تختصرانِ تاريخَ البكاءْ؟
وإذا كان الأدبُ قد نُسِجَ من مادة الحياة، أو أن كليهما من مادةٍ واحدةٍ لا يمكن الفصلُ بينهما، فإن الأدبَ الصادقَ هو ما كان ترجمةً لصورةِ الحياةِ بكل ما تحمله من فرَحٍ وترَح، من خيرٍ وشر، من ظلمةٍ ونور إلى آخر تلك الثنائيات التي تعجُّ بها الحياة، ولا يمكننا تصوُّرُ الحياةِ تمضي على حالٍ واحدة، وليس من منطقها – الحياة – أن نرىٰ شخصًا عاش طيلةَ حياته في شقاءٍ لا ينقطع، أو أن شخصًا آخَرَ عاش يرفُل في نعيمٍ دائم؛ ولعل ذلك المزجَ في طبيعتها هو سرُّ جمالها، وسببُ تعلُّقِنا بها.
ويعتبر أدبُ الزياتي عمومًا - وفي تلك المجموعة خصوصًا - ترجمةً صادقةً لما يعانيه أدباءُ عصرِنا من الشعور بالاغتراب؛ فالأدباءُ يشعرون أنهم غرباءُ بين أهليهم وذويهم، يملؤهم ذلك الشعور؛ فهم يتمثلون العالَمَ والكونَ من حولهم بطريقةٍ مختلفةٍ عن طرائق البشر، لهم قلوبٌ كقلوب الطير – أو هكذا يجب أن تكون – شعورهم جِدُّ مختلفٍ عن شعورِ البشر، ولعل هذا ما يَعنيه الشابي في قوله:
إنِّي أنــــــا الرُّوحُ الَّذي ســيــظَـلُّ فـي الدُّنـيـا غَـريـبْ
تجسد مجموعةُ الزياتي القصصيةُ ذلك الشعور، والغربةُ هنا ليست غربةً معنويةً فقط ، إنما هي غربةٌ جسديةٌ ومعنوية؛ فالرجل أديبٌ ذو حسٍّ مرهف، وهو عربي يعيش في ألمانيا، هاجَرَ حاملًا بين جوانحه عاداتِ وتقاليدَ بلادِه العربية، يحتضنُ تلك العاداتِ ويصونُها في مجتمعه الجديد، ذلك المجتمعُ الذي يتمتع بحرِّياتٍ وعاداتٍ تعدُّ غريبةً عليه، لذلك يظل محتضنًا طباعَه العربيةَ قابضًا عليها مخافةَ أن يضلَّ طريقَه بدونها، إن كلَّ ما حوله يُشعِره بإحساسِ الغربةِ عن وطنه، وهو كطائرٍ مهاجرٍ يحِنُّ إلى موطنه حيث دفءِ مشاعرِ الأهلِ والوطن.
ولعلَّ اختيارَ صاحبِنا لعناوين قصصِه يعدُّ صرخةً مكتومةً يترددُ صداها داخله، فأراد أن نشاركَه هذا الإحساسَ الذي يعاني ويلاتِه وحيدًا، يبدو ذلك الاختيارُ الذي تعمَّده صاحبُنا تعمُّدًا في مثل: (دموعٌ من الماضي، بحرُ الدموع، الموتُ الأبيض، خلفَ الصقيع، قلقُ البدايات، ... ) وصاحبُنا يجيد تجسيدَ تلك المشاعرِ الحزينةِ التي ما انفكَّت تلازمه، يبدو ذلك جليًا في قصته المعنونة بــ ( الموتُ الأبيض): " اكتستِ الأرضُ حُلَّةً بيضاءَ، الأشجارُ استعارت ثوبًا قطنيًا، فقد برَّرتْ صنيعَها بالمللِ الذي انتابها خلالَ مرحلةِ العَراءِ الذي لازَمَها لأشهر، تحاولُ تغييرَ مظهرِها الباهتِ بآخَر قاسي الملامح يشدُّ الأنظار، أطفال. هناك في المناطق الجبلية البعيدة، ترىٰ على وجوهِهم فرحةً، يحبون البياضَ فلا قُطنَ صارت تنتجُ بلداتُهم، ولا حليبًا تدُرُّه بقراتُهم، للحرب سطوةٌ لم يعرفوا مثلها.
يرَون على الشاشات كيف يستمتعُ أترابُهم وراءَ البحرِ بهذا القادم اللطيف، يستعِدُّون لاستقباله بتلك الملابسِ المبهجةِ التي تلُفُّهم من مقدمةِ رأسِهم حتى أخمُصِ أقدامهم، لا تدَع للبرد فجوةً يتسرب منها، مرحَّب. به كلَّ سنةٍ محتفى به، فهو فرصةٌ للألعاب الشتوية، كما تقامُ له مواسمُ للتزلُّج والرقصِ على موسيقىٰ تنسابُ انسيابَ الأجساد الممشوقة على شفراتٍ من حديد، بينما هم يستقبلونه بأجسادِهم العارية كما استقبلوا من قبله الرَّصاص، حافيةً أقدامُهم، جياعًا لا سفق يمنحهم الأمان."
