قد يوحي عنوان هذا الكتاب "الخيانة العظمى" منذ أول تناول للعتبة الخارجية على واجهة الغلاف بآفاق انتظار قد تشبه توقعات قارئ من رواية أو مسرحية أو ملحمة أو نص تاريخي؛ نص درامي يؤثث قلب تراجيديا (مأساة) بحيثيات ودوافع ومبررات وأساليب "خيانة" نُعِتَت بـ"العظمى"؛ لكن بمجرد قراءة العنوان الفرعي ("أشعار التوراة وجذورها العربية القديمة/ مقاربة نقدية جديدة بين ترجمات الربيعي والنصوص التوراتية الرسمية") يتضح أن الكتاب بحث أكاديمي يؤسس لمشروع رؤية نقدية تطبيقية جديدة من بين أهداف محاورها إعادة ٍ"استنطاق" الخطاب اللاهوتي العبري في حلته الأدبية/ الشعرية من منظور إبستيمولوجي يسائل ينابيع النشأة ومصادرها، وإشكالات الترجمة وتشعبات التأويل. وحتى تتضح للقارئ منهجية المقاربة النقدية، يقترح صاحب الكتاب الأستاذ الباحث داود سلمان الشويلي "عتبة داخلية" على شكل "فهرس" (ص. 5) من أربعة أقسام؛ تَمَّ تبويب كل "قسم" بـ"فصول"؛ يُشكِّل كل فصل منها "مبحثا" يتناول إحدى جزئيات الإشكالية العامة لتكون في شكل "علامات" قابلة للتأويل. وقد خصص الباحث داود سلمان الشويلي كل "قسم " لدراسة نقدية تطبيقية في نموذج/ نص/ متن شعري معتبرا الحمولة الدلالية للخطاب الأدبي/ الديني المنصوص عليه في النموذج/ العيِّنة النصية بمثابة "حدث" مشكوك في أمره من منطوق/ منطق العلاقة المرجعية أو الإطار المرجعي، واختلاف الترجمات للنص الواحد.
قصيدة "عاموس" (الجزء الأول)، و "نشيد بارق ودبورة النبية" (الجزء الثاني)، و"قصيدة القصائد التي لسلمة/ سلمى" (الجزء الثالث) هي نماذج من نصوص شعرية في الأصل، لكنه "شعر وُلِد في المعبد" كما يقول الدكتور فاضل الربيعي، لذا ارتبط بمقولة "النبوءة"، كما بالغناء والموسيقى على شكل "تراتيل"، و"أناشيد"، و"أمداح"، و"ابتهالات"... هنا تكمن المفارقة/ الإشكالية في تمظهرين متوازيين متنافرين :
أ ـ يتم التعامل مع هذه النصوص كخطاب ديني "يُشَرْعِنُ" مصداقيته وقدسيته وسلطته من انتمائه لمرجعية غيبية لاهوتية؛ كونه كلام الرب، أو أحد الأنبياء... أي كمسلمات دغمائية لا تقبل "التحريف"، ولا "التأويل"، ولا "التشكيك" بمنطق "لا اجتهاد مع وجود النص"....
