أغرب وأطول فيلم في تاريخ السينما العالمية منذ نشأتها لأن مدته الإجمالية هي ( 7 ساعات كاملة ) الفيلم المجري المهم ( تانجو الشيطان – Satantango 1994 ) ومن ثم يتم اعتبار هذا الفيلم الذي أخرجه العبقري “Bela Tarr – بيللا تار” أحد أهم الأعمال غير العادية للفن المعاصر عموما ولفن السينما بشكل خاص حيث يتطلب من الجمهور التزامًا مركّزًا ورفاهية في الوقت.
وهذا الفيلم يستند إلى رواية ” Satantango” للروائي الهنغاري (László Krasznahorkai) الذي كان يزود مخرج الفيلم “بيللا تار” بالقصص منذ فيلم 1988 بعنوان Damnation . وقد أراد “تار” صنع هذا الفيلم الذي يحكي عن طبيعة المجتمع المجري تحت استبداد النظام منذ عام 1985 لكنه لم يتمكن بسبب البيئة السياسية الصارمة في المجر أبان الحكم الشيوعي. وحين استطاع عام 1994 إنتاج وعرض الفيلم لاقى استحسانًا واسعًا من نقاد الأفلام ، واعتبروه واحداً من أعظم الأفلام على الإطلاق . وفي عام 2012، بمعهد الفيلم البريطاني حاز على جائزة أحسن تصوير وأحسن صوت من بين 50 فيلما عالمياً، كما حاز وشارك على جوائز ومهرجانات مثل:
= مهرجان برلين السينمائي الدولي.
= جائزة كاليغاري السينمائية.
= جائزة مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي.
= جائزة مهرجان تورونتو السينمائي الدولي.
= جائزة مهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي.
يقول الناقد مهند الجندي عن رامزي تايلر فيقول:
يستهل (تانغو الشيطان) مجرياته بلقطة افتتاحية مهولة: نحن في مجتمع زراعي ريفي دائم التعرض للفيضانات، تعمد لقطة واحدة على مراقبة مجموعة من الأبقار لحظة خروجهم من حظيرة مخزن، بعضها يحوم في المكان، ترعى نفسها دون راعي، بينما تندفع الأخريات بالتقرب من بعضها البعض. ثم يروح القطيع كله بالتنقل بين المنازل والحظائر، وصولاً إلى نهاية تفرق بينهم وتعلو رويداً رويداً صوب الأفق. إن هذا الإنجاز الوصفي يشكل هجاءً صارخاً غريباً وسوداوياً، لأن أبقار الرعاة قد تمكنت في هذه الدقائق الافتتاحية القليلة من التنقل بحرية، ولها أن تغادر المكان إن شاءت ذلك. بيد أن خيار الحرية هذا تحديداً هو الذي تفتقر له كافة شخصيات الفيلم البشرية.
يهطل المطر بشكل دائم على المكان (والتصوير يكاد يجعلنا نلمس قطراته)، ويبدو أن تار يريد ربطه مع الفقر، وكلاهما يوظفان كمصدر وباء لا يزول. تدبر معظم شخصيات الفيلم الرئيسة خطةً لسرقة مبلغ من المال كانوا قد وعدوا به، ليتم تقسمته على كل مزارع منهم. غير أن إمكانية اكتساب المال وبالتالي إمكانية الهرب تستثير الجشع والغش والخيانة في نفوسهم. فيعمد الثنائي فوتاكي (ميكلوس سيكلي بي.) والسيدة شميث (إيفا ألماسي ألبيرت) بعد ممارسهما الجنس مباشرة على البدء التخطيط لحبكة حاذقة، ويقاطعهما السيد شميث (لازلو لوغوسي)، وهو متأمر آخر يكشف عن خطته دون عمله أن فوتاوكي مختبئة في نفس المكان. الخطيئة الواحدة تلد أخرى، والخداع يربط بين جلّ الشخصيات في ضواحي هذا المجتمع بأسره، فتؤدي رذائلهم الشخصية هذه بمنعهم من مغادرة المكان. من الواضح أن هؤلاء المزارعين لا يشعرون بالانتماء لماشيتهم، وهي استعارة مماثلة لتلك المجازية الرابطة بين الطقس والفقر.
يتعمد تار بربط مراحل فيلمه كخيوط “شبكة العنكبوت”، وهي التسمية المختارة لفقرتين من فقرات الفيلم. إن الشخصيات في الفيلم مرتبة على هيئة مجسم هرمي من أحجار حب السيطرة وطينة الخيانة؛ كأنه فخ لا يمكن أن تختبئ فيه حتى أكثر الأسرار تآمراً دون أن تترك أثراً مدوياً. الشخص الذي يحيك هذه الشبكة هي الشابة إستيكي (إريكا بوك) التي قام شقيقها بتجريدها من مدخراتها المعدودة، وهي الآن تشعر بالضيق لخسارتها هذه. فتنقض بيديها على قط أليف وترعبه وتقوم أخيراً بإقحام رأسه في زبدية من الحليب المسمم (تقضي ساعاتها الأخيرة وهي لا تزال تحت تأثير قوتها العنيفة بجوار جثة القط المتيبسة المربوطةَ بحبل)، قبل أن توقع نفسها بعقوبة مماثلة. وعليه فإن الخيانة تجبر أكثر المتآمرين انحطاطاً أن يدفعوا الثمن غالياً جزاء أفعالهم. المأساة تصيب كل واحد فيهم.
