محنة أبجد هوز في مصر
من الغريب والعجيب والمدهش أن تجد كل المعطيات المسخرة للتعليم في مصر على مستوى عال من الكفاءة والقدرة والوفرة ومع ذلك فنتائج العملية التعليمية دائما محبطة ولا تلبي الطموحات المنعقدة عليها .
فنظرة بسيطة على عشرات الكتب التعليمية القديمة على الأرصفة والتي كتبها عمالقة الكتابة والأدب حتما ستبهرك عزيزي القارىء ولو كنت من عشاق اقتنائها مثلي فستتحول لديك إلى عادة فدائما ما أجد نفسي مستمتعا بشرائها من باعة الكتب القديمة حتى مع أصعب فترات حياتي (فقد والدتي الأجازة الماضية) ومنتشيا وأنا أذكر بعض عناوينها وأزين برحيقها مقالاتي وتتملكني الغبطة أحيانا من أني لم أعش في عهد الأسرة العلوية في مصر لأنهل منها فمثلا كتاب (الدروس التاريخية للمدارس الثانوية مقرر السنة الأولى 1912) تأليف "محمد عبد الرحيم خريج جامعتي نوتنجهام ومنشستر بانجلتره ومدرس بالمدرسة السعيدية وعبد الرحمن فخري خريج جامعة منشستر بانجلتره ومدرس بالمدرسة السعيدية"وكتاب( الأخلاق النظرية أو الأخلاق الفلسفية) تأليف الدكتور محمد غلاب "خريج جامعة ليون بفرنسا واستاذ الأخلاق بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية1933 " وكتاب (أصول الفلسفتين العلمية والأخلاقية لواضعه رينيه ورمس أستاذ في الفلسفة وليسانسيه في العلوم ودكتور في الحقوق ومن خريجي مدرسة المعلمين العليا بفرنسا) " تعريب البكباشي حافظ صدقي ياور جلالة الملك 1924".
انظر يا سيدي القارىء إلى عظمة مؤهلات أصحاب هذا الكتب وغيرهم ومدى علو معارفهم وثقافتهم وانظر أيضا إلى مراعاة كل ما يحيط ببيئة الطالب وتدريبه على استغلالها فنجد كتاب (دروس في الأشغال اليدوية لتلاميذ المدارس الابتدائية) تأليف أستاذ عباس عزت مدرس مساعد بمدرسة المعلمين العليا 1925 والمجلة المدرسية (السمير الصغير) 1926 ودرس الأمانة رأس الأخلاق والتعفف عن أخذ ما ليس لنا..وحتى كتب إعداد المعلم كان لها نصيب فمثلا كتاب (هداية المدرس للنظام المدرسي وطرق التدريس) بطريقة موجزة تأليف على عمر بك مساعد مراقب التعليم الأول 1924.
كذلك اجتهادات المعلمين كانت إلى حد ما بارزة وملهمة وإن جاءت كمبادرات فردية من أصحابها فيروي لنا (عباس خضر) في كتابه (خطى مشيناها) عن مدرس التاريخ أستاذ حمدي والمقرر هو تاريخ أوروبا وقبل بدء العام الدراسي سافر الأستاذ حمدي إلى فرنسا ليبحث عن آثار نابليون ووثائقه وصوره ثم عاد ليشرح لهم درس نابليون بونابرت ومعاركه وأثر حملته في نهضة مصر الحديثة عارضا الصور "بالفانوس السحري" حتى خيل للطلبة أنهم يعيشون مع نابليون ورجاله وحبيبته "جوزفين"
بالطبع تعليم قوي كهذا لابد وأن يكون خلاق ومفيد للأطفال علاوة على ما يغرسه الأهل في أبنائهم من قيم فنجد دعوات الوقوف إلى جانب الأطفال الفقراء بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى تجد آذان صاغية لدى مجموعة من الأطفال أكبرهم تسع سنوات قرروا تحمل المسؤولية وحمل عبء كهذا فشيدوا جمعية "المساعي الخيرية للأطفال" وبحسب الخبر بمجلة اللطائف المصورة في 28 فبراير 1921 تشكلت الجمعية بالفيوم من خمسة أطفال أقباط هم: منير نجيب الرئيس وأنور نجيب عريان السكرتير (نجل نجيب بك عريان الرئيس الأسبق للجمعية حتى 1936 وحفيد عريان بك أسعد أول رئيس للجمعية عام 1880بحسب صفحة الجمعية القبطية الأرثوذكسية بالفيوم) وكامل نصيف محروس أمين الصندوق وصبحي ميخائيل عبود وسليم بطرس عبود عضوين وكان الإشتراك في الجمعية بقرشين صاغ وخلف كتيبة الأطفال النبهاء كانت أمهاتهم تعاونهم في طبخ اللحوم وتفصيل الأقمشة وتوفير الصابون والأمشاط للأطفال الفقراء .
