حسني حنا يكتب : الجبل الأقرع ... فى الجغرافيا والتاريخ

حسني حنا يكتب : الجبل الأقرع ... فى الجغرافيا والتاريخ
حسني حنا يكتب : الجبل الأقرع ... فى الجغرافيا والتاريخ
 
 
" ان تاريخ سوريا، هو تاريخ التمدٌن على هذا الكوكب " 
*Pierre Rossi
 
 
 
الجبل الأقرع جبل مهيب ، يقع الى الشمال من مدينة اللاذقية. وأقصى جنوب لواء اسكندرون . وقد كان ضمن الأراضي السورية حتى عام (1939) وهو الاّن ضمن الأراضي التركية. وهو يطل مباشرة على البحر المتوسط،بإرتفاع (1736) متراً عن سطح البحر.
ويتميز هذا الجبل بأن قمته جرداء من الأشجار، فى منطقة معروفة بكثافة غاباتها و أشجارها ، و ذلك بسبب وجود الصخور الكلسية، التى لا تحتفظ بالمياه ، وتمنع نمو الأشجار و الغابات ، وهو يبعد عن مدينة اللاذقية نحواً من (50) كيلومتر.
 
 
الجبل الأقرع فى الجغرافيا 
يمتد الجبل الأقرع من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي ، وهو يبرز بوضوح عما حوله. وتنحدر سفوحه بشدة ، خاصة نحو الغرب باتجاه البحر، حيث ينتهى إلى رأس البسيط. كما ينحدر شمالاً ، باتجاه وادي نهر العاصي الأدنى ، وتقوم في شرقه هضبة القصير.وتبدأ من هذا الجبل بعض روافد النهر الكبير الشمالي. 
وتمر بالجبل الأقرع الحدود الحالية بين لواء اسكندرون السوري المحتل ومحافظة اللاذقية. وتغطي أشجار الصنوبر سفوحه الدنيا، حيث الصخور الخضراء اللون (السربنتين) وتنبثق عند أقدامه ينابيع مياه غزيرة منها نهر (البدروسية).
وتتكون غابات هذا الجبل من أشجار السنديان والبطم، والغار والسرو والخرنوب وأهم الحيوانات المشاهدة فيه هي الثعلب والخنزير البري ،وأنواع عديدة من الطيور.
وتضرب العواصف قمة هذا الجبل في فصل الشتاء، كما تتكلل بالغيوم،وتتساقط عليها الثلوج.
 وقد أصابت الزلازل التي ضربت الساحل السوري الجبل الأقرع. وأحدثت دماراً كبيراً في أنطاكية واللاذقية وقد تسبب زلزال عام (859م) في تصدع الجبل. وسقوط صخرة هائلة منه في البحر، وهي تبعد عن الشاطئ نحواً من مائة متر، وتعرف اليوم باسم (جزيرة الحمام).
 
 
اسم الجبل عبر العصور
منذ أقدم العصور، سيطر الطابع الديني على أجواء هذا الجبل، حيث ساد الاعتقاد فى تلك الأزمان، أن الأماكن المرتفعة، هي أماكن مقدسة، حيث كانت تعبد الآلهة. وقد جاء ذكر ذلك في كتاب العهد القديم.
وعلى مر الأزمنة حمل هذ الجبل أسماء عديدة ، منها اسم (خازي) وهو اسم متداول في النصوص الحثية. أما الاسم الآخر فهو (صفن) ويقصد به الشمال وتوجد إلى جانب هذا الأسم أسماء آخرى متشابهة مثل (صفون) و (صافون) ويكثر تداول اسم (بعل صفن) في النصوص الأوغاريتية، والجبل هنا هو المكان المقدس، الذي يوجد فيه إله المطر والعاصفة (بعل) ومعنى اسمه (السيد) أو (الملك)
 
