ونحن بصدد التفاعل النخبوي والسياسي الوطني للمشاركة في حوار وطني تم إطلاق صافرة البداية بتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي لانطلاق فعالياته، وهو ما أراه سبيلنا الطيب لمعالجة حالات ضيق الأفق الثقافي، بعد أن بات البعض منا يركز على الجزئيات والتفاصيل الصغيرة وغض النظر عن سياقها الأوسع والأشمل والأغنى.
بناء عليه، لا يمكن أن نؤسس لبناء وعي ثقافي جديد بالاكتفاء بتفعيل سلطة العقل والنبل الإنساني وقيمة التسامح بالدعوات والصلوات والمواعظ الحسنة، حيث يتطلب الأمر إحداث تغيرات جوهرية على أرضية الواقع الاجتماعي والاقتصادي وتشكيلاته العلائقية، وفي طبيعة العلاقات السياسية بين الحاكم والمحكوم وبين المجتمعات والدول، مع عدم إنكار ما للتطور الفكري ونضج الثقافة المنتجة من أدوار في هذا المجال.
لقد أصاب الدكتور جمال حمدان في رؤيته عندما قال: إن الشعب المصري هو من أكثر الشعوب تجانسًا ووحدة في الأصول الجنسية والتكوين البشري وأقربها إلى فكرة الأمة المثالية. فالمسلمون والأقباط كما قال وأكد ذلك مفكرنا الكبير عباس محمود العقاد، هم سواء في تكوين السلالة القومية، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك عند الانتساب إلى هذه البلاد، فوحدة الجنس والأصل أقدم من كل دين، بل إن عميد الاحتلال الانجليزي في مصر، اللورد كرومر، قال في كتابه "مصر الحديثة" إن "خبرتي الخاصة بالمصريين تجعلني أقرر أن الفرق الوحيد بين القبطي والمسلم هو أن الأول يعبد الله في كنيسة، في حين أن الآخر يعبد الله في مسجد".
وهناك قصة طريفة قد تشير بشكل ما إلى المعاناة من ضيق الأفق الثقاقي، ومن ثم تراجع الوعي السياسي، وهي في الوقت نفسه سردية واقعية عميقة في معناها ومغزاها، يرويها لنا أستاذنا الجليل الراحل الدكتور شوقي ضيف في كتابه الجميل "معي" الذي سجل فيه سيرته الذاتية.وقد وقعت هذه القصة نحو سنة 1930، أي بعد وفاة سعد زغلول بثلاث سنوات، فقد توفى الزعيم سنة 1927.يقول الدكتور شوقي ضيف: "سألت امرأة ريفية زوجها بعد أن عاد من الانتخابات .. انتخبت سعد زغلول أم عدلي يكن؟ وكأنما كان قد استقر في أذهان بعض أهل القرى الريفية بأن من يذهب إلى الانتخابات إما أن ينتخب سعد زغلول برغم وفاته، وإما أن ينتخب عدلي برغم اعتزاله للعمل السياسي، وأجاب الرجل زوجته مازحًا أو غير مازح: انتخبت عدلي، وفوجئ الزوج بزوجته تستر وجهها من دونه وتقول له: لقد أصبحت محرمة عليك ولم تعد زوجي، وعبثًا حاول الزوج أن يصحح لزوجته القروية فكرتها، فقد ظلت تجادله طويلاً معتقدة أنها أصبحت مطلقة ومحرمة عليه، ولما أعياه إقناعها خرج فبحث عن مأذون القرية حتى وجده وأتاها به، فأقنعها بخطئها وخطأ ما ظنته من مفارقة زوجها لدينه".
ويعلق الدكتور شوقي ضيف على هذه الواقعة التي حدثت في قريته فيقول "لعل في ذلك ما يصور من بعض الوجوه كيف أن الانتماء لسعد زغلول قد تحول في نفوس بعض أهالي الريف البسطاء حتى ظن بعضهم أن هذا الانتماء هو جزء من الدين الحنيف على نحو ما ظنت تلك المرأة الريفية الساذجة".