ومن ثمرات هذه الدعوات أيضا والشىء بالشىء يذكر إقامة سوق خيرية في طنطا لمساعدة اليتامى الذين فقدوا والديهم بالحرب برئاسة "مدام بونزون ومدموزال ديفرانس" بحسب اللطائف المصورة في 29 يناير 1917.
للأسف وعلى الرغم من فخامة كل هذه المشاهد الفردية من المعلمين والأطفال والمتطوعين إلا أن أغلب آراء المختصين والمفكرين في مصر في العهد الملكي كانت غير راضية عن مستوى الخريجين من المدارس ومن المستويات التعليمية المختلفة فمثلا الاستاذ فكري أباظة يحمل في صفحته (معرض الدنيا) بمجلة الدنيا المصورة في 26يونيو 1929 مشكلة التعليم إلى انتشار الدروس الخصوصية وأنها بمثابة رشوة مستورة وأن النجاح الصحيح المبني على العلم والتحصيل لا على اقتناص المدرسين ومنحهم مرتبات الدروس الخصوصية لاجتياز الامتحان والسلام!! .
ومن 1929 وما قبلها وما بعدها ظلت مشكلة التعليم بلا حلول جذرية فنجد مثلا وزير المعارف (سامي مازن بك) يصرح لصحيفة المصري في 20 يوليو 1952 قائلا: "آسف لأن مستوى التعليم دون ما نأمله" وأن "ذلك المستوى لن يؤدي إلى تحقيق الآمال التي نعلقها عليه" وأنه سيعمل على الاستعانة بقدامى رجال التعليم "لما كسبوه من خبرة ونضوج ومالهم من مرآن طويل" راجيا في نهاية حديثه "عودة شرف وظيفة المدرس القديم" ...هل أوفى الوزير بوعوده؟!! للأسف لا ..ذلك أنه وبعد مضي يومين من التصريح استقالت وزارة حسين سري باشا الخامسة ومن بينها سامي مازن بك وبعدها شكلت وزارة برئاسة أحمد نجيب الهلالي وفيها محمد رفعت باشا وزيرا للمعارف لتقوم ثورة 1952 بعد ذلك ..
أين المشكلة ؟!
المشكلة أنك قد تمتلك الموارد البشرية والخبرات العلمية والاستعدادات والمهارات الفردية والجماعية لكن كل هذا مصيره الاهدار مع غياب الخطة العملية المتكاملة طويلة المدى التي تحقق الاستفادة والرؤى المستدامة وإهمال القياسات والتقييمات وعدم استقرار الوزارات وكل وزارة تأتي بخطة حزبية مختلفة قد يكون التعليم على أولوياتها وقد لا يكون !! مما أربك التعليم وأضاع قيمة الجهود الفردية التي تبذل سدى ..لذلك فأنا ما زلت عند رأيي أن أعظم تجارب الاستثمار في التعليم وفي الموارد البشرية كان في عهد الملك فؤاد ومن بعده الرئيس جمال عبد الناصر وقد ناقشت ذلك في كتابي (مرآة التاريخ) و(صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر).
نعود مرة أخرى إلى العملية التعليمية ولكن مع اقتراب أكثر من خصائص الطالب المصري ومقوماته في العهود المنصرمة ولكن هذه المرة من محيط الجامعة وتحديدا كلية الطب ..