الفيلم برمته مُحاك بفقراته عبر استخدام لقطات مطولة مما يعزو إحدى الأسباب الرئيسية لمدة عرض الفيلم الاستثنائية “450 دقيقة تقريباً”. وهذا التقنية التصويرية البصرية تبين نوايا الفيلم وقضاياه، وثمة وقائع عديدة تمثل هذا الأسلوب البصري، وتأثيرها تقشعر له الأبدان: كبزوغ الشمس أكثر من مرة في نفس وقت؛ أشياء تتقدم نحو اتساع الأفق ومن ثم تختفي؛ لقطات مقربة تتبع رؤوس ماشية تتحرك بشكل عامودي دون توقف داخل الصورة وخارجها. جميع هذه الأمور مصورة بصبر شديد ومتحجر مما يوضح ضجر هذا المجتمع المحروم من الحياة.
لقد تم تركيب (تانغو الشيطان) بترتيب متواتر يُحاكي النغمات المتوازية لرقصة التانغو. تسبق أو تتبع الفقرات بعضها بطريقة متشابكة لكن بوجهات نظر مختلفة، وفقرات تخلو من أحداث فعلية (كالمشهد الطويل الذي تجتمع به بالشخصيات في الرقصة المزعومة) لتكون مكملة للفقرة التي سبقتها أو اللاحقة لها. فالمفارقة تكمن بأن المشاهد يعرف تدريجياً عن كل خيانة وأكذوبة وخدعة في مجتمع يفترض أن يكون قواماً على الوفاء.
قُسم الفيلم إلى 12 مقطعاً، وبعضها تم تكريسه ليجسد مواضيع الفيلم الدلالية حول قضية اليأس. ففي مقطع مجازي يناقض عنف إستيك البائس، نشاهد طبيباً محلياً يتلصص ويسجل أفعال جيرانه عبر نافذته، يتلعثم في كل مشاهده وهو في حالة من هذيان دائم ناجم عن شرب الفودكا. إنه بنفس الفقر والبؤس الذي تعاني منه كافة الشخصيات، بيد أن سلوكه يتسم بالسخرية في فيلمٍ يغلب عليه الطابع المأساوي. و(تانغو الشيطان) عبارة عن مجموعة من الأحداث الموجعة والمتناقضة أيضاً. والجمع النهائي لهذه المواضيع المختلفة مع بعضها هو الذي يمدنا بالمفارقة التي يقوم عليها الفيلم: عمل مأساوي هجائي يثير العاطفة ويتطرق لموضوع الفساد الأخلاقي في آن واحد، وهي الخصلة السياسية الماكرة الغامضة التي يستخدمها الفيلم ليصف حال السينما المجرية، وبالتالي بضرب عصفوري إبراز خمول الفن المجري والتعبير عن قدرتها المميزة بحجر واحد.
ويقول الناقد الأميريكي بريان ويليسكو في مقال له بمركز دراسات الأفلام بجامعة شيكاغو:
ملحمة المخرج Béla Tarr المتغيرة والمعبرة عن الحالة الإنسانية الساكنة ليست أقل من عمل عظيم من صانع أفلام عظيم. أمتد لأول مرة في تاريخ السينما لأكثر من سبع ساعات.
لاشك أن فيلمSÁTNTANGÓ هو حدث سينمائي لا يزال يحطمنا، ويدهشنا حتى بعد صدوره منذ سبعة عشر عامًا من إطلاقه فالمخرج يمزج في الفيلم بين الرمزي والواقع القمعي في بناء محكم بتصويره لمجموعة زراعية منعزلة حيث يتعامل سكانها البائسون مع اليأس. ويستخدم Tarr فترات طويلة للغاية ، يتم تنظيمها بدقة وتصميمها ، لإخبار وإعادة سرد أحداث يومين من التهدئة وخريف ممطر من وجهات نظر الشخصيات المختلفة. إن إعداد الفيلم لاشك كان مضنياً كما تتيح كاميرا Tarr المحمولة تكوينات هزيلة ومتغيرة تخلق لوحات حية غنية ومخيفة، كما إن تأثيره الصوتي الدقيق بعد المزامنة للأصوات الرنانة والأرضيات الصاخبة ومواء القطة المعذبة له تأثير لا مفر منه في رسم المشاهد في عمق الواقع. ويستحضر الفيلم إحساسًا بالخوف الذي يذكرنا بموتنا ، على الرغم من وجود سلالة من الدعابة والفكاهة وإن كانت مشوشة وخفية ولكنها مرنة ومحسوسة.
طاقم العمل والطاقم:
إخراج : بيلا تار
تمثيل: جون ديرزسي – الكرواتي ة بواتي – مايكل فيغ – نيكولاس ب. زيكلر – أفيسلا بوزفين – إرزسبيت غال .