وفي الفصل الثالث(ثلاث نساء) نجد الدماء حاضرة صراحة في قول المهدي:" أبي لم يكن يحب الزنادقة ولا يثق بهم، وكان يخشى أن ينشروا الفساد في الأرض فحمى بقتلهم شبابا كثيرين...من أجل الحب والعرش يكون القتل وليس من أجل الحالق...من العجيب أن يكون سفك الدماء ضريبة الحصول على حب الناس( ).
وفي الفصل الرابع(ذات يوم) نجد إشارة إلى الدماء في حديث محمد بن أبي العباس إلى أخته ريطة في عبارة: "الغزوات التي التهمت عشرات الألوف ...نحن نورث الظلم لا غير، لقد باعنا جميعًا...بل حياته جميعًا هي التي بلا معنى، وعلى حساب حياتنا جميعًا( )"، وفي حديث الهادي إلى أمه الخيزران: "أشم رائحة الخيانة...الهروب خاتمة تفتح بدايات أشرس...إن الهادي هو ولي العهد ولن يكون هارون مهما كان الثمن...الحاكم يدوس كل شيء عندما يريد ذلك( ).
وفي الفصل الخامس(المهدي يقول) يسأل المهدي العجوز:
- ماذا تفعل لو أصبحت ملكًا أو خليفة أو حاكمًا؟
- قال على الفور: أمنع الدم، ولا أورث الحكم، وأطرد معاوية كبير الوزراء، وأحاكم ابنه المستهتر( ).
ثم نجد مشهد قتل يكون البطل شاهدًا على عملية قتل، وتحول إلى قاتل، يقول:" وهمست لي نفسي الغاضبة: إن لم أقتله سيقتلني، ومن قتل يقتل. دققت رأسه وبطنه مرات حتى قضى، وأنا أقول: وأنت تستحق...وتدقفت الدماء من فمه البذيء( )".
وتكون قمة حضور الدماء في المونولوج الفلسفي العميق بعد مشهد القتل هذا على لسان المهدي:
"لماذا أرتجف هكذا؟ كأنها أول مرة يلوث الدم نظراتي، بل التصق الدم بعيني وتخلل لعابي. لقد أطحت برؤوس عشرات الآلاف في المعارك وأمرت بقتل الكثير من الزنادقة، ولم يهتز لي جفن، بل كنت أنتشي ويهدر صوتي: الله أكبر...لكن ما أغرب أن نتوج الدم بنداء الله أكبر! ...
الله نور وليس دمًا مسفوحًا، والنور يكشف الدماء، وقد يأسى لها ويبكي عليها( ). وما زال للدماء حضور في هذا الفصل في مشهد وضوء المهدي يقول: "مددت يدي وتوالت دفقات من الإناء، أغلقت عيني وفتحت بشدة: إنه دم يتدفق وليس ماءً( )".
وهكذا توفر للعنوان الرئيس سمتا الجاذبية والعضوية، مع الشعرية؛ فتأتي أهمية العنوان موضوع هذه الرواية من سعيه إلى كسر هيمنة العنوان الحرفي المباشر الاشتمالي، ليؤسس بدلاً منه عنوانًا تلميحيًّا، شاعريًّا.
أما العناوين الفرعية فجاءت ثلاثة وعشرين بعدد فصول الرواية، وهي موجزة مباشرة، وتنوعت بين:
- عنوان مكون من لفظة، في فصلين، هما : (حقي)، و(أحوال).
- عنوان مكون من تركيب إضافي، في أربعة فصول، هي: (ثلاث نساء) (ذات يوم) (صاحب القناع)، (أنياب العشق).
- عنوان مكون من تركيب وصفي، في ثلاثة فصول، هي: (الجانب الآخر)، (أحزان خاصة)، (تغيير وزاري).
- عنوان مكون من تركيب عطفي، في فصل، هو:(أنا وأنا).