يقول (آرثر سيسيل ألبورت) في كتابه (ساعة عدل واحدة ..الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية 1937-1943) وكأنه يحكي عن واقع الطلاب حاليا أن الطلبة المصريون "يعتبرون الامتحانات كأنها هي بداية ونهاية العالم "ويعلل ذلك بأن الكثير منهم في "فقر مدقع" وبعضهم يجد "صعوبة بالغة في تدبير مصروفات الامتحانات" ثم يضع يديه على علة العلل وهي أن الشق النظري يأخذ من وقت الطالب أكثر من اهتمامه بالتحصيل العملي فيقول "أقسى المتاعب التي تواجه طالب الطب المصري في الامتحانات هي عادة حبس نفسه في منزله ساهرا الليالي المتوالية يقرأ ويعيد ويزيد بدلا من أن يركز جهده وانتباهه لما يحدث أمام عينيه في الأقسام الخارجية"
لا ينكر آرثر أن إجابات الطلبة المصريين أفضل كثيرا من نظرائهم في إنجلترا وجنوب أفريقيا بشهادة الممتحنين من الدولتين وأن الطالب المصري يمتاز عن الأوروبي بذاكرة ممتازة ويدلل على ذلك بقدرة المصري على الحفظ "شفاهة وعن ظهر قلب" لكنه يرى أن الموهبة تتوقف عند الحفظ دون الاستخدام العملي لها وتطوير المعلومات والبناء عليها فيقول "يبدو أن مركز الذاكرة في ذهن الطالب المصري قد نما على حساب قدرته على تحكيم المنطق وكيفية الاستخدام العملي للمعلومة التي استظهرها في ذاكرته العجيبة" ويضرب مثالا على ذلك بأنه حينما يسأل الطالب فنظره يتجه صوب السقف ثم يعيد السؤال وبعدها يسرد ما اشتملت عليه "صفحة كاملة من مرجع طبي طبعت كلماتها في تلافيف ذاكرته من التكرار المستمر " لكن شتان بين النظري والعملي فالطالب في امتحان الطب الاكلينيكي "يعتمد على نفسه وعلى قدرته في الملاحظة والإدراك ".
ولكن ماذا ترتب على ذلك في تقييم آرثر ؟! يرى آرثر أن هذا الأمر من الصعوبات التي تواجه الأستاذ فعلى الأستاذ أن يسقي الطلاب العلم بالملعقة ليحصلوا على القدر الأكبر من المعلومات بأقل قدر من الجهد .
يتحدث آرثر عن نقطة ستبهج الطالبات جدا وهي أن "الطالبة المصرية تبدي اهتماما أكبر بدراسة وتقصي الحالات" أكثر من الطلبة الذي ينتظرون في أماكنهم "متوقعين أن يحضر إليهم المدرس ليسقيهم العلم"
كم أنت قاسيا يا عزيزي آرثر معنا معشر الرجال!!
يحكي آرثر قصة طريفة أنه ألف كتيب يشرح فيه أسلوب تدوين الحالات المرضية والتاريخ المرضي وأنواع التحاليل المعملية الروتينية خاصة الاختبارات الخاصة بالمناطق الحارة لأنه لاحظ قصور لدى الطلبة المصريين في هذه المسألة وطلب أن يكون الكتاب بالمجان مراعاة لحالة الطلبة لكن الجامعة فرضت رسوما خمسة قروش نظير شراء الكتاب وأن آرثر نفسه دفعها حينما أراد نسخة من الكتاب قبل مغادرته مصر للاحتفاظ بها !!!
يشير آرثر أيضا إلى الداء المصري العضال وهو الوساطة (الكوسة المصرية) في النجاح والرسوب فيتحدث عن تدخل الممتحنين المصريين لدى الأجانب لتعديل النتائج ويذكر واقعة "رسوب طالب في امتحان الجراحة العامة في مادة التوليد" وثورة أستاذ أمراض النساء والولادة بالكلية وإصراره على إنجاح الطالب مهددا بالاستقالة ليتضح بعد ذلك أن الطالب ابن أخ الأستاذ!!!!
ومن الطب إلى الآداب حيث "المحسوبية التي لا حد لها " بحسب وصف حسين أحمد أمين للدكتور طه حسين وأن هذه المحسوبية كانت سر الشقاق بين طه حسين ووالده أحمد أمين على الرغم من أن الأخير استفاد من محسوبيات طه حسين في سفر ابنه محمد في بعثة دراسية إلى إنجلترا وفي تعيين زوج ابنته عبد العزيز عتيق بالمعهد الثقافي المصري في لندن !!!
كما يستنكر آرثر قيام رئيس الجامعة بالظهور في إعلان "صابون فاروق" مشاركا آخرين "من علية القوم من أساتذة الطب وبعض الوزراء"
سبحان الله نفس ما استنكرته على أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابي (صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر) حينما روج للسجائر ولم يستوعب البعض مقصدي!! ...