منذ قرن من الزمان ذكر أحمد لطفي السيد كان يذكر" إن العامل البسيط فى لندن يعرف من خطب الوزراء والنواب طرفاً أو نتفاً من قواعد مصالح الأمة، التى هى مصلحته الشخصية "، وفى عام 1913م رشح لطفى السيد نفسه لمجلس النواب فى مركز السنبلاوين- محافظة الدقهلية، ودعا فى خطبه إلى الديمقراطية، واستغل مُنافِسه جهل الناخبين، فزعم لهم أن الديمقراطية معناها أن تتزوج المرأة أربعة رجال، كما يتزوج الرجل أربع نساء!، وعندما سألوا لطفى السيد: هل ينادى حقاً بالديمقراطية؟، أكد ذلك، دون أن يشرح لهم المعنى الحقيقى للديمقراطية، فظنوا أن ما قاله خصمه صحيح، وأسقطوه فى الانتخابات.
إن الحفاظ على الهوية الثقافية للمواطن المصري الذي عملت قوى الشر منذ أكثر من 80عاما على تغييرها، بل ومحوها هو لب عملية التربية بمعناها العام، حيث تعني التربية في الأساس بنقل ثقافة المجتمع، أي هويته، إلى الأجيال الجديدة، بما في ذلك خصائص النمط الثقافي -إضافة إلى ذلك، فمن المحاور الأساسية للتربية السياسية التقليدية والتربية المدنية دعم الهوية أو الانتماء الثقافي، باعتبارهما الشعور بالارتباط بالجماعة السياسية وتمثل أهدافها والفخر بالانتماء لها والإشارة الدائمة إلى هذا الانتماء، خاصة في لحظات الخطر، وغرس مفهوم الوطن والولاء له والإخلاص للأمة والتفاني في خدمتها.
بالمناسبة، أتذكر، عندما أعرب بعض المصريين عن غضبه بعد غناء مطربنا الوطني الرائع "على الحجار" أغنيته الشهيرة التي تفضح حالة عدم انتماء كتائب الشر أعضاء خلايا الإخوان وغيرها من جماعات الخراب الفاعلة والنائمة والمتوثبة والخادعة للوطن، بكلمات الشاعر الجميل جمال بخيت "انتوا شعب واحنا شعب".
أتذكر حالة الجدل حول تلك الأغنية وكيف قيل في حينها إنها تهدد مبادئ المواطنة وحالة السلام الاجتماعي، رغم ما كان قد أدلى به من تصريحات مرشد الإخوان التي أيد فيها فرض جزية على الأقباط ومنعهم من الانخراط في العمل في المؤسسات العسكرية للشك في ولائهم للدولة، حال اصطدامها بأعدائها من غير المسلمين، الأمر الذي يعد ضربًا في الصميم لمفهوم المواطنة الذي يتمتع بموجبه الفرد بكل الحقوق ويتحمل كافة الالتزامات التي تتضمنها مواثيق وقوانين المجتمع.
بناء عليه، كانت ردود الأفعال الهائلة المتوقعة، سواء الرسمية أو غير الرسمية، على تصريحات المرشد من جانب أهل الفكر والرأي في حينها، كاشفة عن تقدير ويقظة لخطورة النيل من مكونات وأسس الوحدة الوطنية المصرية، حيث أكدت وجود التباس وضيق أفق سياسي في رؤية وتفهم أبعاد المواطنة الكاملة للأقباط وفق التشبث بمفاهيم قديمة لا تعبر عن الخصوصية المصرية.
إن الثقافة الفاعلة القوية هي تلك التي تسيطر على الثقافات ضيقة الأفق، وإن ما يحدث من استيعاب ثقافة قوية لأخرى ضعيفة يعد أمرًا منطقيًا، حيث تزداد سيطرة الأولى بما تملكه من معرفة وتكنولوجيا تؤثر في عقول الآخرين.