 
الجبل الأقرع في نصوص أوغاريت
يعتبر اكتشاف مدينة أوغاريت Ugarit على الساحل السوري في عام (1929) من أهم الاكتشافات الأثرية في سوريا والعالم. وقد كشفت البعثة الأثرية الفرنسية،التي نقبت في الموقع باشراف عالم الاثار الفرنسي (كلود شيفر C.Scheiffer) عن حضارة رائعة. قدمت للبشرية أول أبجدية عرفها العالم.وأدت الى اكتشاف آلاف النصوص الأدبية والدينية، المكتوبة على الواح فخارية تمت ترجمتها. إضافة الى نصوص آخرى بثمانى لغات مختلفة.
وفي هذه الألواح المكتشفة إشارات عديدة الى هذا الجبل. تعود الى القرنين (14 و 13 ق.م) وقد بينت أيضاً أن هذا الجبل كان يقوم بدور بالغ الأهمية في حياة سكان أوغاريت ومملكتها.. إنه المكان المقدس الذي يقيم فيه الاله (بعل) ومن بين القصائد المكتشفة روايات عن رغبة (بعل) في بناء قصر يليق به، على قمة جبل (صفن) بالخشب من أقطار عديدة، وبسبائك الذهب والفضة. وتصور لنا تلك القصائد الاحتفالات الدينية التي كانت تقوم عند قمة الجبل، وتترافق بتقديم الخمور وانشاد الأناشيد. وفي نصوص لأحد شعراء اوغاريت يقول:
"في قلب جبل المقدس
في جبل ميراثي
في المواطن الجميلة
وفي هضاب النصر"... 
كما نرى فى تلك النصوص الاله (بعل) فى معارك ضارية مع التنين (وحش البحر) على الشطآن الممتدة عند أسفل الجبل .
ومن بين المكتشفات فى أوغاريت ، شاهدة حجرية وجدت بين أنقاض معبد بعل، تتحدث عن مجد (جبل صفن) مكتوبة بالهيروغليفية المصرية. وتصادفنا في التوراة نصوص تشبه كثيراً نصوص اوغاريت ومنها ما ورد فى سفر اشعيا (14-13) :
سوف انصب عرشي... 
سوف اجعل مقامي فوق جبل الموعد... 
عند أطراف الشمال ...
و(الموعد) هنا - وفق التصور الكنعانى،هو الموضع الذى تجتمع فيه الاّلهة للبت في امور البشر.
ونضيف أخيراً ،أن حوليات الملوك الاّشوريين ، تتحدث عن بلاد (بعل صفن) الواقعة على ضفاف لنهر العاصي Orontes . وكذلك على اّوراق البردي المصرية.
 
 
الجبل فى العهدين الهنلستي و الروماني 
عُرف الجبل فى هذين العهدين بإسم (جبل كاسيوسCasius ) ويذكر المؤرخ البيزنطى السوري الأصل (ملالاس Malalas) الذى عاش فى القرن السادس للميلاد. أن (سلوقوس الأول نيكاتور) مؤسس السلالة السلوقية وبعد انتصاره على (أنتيغونوس) فى معركة إيسوس (Epsus) سنة (301ق.م) أسس مدينة سلوقية بيريا في شهر نيسان من عام (300م).
وينقل لنا (Apien)وهو مؤرخ يوناني، أسطورة مفادها أن الرعد هو الذي حدد المكان الذي يجب أن تنهض فيه المدينة. أما (ملالاس Malalas) فيروي أسطورة ثانية ورد فيها أن سلوقوس صعد الى قمة جبل كاسيوس، ليقدم ذبيحة للاله زيوس Zeus سائلاً إياه، تحديد الموضوع الذي يجب أن يرفع فيه المدينة الجديدة. وبينما كان يحتفل بالشعائر الدينية، اقترب نسر من المذبح. واختطف قطعة من اللحم المقدم، وحلق عالياً ثم نزل على مقربة من مصب نهر العاصي Orantes في البحر. فرأى سلوقس أن في ذلك إشارة من الآلهة. وكان أن بنيت المدينة في ذلك الموضع.
وعلى قمة جبل كاسيوس , قدم الامبراطور الرومانى (هادريان) تضحية للاله سنة (129م) وكذلك فعل الإمبراطور الروماني (جوليان) سنة (363م) وأن كليهما كان يرغب في رؤية شروق الشمس من أعلى الجبل.
 ويذكر الكاتب الذى نقل هذا الخبر , أن الامبراطور صعد إلى الجبل ليلاً , ليتمكن من رؤية بزوغ الشمس من القمة.
لقد كانت تلك التقدمات تتم في فصل الربيع، ويقابلها ممارسة أوغاريتية قديمة، تذكر (التقدمة لصفن) التي كانت تقام في فصل الربيع أيضاً.
و يُعٌد الاله (زيوس كاسيوس) إله المطر والريح والعاصفة أقرب إله هلنستي –رومانى إلى الاله بعل الأوغاريتي. 
وقد حمل أهل مدينة سلوقية لمدة طويلة , ذكرى أساطير هذا الجبل . وسكوا نقوداّ تحمل رسم الصاعقة , ونقوداً على اسم (زيوس كاسيوس).
ويخبرنا (سترابون Strabo) وهو جغرافي يوناني عاش بين عامي (63ق.م/23م) ان أهل مدينة انطاكية ، كانوا يقيمون احتفالات فوق قمة جبل كاسيوس ، تمجيداّ لذكرى سلوقوس الأول باني مدينتهم.
 