- عنوان مكون تركيب إضافي وصفي، في فصل، هو: (يوم عمل مختلف).
- عنوان مكون من شبه جملة، في فصلين، هما : (في القصور)، (في المدينة).
- عنوان مكون من شبه جملة فيها تركيب إضافي، في فصل، هو: (من غبار الحرب).
- عنوان مكون من أسلوب استفهام، في فصل، هو: (هل حان الوقت؟).
- عنوان مكون جملة اسمية، في ثمانية فصول، هي: (الربيع كل الفصول) (المهدي يقول) (المهدي يحكي)، (زينب لا تنسى)، (المقنع يتضخم)، (خالد يرى جيدًا)، (المهدي يقول) (المهدي يحكي).
وإن قراءة فنية لهذه العناوين لتعطينا الدلالات الآتية:
- هيمنة الأسلوب الخبري على الأسلوب الإنشائي، حيث جاء الأسلوب الخبري في اثنين وعشرين عنوانًا، وجاء الأسلوب الإنشائي في عنوان واحد فقط، هو الفصل الحادي عشر معنونًا بــ: (هل حان الوقت؟). وذلك لأن الرواية تاريخية أو شبه تاريخية، فالثبات والعقلانية فيها أكثر من الحركة والعاطفية..
- المباشرة والتقريرية في صياغة العناوين، فليس فيها تصوير أو تخييل، بل كلها تعابير حقيقية واضحة الدلالة.
وذلك الحكم ينطبق على كل فصول الرواية ما عدا الفصل الثاني المعنون بـ(الربيع كل الفصول)، والفصل الأخير المعنون بـ (أنياب العشق)، فالفصل الثاني قائم على توظيف لفظ (الربيع) للتورية به في معنيين: الأول اسم الفصل من فصول السنة، والثاني اسم حاجب المهدي. والدليل على ذلك أن الكاتب افتتح الفصل بهذه العبارة المفتاحية الرامزة لكل أحداث الفصل:
"الربيع يستشعر الخجل؛ لأنه يسلمنا كل عام إلى القيظ، ومما يشفع له أن يخضر الأرض ويعطر الفضاء، ويوقظ البهجة في نفوسنا( )". وهذا أيضًا دور الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة كيسان(111 - 169 هـ = 730 - 786 م)، من موالي بني العباس، أبو الفضل: وزير. وقد أثنى عليه المؤرخون القدامى فقالوا: "من العقلاء الموصوفين بالحزم. اتخذه المنصور العباسيّ حاجبًا ثم استوزره. وكان مهيبًا، محسنًا إدارة الشؤون. عاش إلى خلافة المهدي (العباسي) وحظي عنده، ثم صرفة الهادي عن الوزارة وأقرّه على دواوين الأزمّة، فلم يزل عليها إلى أن توفي( ).
وما عدا عنوان الفصل الأخير (أنياب العشق) الذي تكون من تصوير استعاري كنائي يدل على النهاية المأساوية للبطل/المهدي، الذي جاءته من حيث لا يتوقع، من خلال معشوقته(سلافة). فنال العشق من البطل!
وكذا نال العشق من فاعل هذا النهاية(سلافة) التي فعلت ما فعلت وهي حزينة متألمة، ونادمة!
يقول الكاتب على لسان سلافة: للحظة تمنيت ألا يأكل أو يسقط الطبق على الأرض ويلقى بمحتوياته في سلة المهملات، لقد كان طيبًا معي، وكم داعبني، وضاحكني، وعزف على أوتار جسدي، وأودعني سره وجهره، هل أقفز الآن وأحذرهن وأقول له: إنني حلمت بالكمثرى المسمومة. هل يستحق أن أنقذه من الهلاك.
