في جو قائظ جرجر قدميه على طبقة الأسفلت المتآكلة. ضج الشارع بالمارة، و مرقت السيارات غير آبهة بأحد، و أسرفت في إطلاق عوادمها، مكونة سحبا سوداء، غشي دخانها وجهه المربد؛ فشعر بالاختناق و الغثيان، و ما إن لمح مقهى بلديا، يناسب ما في جيبه من جنيهات معدودات، حتى تقدم نحوه بفارغ الصبر، و ألقى بجسده المنهك فوق كرسي من كراسي الخيزران، و راح يلتقط أنفاسه اللاهثة، ثم أخرج علبة مناديل ورقية، و شرع يجفف عرقه، و يمسح الأتربة، التي تراكمت على وجهه. و لما كانت أعمار الأبنية تقاس بما طبعته الأيام على جدرانها، وشى إليه الطلاء الباهت المشرب بالصفرة بقدم هذا المبنى، الأمر الذي دعمه مظهر النادل المسن، الذي دنا منه، و سأله بصوت واهن عن المشروب، الذي يرغب في احتسائه. سار النادل بخطوات بطيئة، بدت ملائمة لعمره؛ فتبادر إلى ذهنه سؤال عما أخرج هذا العجوز إلى العمل في مثل هذا العمر، لكنه سرعان ما اهتدى إلى جواب كلاسيكي عن سؤاله الغبي.
(٢)
كان الجو مشحونا بما فيه الكفاية؛ فقد اندفعت أغاني المهرجانات من جهاز (الكاسيت)، المثبت فوق أحد الأرفف. كانت الأغاني صاخبة، تخترق الجدران، و تصرخ في وجوه الجالسين، و تشيع في المكان ضجيجا، و توترا، بينما تعالت قرقرة الشيش، و اندفع الدخان من الأفواه و الأنوف، و سرعان ما ارتد إلى الوجوه؛ فتوارت خلفه ملامح ذابت في العبوس.
عاد يحدق إلى الجدران بعينيه الواهنتين؛ فشرد سريعا، و تلاحقت الصور والخواطر ككرات اللهب. تذكر يوم خروجه من نجعه إلى رحاب تلك المدينة البعيدة؛ كي يلتحق بالجامعة، مرت أربع سنوات بشق الأنفس، تجرع أبوه خلالها المر كؤوسا؛ كي يوفر له مصروفات الإقامة و الدراسة؛ إذ كان أبوه لا يملك زرعا أو ضرعا، يعمل باليومية، يدور كالعصفور؛ ليكسب رزقه؛ فمرة يعمل مساعدا لمبيض محارة، و مرة ثانية يحفر بئرا، و مرة ثالثة يحفر قبرا، و مرة رابعة يهدم حائطا، و مرة خامسة يناول البناءين الطوب، و في أحيان كثيرة تضيق الحلقات، و لا يجد عملا؛ فيميته ضيق العيش تارات، و يحييه الرجاء و انتظار الفرج تارات أخرى.
(٣)
تذكر يوم تخرجه. يومها فضل البقاء و عدم العودة؛ إذ كان يحلم بجمع مبلغ، يمكنه من الصعود إلى ظهر مركب من مراكب الهجرة. لقد أجهده البحث عن عمل، و في نهاية المطاف قادته قدماه إلى إحدى ضواحي المدينة، حيث يوجد مستودع الحديد و الأسمنت، يومها دعاه صاحب المستودع إلى نسيان أمر شهادته الجامعية، إن أراد أن يكسب عيشه في هذا المكان، و رغم أن تحميل شكائر الأسمنت، و تفريغ عربات النقل منها، قد أكلا جلد كتفيه و ظهره، إلا إنه لم يمتعض يوما، و لم يجهر بالشكوى. لقد قبل الانحناء للريح، و لكن على ما يبدو أن الريح رأت أن انحنائه ليس كافيا؛ فرغبت في أن يسف مزبدا من التراب، و أن تأكل الأرصفة ما تبقى من نعل حذائه المثقوب؛ فأوحت إلى صاحب المستودع أن يسلمه آخر مستحقاته، و أن يخبره دونما أسف بضرورة ترك عمله الشاق لصالح عامل جديد، هو في الحقيقة أحد أقارب صاحب المستودع. و لما كانت الهجرة طوق نجاة محتملة أو تهلكة مؤجلة، رأى في غمرة شدته أن المغامرة صارت حتمية؛ فراح يبحث عن عمل آخر في كل مكان، و لما أنهكه البحث، اكتشف أنه على مدار أسبوعين مرا، إنما يبحث عن إبرة في كومة قش. و الساعة قادته قدماه إلى الاستراحة في هذا المقهى، ريثما تنكسر موجة الحر؛ ليواصل بعدها التنقيب. تملكته الخواطر، و فجأة أخرجه النادل بصوته الواهن من شروده؛ فانتبه إلى براد الشاي، الذي تصاعدت من فوهته أبخرة تشبه ما تركته الأمنيات المحترقة في قلبه من آثار.