ليسمح لي القارىء مع سيرة صابون النابلسي فاروق أن نطرق معه مرض النفاق المصري ..كان للنابلسي فاروق إعلانا طريفا تحت عنوان "دنيا مليئة بالرياء وتحته رسم لرجلين يتصافحان يقول أحدهما للآخر "يا راجل انت فين ؟أنا والله في غاية الشوق" وتحت الرسم "ولكن نابلسي فاروق هو الصديق الذي لا يتغير " لكن للأسف نابلسي فاروق تغير هو الآخر فمع ثورة 1952 خرج إعلان الصابون وقد شطب على اسم فاروق قائلا" في الساعة السادسة مساء يوم 26 يوليو شطب اسم فاروق من تاريخ مصر إلى الأبد بعد أن أيقن الشعب والجيش الباسل بأن فاروق قد تغير فأصبح حربا على كيان مصر وخطرا على مستقبلها ولذلك نحوه عن ملك مصر ومحوا اسمه من كل مكان ونابلسي شاهين الذي كان قد قرن اسمه باسم فاروق يسعده اقتداء بالجيش وبدافع من وطنيته أن يقذف باسم فاروق وأن يحمل اسمه من اليوم نابلسي شاهين "صدق من قال "الناس على دين ملوكهم"!!
ربما يدفعك الفضول عزيزي القارىء إلى التعرف على الأنماط الشخصية للأساتذة الجامعيين في هذه الأزمنة الماضية وهنا يقربنا آرثر من هذه المعرفة ويرسم لنا صورا تفصيلية عن قرب لبعض الأساتذة الذين صادفهم بكلية الطب ومنها:
-استاذ الباثولوجي "المصري" والذي يعتبر مهمة الأستاذ مهمة مقدسة" كان أفضل انجازاته اكتشاف دواء لعلاج السرطان عبر حقن قليل من بول الإنسان تحت جلد المصاب وهو إنجاز استحق أن يبشر به الملك فؤاد!!!
- استاذ الطب الباطني "الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا " "الطبيب البارع" و"الحجة في تفسير القرآن" والمهتم بتنمية ثروته من عيادته الخاصة والمضاربة في البورصة وهو ما يدر عليه عائدا كبيرا "في يوم واحد" يفوق ما يحصل عليه من الحكومة "في سنة كاملة "كان لا يهتم بالتدريس ويكره موسم الامتحانات وفي إحدى المرات غادر اللجنة ليكشف على أحد المرضى في عيادته الخاصة ..وفي هذا الموضوع يتحدث آرثر عن إحدى العادات المصرية الطريفة وهي ذبح الثيران في الجنازة ففي جنازة الملك فؤاد ذبح ستة ووزعت على الفقراء وفي جنازة الدكتور عبد العزيز ذبح ثور ولطخ الكفن بالدم!!
-الدكتور "عزمي سليمان" "الجنتلمان" ذو الأصول التركية والذي حضر بحثا قيما عن إدارة المستشفيات مستفيدا من التجارب الإنجليزية والفرنسية والألمانية فرفضه رئيس الجامعة!!!
-الأستاذ المتزوج "من بنت أخت مناضل عربي معروف" ورئيسه المباشر الدكتور نجيب محفوظ والوحيد المنعم عليه بالباشوية من الملك فاروق بمناسبة افتتاح مستشفى فؤاد الأول كان لا يحضر للمستشفى ولا العيادة الخارجية ولا لإلقاء دروسه سوى مرة واحدة كل عدة شهور على الرغم من تلقيه راتبه كاملا!!!
كما يرصد آرثر عزوف المصريين عن التعيين في وظيفة معيدين لتدريس العلوم الطبية البحتة كالفسيولوجي لأنها ليست مجزية لهم .
اهتمام طلاب الطب بمصر بالناحية المادية رصدته مجلة الدكتور 1948 حيث تصدر إحدى اغلفتها رسم كاريكاتري لدرس الجراحة يقول الأستاذ فيه : "فيه حد عايز يسأل سؤال في العملية دي" فيرد طالب " العملية اللي زي دي ناخد فيها كام ؟!"
ولو عدنا إلى الوراء مع كتاب محمد عمر "حاضر المصريون أو سر تأخرهم 1902" نجد أنه لا يوجد طبيب يطيب فقيرا بغير أجرة " إلا حالة واحدة يرصدها وهو "الدكتور دري باشا" الذي كان مستوصفه مجاني للفقراء المنهوكين بالأمراض والعاهات " ولما توفاه الله انقطع الخير عن الفقراء .نموذج أشبه في عصرنا بالدكتور محمد عبد الغفار مشالي طبيب الغلابة رحمه الله قضى عمره يعالج الفقراء بالمجان فهل من سائر على هذه الخطى وثوابه على الله ..طبيب يعالج المرضى بالمجان أو بسعر رمزي وصيدلي يتنازل عن هامش ربحه في الدواء ويعطيه للمرضى مجانا أو بهامش ربح بسيط ؟!! ربما يأتي هذا الزمان الذي يرونه بعيدا ونراه بقلوبنا قريبا ..