حتى الأطفالُ رمزُ الطهرِ والنقاء يشعرون – كصاحبِنا – بالغربة فلم تعد أرضُهم كما كانت موطنًا للقطن، وجفَّت ضُروعُ أبقارِهم فلا حليبَ لديها، ولعل اختفاءَ القطنِ بلونه الأبيض، والحليبِ بلونه الأبيض أيضًا قد قصده الكاتبُ قصدًا؛ فهو إشارةٌ إلى اختفاءِ النورِ وحلولِ الظلامِ الذي يعانيه الأطفالُ في تلك البلاد.
يتفاعل صاحبُنا مع حالِ الأطفال فهم يشبهونه تمامًا في المُعاناة، كما أنهم يشاركونه الحُلمَ في تبدُّل الأرضِ والأحوال، ويتمنَّون – جميعًا – أن تعودَ الحياةُ لسيرتِها الأولىٰ تعجُّ بالخيرِ والنورِ والسلام.
في خضمِّ تلك الأحاسيسِ القاتمةِ يتراءى لصديقِنا النورُ من بعيدٍ حين (وأشرقت الشمس)،
" تشرقُ الشمسُ في كاملِ حجابها، تمشي على استحياءٍ لا تكاد ترفع عينَها الواسعةَ عن الأرض من شدةِ حيائها من ربِّها أن تنظرَ إلى ما حرَّمَ عليها فالفوضىٰ في بلاد الحرية عارمة، قد قُدِّرَ لها الحياةُ في هذه اللجَّة الحارقة، لكنها تسعىٰ جهدها للحفاظ على نقائها مستعينةً بربها، تداري خجلَها بتركيزها على الغروب الذي يشكِّل لوحةً سرمديةً تستوجب التمجيدَ والتكبيرَ يأخذها ذلك السحرُ والجمالُ إلى عوالمَ أخرىٰ من الدهشةِ والحلم."
يجيد صاحبُنا استعمالَ الرمزِ الذي يعتبر حجرًا أساسيًا في بناء القصة القصيرة، فيجعلُ من الشمسِ رمزًا له؛ فهو يرقب الأرضَ الجديدة وما تتمتع به من حرياتٍ لم يألفْها في بيئته العربية، فهو كالشمس تمامًا (لكنها تسعىٰ جهدها للحفاظ على نقائها مستعينةً بربِّها، تداري خجلَها بتركيزها على الغروبِ الذي يشكِّل لوحةً سرمديةً تستوجبُ التمجيدَ والتكبيرَ يأخذها ذلك السحرُ والجمالُ إلى عوالمَ أخرىٰ من الدهشة والحلم)
وما زال صديقُنا يبحث عن حُلمه، يطارده إن تبدَّىٰ له، لكن كله يقينٌ أنه سيظفر به يومًا لعله يكون قريبًا، حينها تشرق الشمسُ ناشرةً الخيرَ والدفءَ على أرضِه، فتعودُ كما كانت، وغدًا تزهر حقولُ القطن، وتدِرُّ البقراتُ حليبًا يسعدُ الأطفال، غدًا يعُمُّ السلام الذي يحلم به صاحبُنا ويراه قريبا.
وأخيرًا فإن مجموعةَ صديقِنا تحمل بُعدًا إنسانيًا عظيمًا، ورسالةً تتسامىٰ فوق المادِّيِّ إلىٰ عوالمِ الرُّوحِ والقداسة؛ حيث إعلاء قيمِ الجمالِ والخيرِ والرقي، وهي رسالةٌ تجلّ التفكيرَ الإنساني، وتعظّم من القِيَم الروحيةِ في مواجهةِ الحرياتِ والمادياتِ المزعومة.
أما عن تقنياتِ السرد والقصة القصيرة فقد أجادَ صاحبُنا توظيفَها، وتشي المجموعةُ بتمكُّنِ كاتبِها من هذا الفن. يستعمل صاحبُنا لغةً بليغةً، وإن تسرَّبت إليها بعضُ الكلماتِ التي تعد محليةً أو لهجةً خاصة؛ بيد أنها جاءت ملائمةً في مواضعِها، وكأنها قُدَّت للمعاني، ولا تعدِمُ – أيها القارئُ الكريم – طرافةَ الخيالِ، واستخدامَ الصورِ المبتكَرة.
أردنا بهذه المقدمة أن نضعَ القارئَ الكريمَ على بدايةِ الطريق إلىٰ عالَمِ إدريس الزياتي الإبداعي، وبعدُ: أيها القارئ دونَك المجموعةَ القصصية، وأنا زعيمٌ أنك ستجد فيها ما تبحث عنه من جمالٍ ومتعةٍ فنية.