 
 
 في العهد البيزنطي 
في هذا العهد ارتبط تاريخ الجبل الأقرع ارتباطاً كبيراً .بشخصية القديس (برلام Saint Berlam  ) وهو راهب عاش في القرن الرابع الميلادي. ولد وعاش في احدى قرى منحدرات جبل كاسيوس . وقد لبس ثياب الرهبنة، وعاش معتكفاً فى احد كهوف الجبل . وذاعت شهرته فى انطاكية واللاذ قية وما حولهما . وقد تشكلت حوله جماعة من الرهبان مما دفعه الى تشيد دير كبير وكان يصنع المعجزات.
وعلى المنحدر الشمالى الشرقى من الجبل وتم العثور على بقايا كنيسة بيزنطية، على ارتفاع (1250) مترا. يبدو انها كانت تابعة لدير القديس برلام . وتلك الاطلال نبه اليها الاب ( لامانس Lammens) عام (1804)  كما باشر بتحريها العالم Schaeffer  عام (1937) . وهذه الكنيسة على شكل مستطيل بطول (24) مترا وعرض (16) مترا. وفيها أحجار جميلة النحت وتيجان أعمدة رائعة. كما توجد كنائس بيزنطية عند السفح الغربي للجبل. وفي أعلى موضع من بلدة كسب توجد بقايا حصن تعود الى العصور الوسطى. وعند أسفل السفح الشرقي للجبل توجد بقايا مدينة رومانية وحجارة عديدة تحمل أشارة الصليب.
 
الجبل في عهد الفرنج
فى نهاية القرن الحادى عشر وصل الفرنج الى سوريا وقد أطلقوا على هذا الجبل اسم ( جبل القديس بارلييه ) وهذا الاسم يعود الى القديس ( برلام ). ويرى الاب (ميرسريان Mecerian ) ان الدير كان موجوداً فى عهد الفرنج . وان بعض الارمن كانو من بين رهبانه. 
 
 
الأرمن في الجبل الأقرع
على منحدرات هذا الجبل، وفى جواره المباشر يعيش شعب أرمنى خالص. من الصعب تحديد تاريخ تمركزه فى هذا الموضع. والأرمن هم أبناء شعب شجاع، وشديد التعلق بتاريخه وتراثه. وقد قاوم ببطولة العديد من المحن، ومن بينها مجازر الارمن على يد الأتراك العثمانيين، فى اواخر القرن التاسع عشر وفى عامي (1909)و(1915). لاقى خلالها العديد من سكان الجبل حتفهم. كما ان بلدة كسب والعديد من البلدات والقرى المجاورة ، نهبت وأحرقت عدة مرات.
 
 
بلدة كسب
تعتبربلدة كسب وضواحيها من القرى على سفوح هذا الجبل، والأودية القريبة منه. في نظر العديد من الارمن فى جميع انحاء العالم بمثابة (ارمينيا الصغرى) وتراهم غالباً ما يأتون من أماكن بعيدة نحو هذا الجبل، للاشتراك فى احتفالات (القديس برلام) وليمضوا فيها عدة ايام، وللتعرف على اجواء السحر الهادىء فى مصيف كسب.
وقد جاء اسم (كسب) من (Casa Bella) ومعناه البلدة الجميلة. وتقع كسب على السفح الجنوبي الغربي للجبل الأقرع في منطقة غنية بالأشجار والغابات، والمناظر الطبيعية الرائعة وترتفع مدينة كسب نحواً من (800) متر عن سطح البحر المجاور.
وكانت كسب مدينة مزدهرة زمن الحكم السلوقي بين أنطاكية وسلوقية واللاذقية. كما أزدهرت في عهد حكم الأمبراطور الأرمني ديكران الثاني الكبير (83 – 69 ق.م) الذي ضمت امبراطوريته شمال سوريا، وصولاً الى حدود فلسطين.
 
 
فى عهد الانتداب الفرنسى 
بدأ انتداب فرنسا على سوريا عام (1920) وفي هذا العهد القصير الامد الذى انتهى فى عام (1946 ) اصبح هذا الجبل وما جاوره جزءا من منطقة اسكندرون الادارية.وعندما الحقت هذه المنطقة بتركيا عام (1939) تقرر ان تحتفظ سوريا بالمناطق التى يسكنها الارمن. وصارت قمة الجبل وسفحه الشمالي ضمن الأراضي التركية، بينما ظلت سفوحه الشرقية والجنوبية والغربية ضمن الأراضي السورية.
الجبل الاقرع اليوم مهجور ماعدا بعض سفوحه. بينما كانت الاعياد تجرى فوقه على وقع الأناشيد ، ومازال الصليب يرتفع فى العديد من جوانبه ، وسحر الذكريات باق لا يزول.