وأخي ألم يكن يستحق الحياة؟
وأبي ألم يكن جديرًا بالحياة؟
هل دم المهدي أغلى من دم أبي وأخي؟
....كلا يا حبيبي لا تضعها في فمك الذي طالما منحني الحياة.. سقط من عرشه العالي فاهتزت الأرض واهتز الهواء والنجوم... ( )
- غلبة الجملة الاسمية على الجملة الفعلية في صياغة العناوين، وذلك لأن المادة الأدبية المكونة لأحداث الرواية تاريخية غالبًا، ومن ثم ففيها ثبات واستقرار في الرؤى والمشاعر، كما أن معظم أحداث الرواية دائر حول شخصية (الخليفة المهدي) الثابتة المستقرة في فكرها وسلوكها، بسبب التزامها واحتشامها وحضور ضميرها في كل ما تقول وتفعل.
- التمييز بين الفصول المونولوجية والفصول الديالوجية، حيث نجد العناوين: (أنا وأنا)، (المهدي يقول)، (المهدي يحكي)، (زينب لا تنسى). فالبنية الأولى في تشكي هذه الفصول الروائية قائمة على المونولوج أكثر من الديالوج.
- حضور الزمان(الربيع، يوم، الوقت) أو المكان(الجانب، القصور، المدينة) أو الحدث(يقول، يحكي، عمل، الحرب، تنسى، يتضخم، تغيير، العشق) بجلاء في صياغة كثير من العناوين.
- حضور اسم الشخصية في صياغة العناوين في ثمانية فصول، هي: (الربيع كل الفصول) (المهدي يقول) (المهدي يحكي)، (زينب لا تنسى)، (المقنع يتضخم)، (خالد يرى جيدًا)، (المهدي يقول) (المهدي يحكي)؛ فالربيع، والمهدي، وزينب، والمقنع، وخالد شخوص فاعلة، مسيرة للأحداث، كل في فصله الخاص به.
- دلالة عنوان الفصل الأول(أنا وأنا) على البنية الأساسية المحركة للأحداث، وهي تلك الازدواجية في شخصية المهدي بين الأنا الإنسانية الحالمة المثالية والأنا السياسية الطامحة الطامعة الميكافيلية، الأنا الأخلاقية المحتشمة العاقلة الهادئة والأنا الحاكمة الراغبة في استقرار الحكم وبقاء العرش وثبات نظام الحكم، والقضاء على القلائل والمنغصات الداخلية: داخل القصر ومؤسسات الحكم، والأخطار الخارجية مع أعداء الخلافة من الروم وغيرهم. يقول فيه على لسان البطل:" أكاد لا أصدق أنني من اليوم الحاكم المطلق للدولة العباسية، صوتي هو الأول والأعلى في بغداد وسائر المدن، وكلماتي تدق النجوم ويحنو لها القمر، أنا المهدي أمير المؤمنين، نعم أنا هو بشحمه ولحمه( )"؛ ففي هذه الزفرة الذاتية يعلن البطل عن أناه الثانية الحاكمة ذات أعلى منصب سياسي في زمنها..
ثم ينتقل إلى أناه الأخرى المثالية قائلاً: "رحمك الله أبي، أبو جعفر المنصور، كم أدت لي أنني الوارث للخلافة رغم أن ابن عمي محمد بن أبي العباس هو الأحق بها، كم دوت في فضاءات عقلي هذه الكلمة الأحق.. الأحق.. حتى قال أبي ذات مرة: الحق هو القوة، ولا أظن أنني مقتنع بهذه الفكرة، ولهذا وصفوني بأنني طيب وعطوف ورقيق المشاعر( )!
ويحدث الـازم النفسي عند البطل حين يقول: لكنني أحس أنني سارق، فهل أكون شجاعًا وأتخلى عن كرسي الحاكم؟ لقد فعلتها من قبل حين رفضت حكم مصر...هل من العدل أن أقتنص حق غيري في الحكم؟ عموما لا ذنب لي... إنه بداية ملتبسة...شكرًا أبي لهذه المنحة العظيمة والمفخخة أيضًا... ( )