(٤)
طالع بعض الجالسين عناوين الجرائد بأعين ناعسة، و راح آخرون يضربون خشب المناضد بأوراق الدومينو، و مضوا يتحدثون بعصبية مفرطة عن مباراة الأمس، و أخذ الشباب يتصفحون شاشات هواتفهم الذكية، و يهزون أرجلهم بحركات متوالية؛ استجابة لأنغام المهرجانات الزاعقة، بينما امتدت أبصارهم من وقت إلى الآخر إلى الشارع، و راحت أعينهم تأكل مفاتن النساء بنهم، بينما دعا المنتبه منهم الغافل إلى مشاهدة هذه المهرة الشاردة، و تلك الغزالة الظالمة. و لما أثار احتراق الشباب و لهفتهم انتباه الحاضرين، التقط بعض الكهول الخيط، و أسرفوا في الحديث عن أسعار الشقق، و غلاء المهور؛ فمط أحدهم شفتيه، و قص بأسى قصة جاره الذي دخل السجن حديثا بعد أن عجز عن دفع أقساط جهاز ابنته العانس، التي فكت عقدتها بعد أن تخطت الثلاثين.
حملق عجوز في جريدته، و رفع صوته، فجأة، محوقلا، و راح ينعي شبابا ماتوا غرقا في عرض البحر، و ما إن التفت إليه الجالسون، حتى مضى يقول: عادت قوارب الإنقاذ محملة بعشرات الغرقى. نزلت كلمات العجوز علي سمعه، كما ينزل الرصاص المغلي؛ فنظر بطرف عينه إلى الجريدة؛ فرأى صورة التقطتها مصور محترف، على ما يبدو أنه برع في تصوير وجوه الموتى. و دون أن يشعر، وجد جسده يستدير رغما عن أنفه، و وجد عينيه تحدقان في الجريدة؛ إذ خيل إليه أن ذلك الوجه الشاحب الذي حملته الصورة ما هو إلا وجهه، عندئذ انتفض بشدة، و اهتز كوب الشاي بين يديه المرتجفتين، و غامت عيناه بالدموع، و أطلق زفرة حارة، و شعر بأن روحه تفارق جسده، و بأنها تتدحرج على الأرض مثل كرة، استقرت على الرصيف المقابل، بينما أخذت نعال المارة الغليظة تدهسها.
(٥) حاشية
ضغط، دهس. ضغط، دهس؛ صرخت روحه المستباحة بقوة. ضغط، دهس؛ حشر في زاوية. ضغط، دهس؛ اشتهى البكاء المر دون مواربة. ضغط، دهس؛ اشتهى الانفجار. ضغط، دهس؛ صلب على سارية الأنين، و راحت الطير تأكل من رأسه.
(٦)
و كما يهطل المطر-بغتة- على الأرض الميتة، نهض صاحب المقهى بشكل مباغت، و اطفأ جهاز الكاسيت؛ فساد السكون للحظات. عاد الرجل إلى مكتبه، و مد يده إلى مذياع عتيق، كان أمامه، و راح يقلب مؤشره على موجات الأثير. و فجأة، انداح صوت فيروز شاديا ب ( نسم علي الهوا من مفرق الوادي). و ما إن غمر شدوها الحريري المكان، حتى انكسرت موجة الحر الغليظ، و هبت نسائم العصر الطرية، و غسل شلال الغناء المنساب جدران المقهى؛ فتلاشت الصفرة، و عاد الطلاء زاهيا، و سرعان ما غادرت روحه الرصيف، و بمجرد عودتها إليه راح يصغي بكل جوارحه؛ فانقشعت سحب الدخان، و ارتد الجو في عينيه صافيا.
و لما أربكه الغناء، عاد يمشط الأرصفة و الشوارع بقلب مضطرب؛ فرأى وجه فيروز مرسوما على واجهات الأبنية، و خيل إليه أن غناءها الندي، تحول إلى حبات مطر، انهمرت فوق الشارع المزدحم، و لما أسلمته فيروز إلى الحلم و الحنين، استبد به الشوق؛ فحلم ببراح نجعه البعيد، و أطلت أمام عينيه وجوه أهله الحانية، و رتع مليا ببن مرج أخضر، لكنه سرعان ما استفاق على آلام قدميه، اللتين أنهكهما المسير؛ فخفت صوت الغناء شيئا، فشيئا، و رأى نفسه وسط غرقى، يصارعون الموج المسعور، و يتسابقون فيما بينهم للحاق بمركب، ألقى إليهم أطواق النجاة.