ب ـ كما تتمّ قراءتها (هذه النصوص) باعتبارها من وحي الخيال (من بين وظائفها خدمة المعبد) وهذا ما يشير إليه الباحث داود سلمان الشويلي بالتصريح المباشر في إحدى فقرات مقدمة هذا الكتاب حيث نقرأ: "نحن لا نجانب الصواب عندما نقول إن الشعر ابتدأ غنائيا، خطابيا، تتحكم به العاطفة، ويقوده الخيال، فوُلد المدح، والغزل، والفخر، والرثاء، والوصف، ثم هجاء أعداء الآلهة، وكل ما تحتاجه الآلهة في المعبد حسب تصور القائم بالعبادة.." (ص5 (لكن، ما علاقة هذه المفارقة بعنوان الكتاب: "الخيانة العظمى" خصوصا وأن توصيف "الخيانة" بـ "العظمى" غالبا ما يحيل على مرجعية سياسية كـ "خيانة الوطن"، أو النظام الحاكم... كيفما كانت مرجعية قراءة هذه النصوص (دينية محضة، أو أدبية/ جمالية) فهي تصطدم حسب منظور صاحب هذا الكتاب بمعضلة الترجمة؛ فالأمر لا يتوقف عند ترجمة من العبرية إلى لغات أخرى ومنها العربية، بل يكمن حسب المُؤلَف في التحولات التي عرفتها اللغة الأصلية للنصوص (العبرية) جغرافيا، وتاريخيا، وعرقيا. إضافة إلى كون شروط "جمالية تلقي" النصوص الشعرية زمكانيا تخضع غالبا لأنماط العيش المتحكمة في وجدان الفرد ومعتقداته وشبكة علاقاته الاجتماعية لذا (كما عبرت عن ذلك الأستاذة الباحثة عائشة الدرمكي من عمان) "فإن الخطاب سنجده مختزلا في النصوص الأدبية على أنواعها وأشكالها المتعددة التي تحرص على أن تستقي خطاباتها من المجتمع ومؤسساته التي تتولى مهمة إعداد شروط إنتاجه وتداوله، لتقوم هذه النصوص بعد ذك بمهمة توظيف هذه الخطابات في مجتمع جديد تمثله سياقات النص وعلاماته ورموزه." (عن مجلة "الراوي" العدد 30 ص. 10( وهنا تكمن معضلة الترجمة التي يعتبرها القول المأثور الإيطالي "خيانة" (tradurre è tradire = الترجمة خيانة)؛ وهي الخلاصة التي وصل إليها الباحث داود سلمان الشويلي في هذا الكتاب بعد قراءته لنماذج النصوص العبرية المختارة ومقارنة مختلف ترجماتها؛ نقرأ صفحة 138 من هذا الكتاب: " كل الترجمات يمكن أن نصفها بالخيانة، بل هي مثل فقدان الوجه لذلك النص المترجم، لاختلاف ما يتصل باللغة في كل شيء، في ألفاظ المجاز، وفي الصرف، وفي بناء الجملة، وغير ذلك من الأمور اللغوية الأخرى. وكذلك خيانة في الفكر الذي تحمله تلك اللغة.."
ويتضح لنا كقراء أن موضوع هذا الكتاب القيِّم لم يطرح إشكالية مدى وفاء الترجمات للنصوص الدينية والأدبية كغاية لذاتها، بل اختياره لمتون على شكل نماذج من أشعار التوراة ذات جذور عربية قديمة جاء لفضح "مؤامرة صهيونية" مقصودة يقول عنها في خاتمة الكتاب (ص. 285: "بعد هذه القراءة الفاحصة لقصيدة "نبوءة عاموس"، ولنشيد بارق ودبورة،، ولنشيد الإنشاد، كما وردت في التوراة الورقية، والإلكترونية، وكما ترجمها من الأصل العبري الدكتور فاضل الربيعي، يحق لي القول: إن الترجمة الرسمية لسرديات التوراة، والقصائد هذه من ضمنها، هي ترجمة تتحرك بدوافع لاهوتية، استشراقية، ذات خلفية مغرضة، استعمارية، يراد منها التصديق في أن وعد الله لإبراهيم (!!!) له ولأحفاده بأرض فلسطين..." ولأهمية هذا الكتاب (إصدار 2022 في طبعته الأولى – من دار الرافدين) من حيث اختيار مادة البحث، ومنهجية المقاربة النقدية، والخلاصات القيمة، قمت بهذا التقديم وكلي أمل أن يحظى هذا العمل المتميز للأستاذ الباحث والأديب العراقي الكبير صديقي داود سلمان الشويلي باهتمام جمهور القراء عربيا ودوليا.